اجتماع الحكومة: مشاريع نصوص قانونية وعروض تخص عدة قطاعات    الجزائر-تونس- ليبيا: التوقيع على اتفاقية إنشاء آلية تشاور حول إدارة المياه الجوفية المشتركة    قسنطينة: 17 جريحا إثر انقلاب حافلة بحي لوناما    وزير التربية انتقل إلى عين المكان والعدالة فتحت تحقيقا: إصابة 6 تلاميذ في انهيار سقف بمدرسة في وهران    الفريق أول شنقريحة يشرف على تنفيذ تمرين تكتيكي بالرمايات الحقيقية بالناحية العسكرية الثالثة    الجزائر-تونس-ليبيا: التوقيع على اتفاقية انشاء آلية تشاور حول ادارة المياه الجوفية المشتركة    فلسطين: ترحيب بقرار حكومتي جامايكا وباربادوس الاعتراف بالدولة الفلسطينية    إحباط محاولات إدخال 78 كيلوغراما من الكيف المعالج عبر الحدود مع المغرب خلال أسبوع    السيد عطاف يستقبل رئيس مجلس العموم الكندي    إهمال الأولياء يفشل 90 بالمائة من الأبناء    غائب دون مُبرر: إدارة لاصام مستاءة من بلحضري    نصف نهائي كأس الجمهورية: اتحاد الجزائر – شباب بلوزداد ( اليوم سا 21.00 )    سوناطراك توقع بروتوكول تفاهم مع شركة الطاقة العمانية "أبراج"    الاحتلال الصهيوني يغلق الحرم الإبراهيمي أمام المصلين المسلمين    مدرب اتحاد الشاوية السعيد بلعريبي للنصر    فيما وضع حجز الأساس لإنجاز أخرى: وزير الطاقة يدشن مشاريع ببسكرة    وزير العدل يدشن مقر مجلس القضاء الجديد بتبسة    وزير البريد في القمة الرقمية الإفريقية    وزير الخارجية أحمد عطاف يصرح: الوضع المأساوي في غزة سيبقى على رأس أولويات الجزائر    وزير الإشارة العمومية يعطي إشارة الانطلاق: الشروع في توسعة ميناء عنابة و رصيف لتصدير الفوسفات    وزير الداخلية يكشف: تخصيص أزيد من 130 مليار دينار لتهيئة المناطق الصناعية    البروفيسور نصر الدين لعياضي يؤكد من جامعة صالح بوبنيدر    فيما شدّد وزير الشؤون الدينية على ضرورة إنجاح الموسم    اجتماع حول استراتيجية المركز الوطني للسجل التجاري    وزارة الشؤون الخارجية توضّح    مجلس الأمة يشارك في مؤتمر بإسطنبول    الاستخدام العشوائي للنباتات الطبية.. عواقب وخيمة    مولودية الجزائر تقلب الطاولة على شباب قسنطينة وتبلغ نهائي كأس الجزائر للمرة العاشرة    الجزائر تشارك في معرض تونس الدولي للكتاب    تأسيس جائزة وطنية في علوم اللغة العربية    اختتام ملتقى تيارت العربي للفنون التشكيلية    غزّة تحت القصف دائماً    فلاحة: السيد شرفة يبحث مع نظيره التونسي فرص تعزيز التعاون    مباراة اتحاد الجزائر- نهضة بركان : قرار الكاف منتظر غدا الاربعاء كأقصى تقدير    فتح صناديق كتب الشيخ العلامة عبد الحميد بن باديس الموقوفة على جامع الجزائر    قسنطينة: السيد عون يدشن مصنعا لقطع غيار السيارات ووحدة لإنتاج البطاريات    الجامعة العربية تجتمع لبحث تداعيات استمرار جرائم الاحتلال    تقرير دولي يفضح ادعاءات الكيان الصهيوني حول "الأونروا"    تكتل ثلاثي لاستقرار المنطقة ورفاه شعوبها    الرقمنة طريق للعدالة في الخدمات الصحية    عاصمة البتروكيمياء بلا حظيرة تسلية ولا حديقة