مهن نبيلة لا يعرف الكثير أسرارها تعتبر هذه المهن التي تدور في فلك الموت من المهن الغريبة على الأشخاص العاديين، غير أنها عادية لأصحابها وممتهنيها، على اعتبار أن زبائنهم مسالمون جامدون، لا يسألون عن الثمن، ولا يجادلون على جودة الخدمة؛ وقد كان اختيار ”الخبر” لهذه المهن دون غيرها لما فيها من تشويق وغموض، ولجهل المجتمع لممتهني هذه الأعمال وحبهم وتمسكهم بها، بالرغم من ارتباطها بما يخافه معظم الناس وهو الموت. الطبيب الشرعي وغسّال الموتى.. من هنا تبدأ رحلة الأموات إلى العالم الآخر، حيث يعتبر الطبيب الشرعي أو الملاك الأبيض نسبة لمئزره الأبيض في عالم الأموات، لا ينفك ينتقّل بين الجثث بقلب بارد، برودة ”لامورغ”، يتعامل مع الموتى كحقيقة يومية دون أي شعور بالخوف، بل يتعامل مع الجثث بالحيادية في التصرف والاحترافية. فيما تعد مهنة تغسيل الموتى من الأعمال الجليلة التي تنم عن إحساس بالوعي والضمير الحي، حيث يهدف أصحابها إلى نيل الأجر والحسنات، وأن هذه المهنة من المهن الشريفة والعظيمة معا، على الرغم من نظرة البعض ”الظالمة” اتجاهها والثقافة السلبية تجاه من يمتهنها، حيث يصل الأمر في بعض الأحيان إلى مرحلة الخوف الشديد أو الفوبيا من التعامل معهم أو حتى الاحتكاك بهم، دون مراعاة لحديث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ”..من غسل ميتا فأدى فيه الأمانة، كان له بكل شعرة منه عتق رقبة، ورفع له به مائة درجة”. شاهد من أهلها بوذراع الجمعي: 25 عاما في عالم الموتى ”ما يقال عن سماع الأصوات ليلا كذب وافتراء” واصلنا البحث عن حارس مقبرة يقبل بإجراء حديث معنا حول عمله، وهو ما وجدناه بتنقلنا إلى مدينة بريكة 90 كلم عن ولاية باتنة، لتصل بنا الرحلة إلى مقبرة ”مرابط الصالح” التي تعود إلى سنة 1890 للوقوف على ظروف الحارس في العمل بها. تجوّلنا بين قبورها لفترة من الزمن، ووقفنا على حالتها المزرية في ظل الإهمال الذي وجدناه من انتشار لقارورات الخمر والقمامة والأعشاب الضارة التي ملأت المكان. اقتربنا من حارسها واستأذناه بالحديث، رفض بداية ولكن سرعان ما أقنعناه، مقابل أن لا نلتقط صورة قريبة لوجهه، وهو ما احترمناه في شخصه. عمي ”الجمعي”، 60 سنة وأب لخمسة أطفال، أكبرهم يبلغ 25 عاما، أخبرنا أنه بدأ هذا العمل منذ ما يقارب ال25 سنة، ولكونه يقطن بمسكن قريب من المقبرة ساعده ذلك، غير أنه اشتكى من اهتراء المسكن كونه ترابي وآيل للسقوط. مناشدا السلطات المحلية، وعلى مختلف مستوياتها، التكفل بانشغاله، وأنه موازاة مع عمله في حراسة المقبرة فإنه يقوم بحفر القبور على طول مترين وعرض 45 سنتمترا وعمق 80 سنتمترا. وعن الأقاويل التي تدور بين العامة حول صدور أصوات وسماع تحركات غريبة في المقابر ليلا فقد أنكر الأمر، وأكد أنه طيلة عمله في هذه المهنة، التي لا يتقاضى منها سوى أجرا بسيطا جدا، لم يسمع شيئا. جيران المقابر من البراعم أثناء تواجدنا بالمقبرة أثار انتباهنا تواجد أطفال صغار يلعبون على سورها، ما دفعنا إلى التقرب منهم وسؤالهم حول خوفهم من عدمه من المقبرة، خاصة وأنه اتضح لنا أنهم يقطنون بمحاذاتها، الطفل الأول كان يدعى ”أيوب. ي«، 7 سنوات' والثاني ”أنيس.