في عمليات عبر النواحي العسكرية من 18 إلى 23 أبريل الجاري: إحباط محاولات إدخال 78 كيلوغراما كيف قادمة من المغرب    سفير مملكة ليسوتو يثمن مساعدة الجزائر لدعم جهود التنمية في بلاده    أبو عيطة وعقب استقباله من قبل رئيس الجمهورية،عبد المجيد تبون: فلسطين ستنال عضويتها الكاملة في الأمم المتحدة بفضل إصرار الجزائر    دراسة مشاريع نصوص قانونية والاستماع الى عروض عدة قطاعات    أشرف عليه عبد الرشيد طبي: تدشين مجلس قضائي جديد في تبسة    الجزائر-تونس-ليبيا : التوقيع على اتفاقية إنشاء آلية تشاور لإدارة المياه الجوفية المشتركة    نقل جثامين الجزائريين المتوفين بالخارج.. توضيح وزارة الشؤون الخارجية    قسنطينة: تدشين مصنع لقطع غيار السيارات ووحدة لإنتاج البطاريات    بروتوكول تفاهم مع الشركة العمانية للطاقة    البنك الوطني الجزائري: أكثر من 12 مليار دج كتمويلات و35 مليار دج ودائع الصيرفة الإسلامية    الفريق أول السعيد شنقريحة يشرف على تنفيذ تمرين تكتيكي بالناحية العسكرية الثالثة    29 جريا خلال 24 ساعة الأخيرة نتيجة للسرعة والتهور    وهران.. ترحيل أزيد من 880 عائلة برأس العين    عنابة: مفتشون من وزارة الري يتابعون وضع بالقطاع    شركة طاسيلي للعمل الجوي: تسخير 12 طائرة تحسبا لحملة مكافحة الحرائق لسنة 2024    "عودة مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي تعكس الإرادة الجزائرية لبعث وتطوير السينما"    الصّهاينة يواصلون جرائمهم بالقطاع وعمليات إخلاء بالشمال    "العفو الدولية": إسرائيل ترتكب "جرائم حرب" في غزة بذخائر أمريكية    البوليساريو تدعو مجلس الامن مجددا الى اتخاذ إجراءات عاجلة لتمكين الشعب الصحراوي من حقه في تقرير المصير    فلسطين: ترحيب بقرار حكومتي جامايكا وباربادوس الاعتراف بالدولة الفلسطينية    الجزائر/تونس: الاتفاق على تنظيم يوم إعلامي حول الصيد البحري لفائدة المستثمرين من البلدين    فتح صناديق كتب الشيخ العلامة عبد الحميد بن باديس الموقوفة على جامع الجزائر    وزير التربية انتقل إلى عين المكان والعدالة فتحت تحقيقا: إصابة 6 تلاميذ في انهيار سقف بمدرسة في وهران    عطاف يستقبل رئيس مجلس العموم الكندي    إهمال الأولياء يفشل 90 بالمائة من الأبناء    نصف نهائي كأس الجمهورية: اتحاد الجزائر – شباب بلوزداد ( اليوم سا 21.00 )    غائب دون مُبرر: إدارة لاصام مستاءة من بلحضري    مدرب اتحاد الشاوية السعيد بلعريبي للنصر    وزير الخارجية أحمد عطاف يصرح: الوضع المأساوي في غزة سيبقى على رأس أولويات الجزائر    فيما وضع حجز الأساس لإنجاز أخرى: وزير الطاقة يدشن مشاريع ببسكرة    وزير الداخلية يكشف: تخصيص أزيد من 130 مليار دينار لتهيئة المناطق الصناعية    برنامج استثماري لتفادي انقطاع الكهرباء خلال الصيف    وزير البريد في القمة الرقمية الإفريقية    وزير الإشارة العمومية يعطي إشارة الانطلاق: الشروع في توسعة ميناء عنابة و رصيف لتصدير