حيوانات    غرس 100 ألف شتلة من مختلف الأصناف    العماني: مواقف الجزائر مشرفة في المحافل الدولية    سايحي يشرف على افتتاح اليوم التحسيسي والتوعوي    بلومي هداف مجددا في الدوري البرتغالي    تمنطيط حاضرة للعلم والأعلام    الوقاية خير من العلاج ومخططات تسيير في القريب العاجل    رجل الإصلاح وأيقونة الأدب المحلي    ماندريا يُعلّق على موسمه مع كون ويعترف بتراجع مستواه    إشادة ألمانية بأول تجربة لشايبي في "البوندسليغا"    معالجة 245 قضية إجرامية    حج 2024 : استئناف اليوم الثلاثاء عملية حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان الوطني للحج والعمرة    منصّة رقمية لتسيير الصيدليات الخاصة    حكم التسميع والتحميد    الدعاء سلاح المؤمن الواثق بربه    أعمال تجلب لك محبة الله تعالى    دروس من قصة نبي الله أيوب    صيام" الصابرين".. حرص على الأجر واستحضار أجواء رمضان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"تخلصنا من المستبد بن علي وليس من النظام "
نشر في الخبر يوم 15 - 01 - 2021

مثلما أجرت "الخبر" حوارا مطولا مع راشد الغنوشي، رئيس حركة النهضة التونسية، بمناسبة الذكرى العاشرة لثورة الياسمين. يتطرق مصطفى بن جعفر، رئيس المجلس التأسيسي التونسي في هذا الحوار لهذا المنعرج التاريخي وأيضا واقع تونس حاليا.
10 سنوات بعد الثورة.. لو نرجع بك إلى اللحظات الأولى ل14 جانفي 2011، ماذا بقي في ذاكرتك؟ وما هي المشاهد التي بقيت عالقة عن ذلك اليوم التاريخي الذي ناضلتَ من أجله، وأنت ترى تونس تدخل مرحلة جديدة؟
أنت تعيدُني إلى لحظة فارقة، في الحقيقة كان شعورا بالارتياح لشيئين، أولهما هروب الطاغية، البلاد تخلصت في تلك اللحظة من نظام بوليسي مستبد كان في مرحلته الأخيرة أكثر استبدادا، ومن حكم نظام فاسد، كل المعلومات في تلك الفترة كانت تفيد بأن العائلة كانت تريد بكل الوسائل أن تستحوذ على ثروة البلاد وتحويلها لصالح زمرة ضيقة، جشع العائلة وطمعها في كل شيء دفعا النظام إلى خسارة حتى قاعدته الخاصة برجال الأعمال التي كان يعتمد عليها.
الارتياح الثاني أن الثورة كانت دون عنف، ولو تعنت بن علي في الحفاظ على السلطة لكان الثمن باهظا، ولكانت مجزرة أكبر مما حصل. فرغم قيمة أي روح بشرية، فإن قرابة 350 شهيد عدد معقول بالنسبة لثورة قامت لتغيير نظام والتخلص من نظام مستبد وإقامة نظام ديمقراطي جديد، مقارنة مع تجارب أخرى. أعتقد أن "ثورة دون عنف" كانت من خصوصيات الثورة التونسية وما تلاها، لا ننسى أن الثورة التونسية لم تكن لها قيادة، وقوى المنظمات الاجتماعية أو الأهلية والمجتمع المدني والأحزاب، خاصة التي ناضلت من أجل التخلص من الدكتاتورية ومن أجل الحريات وحقوق الإنسان، تلقفت الثورة وحاولت أن تنسجم معها، لا ننسى أن الثورة كانت بالأساس ذات أهداف اجتماعية، وبالطبع الحرية والديمقراطية، وكانت المفاجأة التي لم يكن ليصدقها أحد، أن يمتطي بن علي الطائرة ويهرب تاركا البلاد، وبهذا تم تجنيب البلاد حمام الدم بأي شكل من الأشكال، وتجنّبنا الفوضى.