ع”، 6 سنوات. أيوب حدثنا عن عدم خوفه من المقبرة حتى ليلا لأنه ولد وتربى بجوارها، وأن كل قبر به إنسان مدفون فيه لا غير، مبديا انزعاجه من الحارس الذي قال عنه إنه يحرمهم من اللعب داخل المقبرة وبين القبور، فيما قال لنا أنيس إن ”الإنسان عندما يموت يوضع في القبر ويتحوّل إلى هيكل عظمي ليذهب بعدها إلى الجنة”.. لنودّع بعدها البرعمين ونغادر المقبرة.. بورتري سواكري النوي.. تجربة 31 سنة في مهنة تغسيل الموتى ”أشعر بالطمأنينة مع الجثث.. وخوفي من الأحياء لا من الأموات” قاربت الساعة الواحدة زوالا عندما التقت ”الخبر” بأحد أقدم وأهم غسالي الموتى بمدينة نڤاوس، 90 كلم عن عاصمة الولاية باتنة، بعدما تهرّب ورفض العديد في عدد من البلديات التحدث معنا، غير أنه وبعد جهد وسعي حثيث منا استطعنا وبمساعدة أحد المواطنين التوسط لدى السيد سواكري حليم المدعو ”حليم” صاحب 49 عاما، أب لأربعة أطفال ذكور، والذي رحّب بنا بابتسامة عريضة لم تفارقه طيلة اللقاء ووثوق من نفسه. بدأ مشوار عمل ”حليم” في مهنة غسل الموتى منذ 31 سنة، عمل خلالها 12 سنة كرئيس لمصلحة الاستعجالات الطبية و14 سنة كمراقب عام، ليحبّذ الاستقرار في مصلحة حفظ الجثث بمستشفى نڤاوس، حيث أطلعنا على حبه للمهنة التي قال عنها إنه لم يخف يوما خلال قيامه بتغسيل الموتى، كما أنه قام بتغسيل عمه دون أي شعور بالخوف، مضيفا أن خوفه ليس من الموتى وإنما من الأحياء الذين يستطيعون إيذاءك، وأنه وجد ضالته في هذا العمل لأن ذلك كان رغبته منذ الصغر، وكذلك لقضاء آخر سنواته قبل التقاعد في هذه المصلحة، وأن عمله مصدر طمأنينة وراحة. وواصل حديثه ل«الخبر” بالقول بأنه ولشدة حبه للمهنة منذ الصغر قام بزيارة جدته المتوفاة بالمقبرة على الساعة الثانية ليلا، وكان عمره آنذاك 12 سنة، دون أن يشعر بالخوف، كونها هي من ربته ورعته خلال سنواته الأولى، مستكملا حديثه أنه اشتغل في العشرية السوداء كمتطوع مع عناصر الجيش للتنقل للجبال وجمع الجثث أثناء وقوع اشتباكات بين عناصر الجيش والمجموعات الإرهابية. المقبرة.. الرحلة الأخيرة للعالم الآخر تتواصل رحلة الميت لتصل إلى القبر الذي لا يبعد عن سطح الأرض سوى متر أو أقل، داخل المقبرة التي يتخللها صمت رهيب يخيم عليها، وأنفاس مكتومة ومئات من القبور المتزاحمة ورائحة الموت في سمائها ولا صوت يعلو فوق ضربات حفار القبور لوضع الجثث، فلا مكان للتفاوت الطبقي تحت الأرض بحيث يستوي فيها الغني والفقير، القوي والضعيف، الصغير والكبير، الجميل والقبيح. غير أن مهنة حفار القبور وحارسها مثلها مثل المهن المرتبطة بعالم الأموات، مرفوضة اجتماعيا وتسبب لهم نفورا يؤذيهم نفسيا، حيث يراها البعض نذير شؤم، ويتجنبون الحديث والتواصل مع ممتهنيها، ولا يقبلون حتى تناول الأكل أو الجلوس معهم ومخالطتهم، حيث يرمقهم البعض أحيانا بازدراء وأقل مرتبة في المجتمع. بالمقابل تناول أدباء وكتاب عالميون شخصية حفار القبور وحراسها في مؤلفاتهم، على غرار جبران خليل جبران والكاتب الإسباني ”خوسيه مونسيرت”، وغيرهم كثيرون ممن أعطوا هذه المهن حقها في كتاباتهم.