الفوسفات    فيما شدّد وزير الشؤون الدينية على ضرورة إنجاح الموسم    مولودية الجزائر تقلب الطاولة على شباب قسنطينة وتبلغ نهائي كأس الجزائر للمرة العاشرة    مجلس الأمة يشارك في مؤتمر بإسطنبول    الجزائر تشارك في معرض تونس الدولي للكتاب    تأسيس جائزة وطنية في علوم اللغة العربية    اختتام ملتقى تيارت العربي للفنون التشكيلية    اجتماع حول استراتيجية المركز الوطني للسجل التجاري    مباراة اتحاد الجزائر- نهضة بركان : قرار الكاف منتظر غدا الاربعاء كأقصى تقدير    تكتل ثلاثي لاستقرار المنطقة ورفاه شعوبها    الرقمنة طريق للعدالة في الخدمات الصحية    سايحي يشرف على افتتاح اليوم التحسيسي والتوعوي    تمنطيط حاضرة للعلم والأعلام    الوقاية خير من العلاج ومخططات تسيير في القريب العاجل    رجل الإصلاح وأيقونة الأدب المحلي    بلومي هداف مجددا في الدوري البرتغالي    ماندريا يُعلّق على موسمه مع كون ويعترف بتراجع مستواه    إشادة ألمانية بأول تجربة لشايبي في "البوندسليغا"    حج 2024 : استئناف اليوم الثلاثاء عملية حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان الوطني للحج والعمرة    منصّة رقمية لتسيير الصيدليات الخاصة    حكم التسميع والتحميد    الدعاء سلاح المؤمن الواثق بربه    أعمال تجلب لك محبة الله تعالى    دروس من قصة نبي الله أيوب    صيام" الصابرين".. حرص على الأجر واستحضار أجواء رمضان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشروق تقضي يوما مع حفاري القبور: ينفر منه الجميع ويستوي عنده الغني والفقير
نشر في الشروق اليومي يوم 12 - 05 - 2007

لازالت شخصية حفّار القبور ملفوفة في نظر الناس بالكثير من السحر والغموض، فهي إذا استعرنا مصطلح نقاد الأدب شخصية إشكالية.. تجمع العديد من المتناقضات الصارخة، بحيث نجد لدى أصحاب هذه المهنة، رغم بساطة ومحدودية تحصيلهم الدراسي، معرفة عميقة بالطبيعة البشرية تصل إلى حد الحدس الخارق، ولذلك فإن حفار القبور يعي جيدا كيف يتعامل مع الآخرين ويتعاطى بذكاء شديد مع مآسيهم ومكابداتهم.
من هنا وبناء على هذه المعطيات، أخذنا الفضول إلى اقتحام عوالم هذه الشخصية الاجتماعية الفريدة من نوعها على صعيد ما تحمله من تناقضات وأسرار وطرائف، يسكننا من الوريد إلى الوريد، وقد ضاعف من إثارة هذا الفضول، تلك الأجواء المفعمة بالشجن والفقد والصمت الذي يضج بحكم كونية لا عد ولا حصر لها والتي يعمل ويعيش ضمنها يوميا حفار القبور ونقصد بها »المقبرة«.. هذا المكان الباكي والموحش الذي قضينا به يوما كاملا‮.. كي‮ نختبره‮ من‮ الداخل‮ على المباشر‮ بلا‮ مقدمات‮ ولا‮ روتوشات‮ ولا‮ أكسسوارات‮ قد‮ تشوّه‮ الحقيقة‮ من‮ حيث‮ نريد‮ »‬تزويقها‮« لدواع‮ أو‮ لمصلحة‮ معينة‮!‬؟
حفار‮ القبور‮ يخاف‮ من‮ غول‮ واحد‮ اسمه‮.. الجهل‮!!‬