أنا دستوري، كان يمكن لي في 1970 أن أكون وزيرا، لكني اخترت أن أخرج من الحزب عندما تأكدت أن الإصلاح من داخله لم يعد ممكنا. في السبعينات أسسنا حركة الديمقراطيين الاجتماعيين برئاسة الزّعيم أحمد المستيري، كان موقفنا هو النّضال من أجل مجتمع المواطنة، وأسسنا الرابطة التونسية لحقوق الإنسان، ودافعنا عن اليساريين عندما سُجنوا، ودافعنا عن الإسلاميين عندما تم اضطهادهم. المبدأ واضح هو أن الحريات لا تتجزأ، ولا توجد فيها مساومة، لذلك كان تاريخ 14 يناير 2011 لحظة للتخلّص من المستبد، لكن ليس من النظام المستبد ككل، لأن ثقافة الاستبداد واحتكار الرأي والانفراد بالقرار تبقى موجودة، أو ما نسميه "الدولة العميقة".. كنا واعيين أن هروب بن علي لا يخلّص البلاد من الفساد والاستبداد، كنا ننتظر سنوات صعبة وهذا ما حصل، هذه هي التصورات التي كانت تتلقفني في جانفي 2011.

نحن في مسافة زمنية تجعلنا نعطي تقييما للثورة. في السنوات الأخيرة أصبحنا نسمع روايات أخرى، نية لتحجيم الفعل الثوري، بدأنا نسمع أن ما حدث انقلاب. هل هي ثورة أم انقلاب، أم التقيا معا؟ بعد هذه المسافة كيف يمكن وصفها؟
أعتبر أن هذا الطرح ليس بريئا وليس وليد الساعة، فقد كان موجودا مباشرة بعد الثورة، هناك من تحدث عن مؤامرة وتدخّل خارجي، هذه ترّهات.. التدخلات الخارجية في كل المجالات مسألة محسومة واضحة، لكن يجب أن نتفاعل معها بعقلانية. أن يقال إنها ثورة سُيرت من الخارج فهذا مجانِب للحقيقة، رصد ما حصل مباشرة بعد هروب بن علي يعطينا فكرة واضحة أنها ثورة، الثورة لم تكن لها قيادة، وجدنا أنفسنا في وضع تحمّل مسؤولية ربما مهّدنا لها في سنوات النضال من أجل الحريات، ولم نكن نحن (كشخصيات مناضلة) قيادة لتلك الثورة الشبابية بالأساس، والتي كانت ذات طابع اجتماعي بالأصل، لكن تحملنا المسؤولية واعتبرنا أنها فرصة تاريخية للبلد حتى يغير ويصلح ما كان معوجا في النظام، والخروج من نظام استبدادي إلى آخر ديمقراطي. تعاملنا مع الدستور، وتم تحويل السلطة من بن علي إلى رئيس البرلمان فؤاد المبزّع، ثم إلى الوزير الأول الباجي قايد السبسي الذي اشتغل مع بن علي طوال 10 سنوات، وهذا في الحقيقة كان نوعا من الحلّ الوسطي، وهنا قد يقول قائل: كيف تقبل الثورة أن تكون المسؤولية بيد أشخاص قامت الثورة ضدهم؟
في تلك الفترة كان هناك نقاش بشأن تطبيق مضمون الدستور القديم الذي ينص على تنظيم انتخابات بعد 60 يوما من شغور منصب الرئيس، نتصور لو حصلت انتخابات في 60 يوما، من كان له حظ أو بعض الحظ في أن يصل؟ بالتأكيد مرشح التجمع حزب بن علي، لأن شُعَب الحزب مازالت موجودة وقوى الثورة غير جاهزة، إذاً هروب بن علي لم يغير الأشياء؟ بل كان فرصة للتغيير، وكان من الضروري اغتنامها للتوجه نحو دستور جديد، وتنظيم انتخابات لمجلس وطني تأسيسي، لذلك رفضنا كل المناورات التي كانت تعتبر الثورة انتهت، وأنها لحظة عابرة من الهيجان والاحتجاج الشعبي، وأنه آن لها أن تعود للوراء، (وربما نفس الفكرة تتواصل اليوم بشيء من الرعونة، لكن انتصر التوجه الثوري والنفَس الثوري بالقطع مع ما كان حاصلا ومع النظام السابق، ومررنا إلى المرحلة أولى التي هي مرحلة التأسيس، أي وضع القاعدة الصّلبة للنّظام الديمقراطي.