اسمه الكامل »بهناس العربي« عمره يقارب نصف القرن قضى 18 سنة منها في مهنة، قال عنها في اعترافاته ل "الشروق اليومي" إنها شريفة ككل المهن الأخرى التي لا يمكن بل يستحيل الاستغناء عنها.. حتى ولو كان جل الناس مانفك ينظر إليها بامتعاض وتقزز ونفوز بالغ.. وأنا لا أخجل، يقول بهناس بصوت خافت ونبرة تخفي الكثير من المرارة، من ذكر مهنتي كعامل بالمقبرة المركزية لقسنطينة فهي مصدر رزقي الحلال ومورد عيشي لأولادي الأربعة.. ابنتان وولدان.. أكبرهم تخرّج من مركز للتكوين المهني نجارا.. وأصغرهم يدرس في السنة الثانية ابتدائي.. وعن المهنة التي يتمنى أن يمارسها أبناؤه - قال بهناس- إنها بلا أدنى تردد مهنة التعليم والتدريس على اعتبار أن هذه المهنة في نظره وإيمانه العميق تحارب الجهل الذي يعتبره سبب المصائب والأهوال التي تحدث في كافة بقاع العالم.. لقد أحسسنا ونحن نصغي لمثل هذا التحليل والتعليل‮ الهادف‮ والمؤسس‮ وكأن‮ الرجل‮ يريد‮ الانتقام‮ من‮ غول‮ خطير‮ سكنه‮ حينما‮ توقف‮ مجبرا‮ عن‮ مواصلة‮ تعليمه‮ في‮ السنة‮ الخامسة‮ ابتدائي‮.‬
حفار‮ القبور‮ يتقاضى‮ أحسن‮ من‮ الطبيب‮ والمهندس‮ !!‬
وبغية تلطيف الجو والتخفيف من تأثر بهناس الذي انعكس على ملامح وجهه المغبر والمتعب بشيء من الشجن والإحساس بالدونية.. قلنا له بدعابة إنه بأجرته القاعدية زائد العلاوات والمنح التي تصل إلى 17 ألف دج هو أحسن حالا من أطباء ومهندسين مبتدئين!! هنا رد بالقول إنه أمام الإحساس بالحڤرة والغبن لو وجد مهنة أخرى سوف لن يتردد في الانتقال إليها ثانية واحدة، مع العلم، يواصل حديثه، أن عمله كحفار قبور يكسبه أجرا عظيما من الله عز وجل.. حيث الدار الدائمة وليس دار السفر والعبور والفناء والتي يعتقد البعض بفظاظتهم وجبروتهم وغطرستهم أنهم‮ خالدون‮ مخلدون‮ فيها‮ لكن‮ هيهات‮ وهيهات‮!‬
وسألناه: كيف تشعر وأنت تتحسس جماجم الموتى وعظامهم المهشمة ولحمهم الذي تحول مع الزمن إلى قبضة من تراب؟ في هذه الأثناء طارت نظرات بهناس إلى ما وراء الأفق والحجب المرئية.. ووقف شاخصا ببصره إلى هدف مجرد وغير مرئي لا تطرف له عين ورد بالقول: هل تصدق بأنني أحيانا عندما أفرغ من حفر قبر جديد وأسجي فيه ميتا أبيت ليلتي أسيرا للكوابيس وأضغاث الأحلام.. إن الأمر- يواصل حديثه- ليس بسيطا وهينا مثلما يتصوره الناس.. فنحن مهما يكون بشر ولدينا قلوب ترتجف وتصعق لرؤية الموت، شأننا في ذلك شأن الآخرين بل إننا أكثر الناس تعاملا مع هذا اللغز العظيم والقدر المحتوم الذي نسميه الموت، ومن هنا فنحن مسكونين برهبته وجلاله على نحو يتجاوز بأضعاف ما يحس به الآخرون الذين يصادفونه في فترات متباعدة قد تطول أو تقصر.. ومن المفارقات العجيبة حقا أن مصدر حياة وعيش حفار القبور هو الموت.. فإذا نشط عزرائيل انتفخ جيبه كما في سنوات التسعينيات، حيث كانت تستقبل المقبرة المركزية لوحدها ما بين 10 إلى 15 جنازة في اليوم الواحد، جل الموتى فيها من ضحايا الإرهاب والعكس، حتى أن حفار القبور صار يفرح حين يقال له إن الشخص المتوفى مات موتة طبيعية وليس بسبب الإرهاب أو العكس‮!!