في بداية التأسيس كانت قوى يمكن تسميتها "الثورة المضادة" أو "قوى الردة" موجودة بشيء من الاحتشام، تراجعت أنفاسها لأن النفَس الثوري كان قويا، ثم شيئا فشيئا في السنوات الأخيرة عادت إلى الميدان بعد انتخاب الرئيس الباجي قايد السبسي، ورغم أنه شخص مخضرم لا ننسى أنه كان من رجالات النظام السابق، وأعرفه عن قرب، وكنت أتصوّر أنه سيقوم بشيء ما في اتجاه الإصلاح وتثبيت المنظومة الديمقراطية، لأن الدستور هو نصّ وهو قاعدة، لكن عندما لا نحترِمه ولا نضع المؤسسات التي وضعها الدستور حيّز النفاذ، يصبح بلا معنى، للأسف 5 سنوات من حكم السبسي وقع فيها تعطل شبه كلي لمسار البناء الثوري الديمقراطي.

فأنت تعتبر أن فترة الباجي قايد السبسي مرحلة تعطل فيها البناء الديمقراطي؟
نعم، توقف البناء والصورة واضحة، خلال 5 سنوات لم نضع أي مؤسسة من المؤسسات التي كان من المفروض أن تحصل بشكل نافذ من طرف الدستور، المحكمة الدستورية مثلا كان لا بد أن تنطلق بعد سنة من الانتخابات، أي في 2015، لكن ذلك لم يحدث، وفي هذا دلالة واضحة على غياب الإرادة السياسية. السبسي عندما كان رئيسا للجمهورية كانت تتوفر له الظروف المثلى لفعل الكثير، كانت له سيطرة على قصر قرطاج (الرئاسة)، وعلى الحكومة لأنه هو من اختار رئيس الحكومة الأول والثاني (الحبيب الصيد ثم يوسف الشاهد)، وفي باردو (البرلمان) كان رئيس مجلس النواب من حزب السبسي نداء تونس، يعني كنا نتخوف نوعا من التغول لأن الرئاسات الثلاث من نفس الحزب، وبتحالفه مع حركة النهضة كانت له أغلبية مريحة يحلم بها أي ديمقراطي في أي بلد، بقرابة 160 نائب أكثر من الثُلُثَين، لو كانت له إرادة سياسية لقام على الأقل بوضع المحكمة الدستورية.

في تلك الفترة قبِلتم كقوى ثورية أن يستمر رئيس الدولة، وهو رئيس برلمان بن علي، وجئتم برئيس حكومة من النظام السابق، كيف وقع الخيار على ذلك المسار بينما كنتم في حالة ثورية تفرض ذهابهم جميعا؟
قبلنا بذلك لسبب واضح هو أن الثورة لم تكن لها قيادة، هي ثورة شبابية جاءت من صلب الجماهير الشباب، أتصور أنه لو كان هناك قيادة لهذه الثورة تُمسك بزمام الأمور لأخرجت البيان الأول ووضعت أولئك في السجون، وأقامت محاكم شعبية، لكن لم يكن هذا هو الوضع في جانفي 2011، وحتى عندما نتحدث عن القوى الثورية فنحن نتحدث عن قوى مقاوِمة للاستبداد، لكنها لم تكن هي قائدة الثورة.. ما تسميه بالثوريين هم في الحقيقة ليسوا ثوريين، هم أناس في أغلبهم كانوا يريدون إصلاح النظام، وعندما جاءت الثورة تجاوبت القوى المناضلة مع هذه الثورة لأنها مِنة من عند الله، وتلقفت لحظة تاريخية اغتنمتها لتحقيق ما تصبو إليه الجماهير، ونعرف بكل وضوح الدور الأساسي الذي لعبه الاتحاد العام التونسي للشغل، والهيئة الوطنية للمحامين، وأحزاب الصمود ضد الدكتاتورية، في تأطير الثورة بعد هروب بن علي.