‬ وحسب مصادر من العاملين بالمقبرة المركزية، فإن لبعض حفاري القبور حظوة خاصة.. ولذلك فهم يتعاملون مع الموتى الأثرياء بطريقة خاصة بحيث يعرضون خدماتهم المتمثلة في إيجاد قبر في مكان متميز وسهل الوصول إليه، سيما المطل على الطريق والواقع بمحاذاة مدخل المقبرة في الجهة العليا، ومقابل ذلك هناك من يمنح »بقشيشا« من أهل الميت نظير هذه الخدمة الجليلة يتراوح ما بين 500 دج يصل حتى إلى مليون سنتيم!! وطبعا هي إكرامية من محسنين خارج أجر الشهر، لكن تبقى محل نقد ورفض طالما أنها تشجيع »التميز العنصري« بين الموتى.. كون الميت الفقير‮.. يُختار‮ له‮ مكان‮ لدفنه‮.. معزول‮ وقصي‮ ويتم‮ بلوغه‮ بشق‮ الأنفس‮.. بمعنى آخر‮.. أن‮ الفقير‮ يسلط‮ عليه‮ الظلم‮ حتى وهو‮ ميت‮.. ويُحتقر‮ ويُنبذ‮ ويُعامل‮ بقسوة‮ بغيضة‮ مادام‮ جيبه‮ وخزائنه‮ خاوية‮..‬
قبر‮ ب‮ 15‮ مليون‮ سنتيم‮ لصاحب‮.. حانة‮!!‬
لقد بلغ التطاول بالبعض أن وصلت بهم العجرفة إلى حد يكاد لا يصدق.. حين يتفاخرون بتشييد أضرحة فاخرة جدا لأهليهم وذويهم المتوفين.. حيث يزينونها بالرخام الثمين ويحيطونها بنقوش فنية تبهر العين.. وقد كلف بناء قبر من هذه الشاكلة مبلغ 15 مليون سنتيم ! والطريف في الأمر أن صاحبه كان يملك حانة تقع وسط المدينة.. وربما يتصور صاحب فكرة بناء القبر بهذه الطريقة المكلفة والفاخرة أنه يشتري »الجنة« للميت بفلوسه، في حين أن هذا الأخير سوف تشهد عليه أعماله لا أكثر ولا أقل.. وقد أوضح لنا حفار القبور بهناس أنه يتعجب من مثل هذه التصرفات الساذجة في الحقيقة.. وقد صادف في إحدى المرات.. بينما كان بصدد فتح قبر قديم وجود طبقات من الرخام ذي السعر المرتفع في قاعدة هذا القبر الذي يوجد الكثير من أمثاله على مستوى المقبرة المركزية وهو يكلف في العادة من مليوني إلى خمسة ملايين سنتيم.. مع التذكير أن تكلفة حفر قبر عادي تقدر حسب الأسعار الموضوعة من طرف إدارة المقبرة التابعة لبلدية قسنطينة ب 500دج، أما القبر المفتوح أي الذي سبق الدفن فيه فتكلفته تقدر ب 800 دج. وبخصوص بناء القبر، فإن العادي الذي يطلق عليه تسمية »الحوض« سعره 1800 دج وهو من الإسمنت والطوب.. أما المبني ب »الكارلاج« فإن سعره يقدر ب 2300دج، وإذا زين بالرخام فسعره آنذاك لا يهبط أقل من 2 مليون سنتيم مثلما أشرنا من قبل، ويزيد الثمن ارتفاعا في حالة تحصين القبر بالأعمدة والسياج الحديدي الذي كان هدفا للسطو من طرف بعض اللصوص المحترفين خلال السنوات الماضية قبل بناء السور الذي يحيط بالمقبرة المقدر مساحتها الإجمالية ب 17 هكتارا، وهي من أجود الأراضي وأكثرها خصوبة، كما تجدر الإشارة ضمن هذا السياق إلى قيام بعض »المجانين« لعدة مرات بتحطيم القبور المصنوعة من الرخام، وهو سلوك قد نستخلص من خلفياته بأنه »ثورة« ضد التمييز العنصري الذي تحاول عائلات ثرية تكريسه في فضاء من المفروض أن جميع ساكنيه سواسية أمام الموت.. عراة كما خلقتهم أمهاتهم ولا تسترهم عدا قطعة قماش أبيض سرعان ما تبلى بمجرد أن يهال التراب على صاحبها!!
من‮ حارس‮ بلدي‮ إلى‮.. حفار‮ قبور‮!!‬
بهناس بدأ يضيق بأسئلتنا.. التي من غير شك تذكره بوضعه الاجتماعي.. وتفتح جرحا طالما اجتهد في لملمته وإخفائه.. ثم شرع يسرد علينا أوجاعه التي لا تنتهي.. وكيف أن طبيعة عمله، خاصة في فصلي الشتاء والصيف تحيله إلى كتلة من العذاب المضني.. فإذا كان حفر قبر عادي في فصلي الربيع والخريف يقتضي ما بين ساعتين إلى ثلاث ساعات متواصلة لإنجاز حفرة طولها مترين وستين سنتيمترا وعرضها المتر.. فإن الجهد والزمن يتضاعف في فصلي المطر والحر الشديد.. ويتضاعف أكثر إذا كان الميت داخل صندوق (حفر القبر في هذه الحالة يكلف ألف دج!).. والجدير بالذكر، أن عدد حفاري القبور في تناقص بالمقبرة المركزية.. حيث كان يعمل بها كعمال دائمين ستة أفراد هم بهناس، طيوش، علي، بوزيد، العربي ونور الدين، وقد تم تحويل اثنين منهم للعمل بمقبرتي زواغي وجبل الوحش.. يحدث هذا في الوقت الذي يوجد فيه 15 عاملا ضمن الشبكة الاجتماعية يعملون في ظروف مزرية بأجرة 3 آلاف دج في الشهر ومن هؤلاء المتزوج وأب لعدة أطفال على غرار محمدي لحسن (39 سنة) أب لطفلين وله تقريبا سنتان في الخدمة ومستواه الدراسي.. نهائي!! وهناك أيضا رياض بلولة (29 سنة) الذي قضى في هذه الخدمة أربع سنوات وهو يعيل ثمانية‮ من‮ أفراد‮ عائلته‮ كون‮ أبيه‮ معوقا،‮ ومسكنه‮ على بعد‮ أمتار‮ من‮ المقبرة‮ المركزية‮..‬
وربما أكثر هذه الحالات غرابة ومأساوية.. حالة بوجمعة عشوب (41 سنة) الذي عمل ضمن صفوف الحرس البلدي إبان التسعينيات مدة ثماني سنوات.. وقد تم طرده لسبب بسيط عندما قدّم شكوى إلى مدير الحرس البلدي لها صلة بوجبات الطعام.. فكان جزاؤه بعد سنوات - كما يقول- قضاها بين براثن الموت مدافعا عن البلد، تحوله إلى مهنة حفار قبور وإلى منظف بالمقبرة بأجرة تافهة لا تعيل حفنة من القطط، وهي ثمن وجبة مسؤول عديم الضمير! ومازاد في آلام بوجمعة الذي تحدث لنا بالكثير من الإحباط والسودوية مسؤوليته أمام زوجته وطفلته الصغيرة وانسداد الأفق في بلد يتغنى ليل نهار بملايير البترو دولار وشعبه يطحنه الجوع والفقر والبؤس الأسود.. لقد فقد الأمل بعد أربع سنوات في أداء عمل لم يجلب له سوى مزيد من البؤس والتشاؤم وحقرة المسؤولين الذين فيهم من لا يخاف الله وقد سطا حتى على قفة رمضان التي وعدوهم بإعطائها لهم‮ بعد‮ تقديم‮ ملفات‮ عن‮ حالاتهم‮ الاجتماعية‮ المزرية‮..‬
"‬جاكي‮ شان" يعمل‮ بمقبر‮ قسنطينة‮ !!‬