قبلنا بذلك أيضا لأن هناك وضعية أمنية مختلة، وكان لا بد من المحافظة على البلد، الأمن أصبح عدو الجميع، وفي غياب قيادة تتحمل كل ما هو تابع للثورة كان من المهم أن نتشبث بشيء صلب وهو القانون (الدستور)، تعاملنا مع القانون بشكل عام، ومع المؤسسات حتى إن كانت شكلية، والشخصيات القائمة حينها كرئيس الدولة فؤاد المبزغ، سواء عن وعي أو غير ذلك، اضطروا للتأقلم مع الأوضاع الجديدة، تم حل الحزب الدستوري ووقع حل البرلمان القديم.. وقعت قرارات العفو التشريعي العام كلها خلال الأشهر الأولى، وهذه القرارات اتُّخذت تحت ضغط الشارع التونسي الذي كان شارعا ثوريا بكل المقاييس.. يمكن أن نذكر أحداث القصبة الأولى والثانية والحشود الكبيرة، واجتماعات ما يُسمى بمجلس حماية الثورة الذي يضم أحزاب ومنظمات المجتمع المدني التي كانت ضد بن علي، لكن لا بد من الإقرار بنوع من الذكاء لدى من كانت في يدهم السلطة، ربما كامن الغنوشي الذي فُرضت عليه الاستقالة من القلائل الذين لم يتفاعلوا، وقدم تشكيلة حكومية، وأراد غلق قوس الثورة وفرض حكومة فيها نوع من الزينة، ولم يستوعب ما حدث. أنا رفضت أن أكون في تركيبة حكومته آنذاك، وتواصلت المناورات، وكانت فكرة تنظيم استفتاء من طرف هذه القوى التي لم تقبل بالتغيير، ثم جيء بالسيد السبسي.

عندما استحكمت مؤسسات الثورة، لماذا لم يتم سن قانون يحمي الثورة، وإقصاء رموز النظام السابق من العمل السياسي ومن الوظائف الحكومية، مثلما حدث في العراق أو بولندا، ولمنع عودة الثورة المضادة؟
أنا لا أمثل شخصي، بل أمثل التيار الفكري الذي أنتمي اليه، أنا أتصور أن هناك شيئا من الخصوصية التونسية في إدارة الأزمات من خلال التفاوض والبحث عن نقاط التوافق، وهذا يعود حتى إلى الفترة التسلطية التي سبقت الثورة، في نهاية الأمر ما حصل من تحييد المسؤولين في النظام السابق حصل من طرف الناس الذين لم يكونوا ثوريين، مَن حلَّ التجمع وبرلمان بن علي هو فؤاد المبزع والغنوشي والسبسي، ثم جاء القانون الانتخابي الذي منع القيادات التجمعية من المشاركة في المرحلة التأسيسية. وفي انتخابات 2011 حصلت النهضة على 90 مقعدا والتكتل 21 والمؤتمر 30 والتقدمي 17 والقطب 5، يعني القوى التي كانت ضد الدكتاتورية هي التي كانت في المجلس الوطني التأسيسي، ومن صعدوا إلى المجلس التأسيسي كانوا من الفاعلين في مرحلة بن علي وأغلبهم من تصدوا لسياسياته، أي أن هناك انسجاما عاما بين "قوى ثورية"، ما عدا بعض من مروا إلى المجلس كشعبويين أو مستقلين، وهذا شيء طبيعي.
وفي 2014 تغيّر المشهد، والحزب الوحيد الذي صمد هو حركة النهضة التي دخلت في تحالف مع حزب النداء ومع السبسي، النداء تفرق لاحقا لأنه لم يكن حزبا بالمعنى، السبسي جمع أناسا ضد النهضة ولم يجمعهم حول مشروع وبرنامج، وحصل ما حصل، ووجدت حركة النهضة نفسها فاعلا أساسيا لتحقيق هذا الاستقرار الضروري لإدارة الحكم في البلد، وبالفعل تطبّعت النهضة وكان نتيجة ذلك نوع من الاستقرار المجتمعي ومن الهدوء والسّلم الاجتماعي لمدة 5 سنوات، لكن في هذه المرحلة لم يكن التوافق إيجابيا، لأنه لم ينتج عنه أي إصلاح، سواء على مستوى المسار الديمقراطي وبناء المؤسسات وتجسيد ما جاء في الدستور، أو على المستوى الاجتماعي والاقتصادي.