الحالة الغريبة التي شدت انتباهنا ونحن نقترب من فك أسرار مهنة غريبة، مهنة حفار القبور، حالة »جاكي« واسمه الحقيقي عبد السلام وسنه 28 سنة، وهو متخلف عقليا ورغم ذلك أمضى 12 سنة كعامل بالمقبرة المركزية.. حفار قبور حر، وعامل ضمن إحدى المقاولات الست التي تعاقدت معها بلدية قسنطينة هذه الأيام من أجل نزع الحشائش والنباتات الضارة التي غطت المقبرة في هذا الفصل وابتلعت في جوفها عددا كبيرا من القبور!!.. جاكي الذي يقطن بحي بن الشرڤي الفوضوي ينتمي إلى عائلة فقيرة وله أخ مثله متخلف عقليا ويعمل متسولا عند بوابة أحد مساجد المدينة‮.. لقد‮ أشرق‮ وجهه‮ وكست‮ ملامحه‮ ابتسامة‮ عريضة‮ حين‮ طلبت‮ منه‮ أن‮ يعتدل‮ في‮ جلسته‮ ويحدق‮ في‮ عدسة‮ الكاميرا‮ لالتقاط‮ صورة‮ تذكارية‮ له‮..‬ وفي هذه الأثناء تصادف وأن التقينا بمجموعة أخرى من العمال.. الذين اختارتهم تلك المقاولات الست لنزع الحشائش والأعشاب الضارة.. وكانت المفاجأة غير سارة.. إن هؤلاء العمال هم في الحقيقة مجموعة أطفال وأحداث صغار سن أغلبهم ما بين 16 و17 سنة وقد وجدنا من بينهم أيضا عجوزا طاعنا في السن يدعى (ك.رجم) عمره 73 سنة!! يقبض على منجل صدئ وصغير كان المسكين »يحش« به، والإرهاق الشديد متجليا على صفحة وجهه المليء بالتجاعيد، مساحات معتبرة من الحشائش والأعشاب الضارة. وما زادنا إثارة، علمنا بأن العجوز المسكين يعمل من دون أن يعلم مقدار‮ أجرته‮.. المهم‮ أن‮ يحصل‮ في‮ النهاية‮ على مبلغ‮ يساعد‮ في‮ رفع‮ الغبن‮ عن‮ عائلته‮ حتى ولو‮ كان‮ هذا‮ المبلغ‮ محدودا،‮ فالعوض‮ على الله‮ في‮ كل‮ الأحوال‮!!‬
وما جرى مع العجوز رجم جرى أيضا مع (ب.كمال) البالغ من العمر 42 سنة الذي حدثنا عن معاناته هو الآخر كحفار قبور وعامل حر بالمقبرة المركزية منذ 20 سنة، وهو أب لطفلة وزوجته متوفية.. وقد سلم للجهات المعنية ملفا لضمه في الشبكة الاجتماعية ولغاية الآن لم يتلق أي رد بالسلب أو بالإيجاب !! وحسب الرجل فإن مهمة نزع الحشيش والأعشاب الضارة كان يقوم بها في سنوات ماضية مساجين، يتم جلبهم لهذا الغرض ضمن فرق متعددة غير أن الوضع تغير الآن، حيث تتولى هذا الأمر مقاولات خاصة مقابل مبالغ معتبرة وتوظف هذه المقاولات أحداثا وصبية يستغلون بطريقة لا إنسانية بشعة.. والغريب أن أصحاب هذه المقاولات يتركون هؤلاء العمال الصبية يشتغلون لوحدهم من دون تأطير ولا توجيه.. وفي أحيان كثير يدخلون في شجار وعراك ضد بعضهم البعض مثلما عايشنا هذا الأمر عن كثب وبشكل مباشر، حيث شاهدناهم وهم يتراشقون بوابل من السب‮ والشتم‮ في‮ حق‮ الذات‮ الإلهية‮ وسط‮ المقبرة‮ دون‮ أن‮ يردعهم‮ أحد‮ وهم‮ في‮ النتيجة‮ لا‮ ذنب‮ لهم‮!‬
ممنوع‮ الموت‮ مساء‮ لأن‮ المقبرة‮... مغلقة‮!!‬
ومازاد الطين بلة كما يقال غياب الإدارة وأي ممثل لها ابتداء من الساعة الثانية ما بعد الزوال.. حيث باستثناء اثنين أو ثلاثة من عمال الشبكة الاجتماعية الذين من المفروض بالنظر إلى المستوى المتواضع لأجرتهم يعملون لمدة أربع ساعات، وجدناهم على قدم وساق يؤدون دورهم في الحراسة، وفي المقابل لا وجود لأحد من عمال الإدارة في الفترة المسائية مكلف بمتابعة إجراءات الدفن كما يحدث صباحا، وقد تعجبنا حقا لهذا الأمر غير المعقول، سيما حين أقبل بعض المواطنين حوالي الساعة الثالثة زوالا إلى المقبرة المركزية لتقديم طلب بشأن حفر قبر لذويه المتوفى في ذلك اليوم، وقد طلب منهم العودة في اليوم الموالي لأن حفاري القبور »المحترفين« غير موجودين، كما أن مسؤولية حفر قبر جديد يضطلع بها مسؤول بالإدارة له اطلاع وخبرة في هذا المجال، كي لا تقع تجاوزات في هذا المجال مثلما حدث منذ عامين، حيث تمت إقالة مدير المقبرة المركزية على إثر قرار اتخذ على عجل يتعلق بفتح قبر إحدى العائلات يقع بمكان »استراتيجي« ليدفن فيه شخص آخر، الشيء الذي انجر عنه ردود أفعال رافضة وغاضبة انتهت فصولها بالمحاكم، ويقال إن ملف هذه القضية لازال مفتوحا لم يطو بعد!! ومع ذلك، فالمسؤولون على المقبرة المركزية، حسب ما عايشناه شخصيا ما نفكوا يتعاملون بسلبية كبير مع هذا الوضع، وأكبر دليل على صحة هذا الكلام غياب المداومة في الفترة المسائية وهو سلوك في نظرنا يبقى مبهما وغير مبرر على الإطلاق، وقد قصدنا هذه الإدارة صباح الخميس لمواجهة المسؤول الأول‮ بها،‮ فقيل‮ لنا‮ إنه‮ غائب‮!!‬
سحر‮ وشعوذة‮ ومواعيد‮ للعشاق‮!‬
ومرة أخرى، نعود إلى عمنا بهناس الفيلسوف الذي يتعامل مع واقعه كما هو وليس كما يجب أن يكون، حيث كما قال لنا لا يريد أن يزوّق الأشياء وهي قبيحة، وعليه فقد أكد لنا على غرار ما ذكره لنا رياض العامل بالشبكة الإجتماعية من أن الجهة العليا من المقبرة كثيرا ما تشهد تسربات لمياه قذرة ناجمة عن تحطم شبكات صرف المياه، الشيء الذي يدنس القبور ويضطر العمال إلى قضاء وقت طويل رغم المخاطر من الإصابة بأمراض وأوبئة فتاكة لإزالة هذه القاذورات وبأيد عارية في الكثير من الأحيان، وأضاف بهناس بأن المقبرة المركزية إضافة إلى هذه السلبيات بها سلبيات أخرى يصعب التحكم فيها، مثل ممارسة السحر والشعوذة، حيث في الكثير من المرات يعثر وزملاؤه على »حروز« و»تمائم« غريبة الأشغال وهي مثبتة ومعلقة على أغصان الشجر، ومدسوسة أحيانا وسط القبور وبينهم! وعلى صعيد آخر، نفى حسب حدود علمه أن تكون قد وقعت حوادث فتح القبور والاعتداء على جثث الموتى بغرض السحر، مثلما وقع في بعض الولايات غرب وشرق الوطن، كما كذّب بهناس أيضا حكاية الأشباح وخروج الموتى من قبورهم، حيث كثيرا ما تتردد مثل هذه الإشاعات خاصة في الليل، وقال إنه سوف يكون في غاية البهجة والسرور لو رأى أحبته الراحلين وقد طلعوا له من قبورهم، لكن مع الأسف فالأموات على نقيض ما نتصوره أحوج إلى الأحياء وليس العكس، وما يحز في نفس بهناس، حفار القبور الفيلسوف، أن بعض العشاق صاروا يتخذون من المقبرة محط مواعيد، ومن الصعب اكتشاف أمرهم طالما أن هناك أقارب من عائلة واحدة تزور‮ سيما‮ أيام‮ الأعياد‮ والمواسم‮ الدينية‮ ونهاية‮ الأسبور‮ قبور‮ ذويهم،‮ ولا‮ يمكن‮ بالتالي‮ التمييز‮ بينهم‮ وبين‮ العشاق‮!!‬
إنها نبذة قصيرة جدا عن حياة حفار القبور، هذه الشخصية المحيرة التي استثمرها وأعطى لها دور البطولة في أعمالهم أدباء وكتاب كبار من عيار جبران خليل جبران والإسباني خوسيه مونسيرات وغيرهم كثير، حيث ارتبطت هذه الشخصية بهذا الجرح الكوني الذي نسميه القبر وله في اللغة العربية أكثر من 20 اسما وفي ذلك عبرة كبيرة لمن يعتبر فمن أسمائه غير الحسنى اللحد والرمس والضريح، والجدث و... المثوى الأخير، والطريف في الأمر أن حفار القبور بهناس يتذكر الماضي بالكثير من النوستالجيا، حيث ذكر بأن مهنته اليوم فقدت الكثير من »البريق!« إذ كان القبر الواحد يتداول على حفره ثلاثة أشخاص وحتى أربعة، والمقياس المتعامل به آنذاك، يقصد السبعينيات والثمانينيات، أن يصل عمق القبر إلى ثلاثة أمتار، في حين أن عمق القبر في الوقت الراهن لا يتعدى 60 سنتيمترا ويقوم بحفره شخص واحد!؟ وفي النهاية أشار بهناس إلى معضلة حقيقية تعيشها حاليا المقبرة المركزية لقسنطينة التي دفن بها آلاف مؤلفة من الموتى وفيهم الأمير والحقير، الشيء الذي جعل هذه المقبر تعاني من حالة إشباع قصوى وقريبا يصبح من المتعذر إيجاد شبر واحد لدفن مزيد من الموتى، مع التذكير أن القبر غير المبني إذا مرت عليه‮ خمس‮ سنوات‮ ولم‮ يفتح‮ من‮ الجائز‮ قانونا‮ أن‮ يعاد‮ استغلاله‮ والدفن‮ به‮...‬ في‮ الختام‮ نقول‮ إن‮ ثقافة‮ الموت‮ في‮ الغرب‮ مبنية‮ على شعار‮ »‬مت‮ ونحن‮ بعد‮ ذلك‮ نتولى‮ أمرك‮!« لكن‮ هذه‮ الثقافة‮ في‮ بلادنا‮ أشد‮ تفردا‮ وطرافة‮ وما‮ قدمناه‮ في‮ السطور‮ السالفة‮ مجرد‮ قطرة‮ من‮ بحر‮!.
روبورتاج‮: رشيد‮ فلالي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.