هناك سؤال يُطرح دائما.. أنتم والنهضة والجبهة الشعبية وغيرها كنتم شركاء في السجون، وفي تجربة النضال المشترك ضد الديكتاتورية في هيئة 18 أكتوبر 2005. لماذا لم يبق شركاء السجون شركاء أيضا في الديمقراطية؟
حقيقة هذه من المفارقات التي تثير عندي شيئا من التحسر والألم، هيئة 18 أكتوبر من الهيئات التي جمعت كل الأصناف إلا الشيوعيين الذين رفضوا ذلك، مدة 4 أو 5 سنوات كان العمل شبه سري، نتحدث في الحريات ونصدر بيانات وكأننا مهدنا لما حدث بعد الثورة، وهذا سهل انخراطنا معا فيها.
للأسف مرحلة الإعداد للمجلس الوطني التأسيسي لم تكن ممتدة كما يجب حتى تتيح الفرصة للنقاشات الضرورية وتترك للقوى السياسية فرصة التنظم والوصول لحد أدنى من الاستقرار والفاعلية، في 2011 لم تكن لنا أحزاب مهيكلة، كان هناك حزب واحد حاكما (التجمع) وأزيح من الحكم، وحتى لو وقع حله فإن عناصره كانت موجودة في الساحة، وهناك النهضة موجودة شعبيا وكان من اليسير بالنسبة لها أن تتنظم في سنة واحدة، والقوة الثالثة هي الاتحاد العام للشغل.
أما القوى الأخرى فقد كانت أحزاب صمود ومقاومة للدكتاتورية خلال 50 سنة من نظام الحزب الواحد أو الحزب المهيمن، نحن كنا في حزبنا (التكتل من أجل الجمهورية) كحزب معترف به في وقت بن علي، ولكن كان المقر محاصرا والهاتف تحت التنصت، وحيث أسير ورائي البوليس.. إذا بعد سقوط بن علي كنا مازلنا مشاريع أحزاب، والخطأ الجسيم الذي وقعت فيه القوى بعد انتخابات المجلس التأسيسي أننا دخلنا في صراع وكأننا نعيش ديمقراطية عريقة لها أصول، يعني تصرفنا كأننا في ديمقراطية تامة الشروط، واعتبرنا أن الصراع على الحكم جاء وقته، في حين كنا مازلنا في المرحلة التأسيسية.
تحدثت حينها مع زملائي ورفقائي في هيئة 18 أكتوبر، والأستاذ الشابي وحمة الهمامي، طلبت منهم أن ينخرطوا في تكوين حكومة وحدة وطنية سميتها شخصيا في ذلك الوقت "حكومة مصلحة وطنية"، لكنهم رفضوا للأسف، لا أدري ما كانت حسابات كل طرف.. هناك من كان يتصور أن هذه الحكومة التي في يد النهضة لن تعمر طويلا، لكن في النهاية هذا الانسحاب أو رفض الدخول في تلك للحكومة سبَّب الكثير من التوترات، وما حصل في تلك الفترة من اغتيالات سياسية وعمليات إرهابية ومن تعطيلات حتى من صلب أشغال لمجلس التأسيسي، لدرجة أننا وصلنا إلى المصادقة على الدستور ب200 من بين 216 صوت، وهذا يكاد يكون معجزة! مجهود كان الأفضل أن نقوم به لتحقيق أشياء أخرى لو كانت هناك توافقات بين القوى التي تصدّت لاستبداد بن علي في تلك المرحلة، ربّما كنّا نبدأ في العديد من الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية التي لم يكن المناخ متوفرا لها.

كيف يمكن تقييم تجربة المجلس الوطني التأسيسي، كمجلس أسس وصاغ دستورا تعتبرونه واحدا من أهم وأكثر الدساتير تقدمية في الوطن العربي؟
هذا صعب، لأني كرئيس للمجلس الوطني التأسيسي من المفروض أن أقول كل شيء إيجابي، على صعيد المقارنة لا تجوز مع مجلس النواب الأول والثاني، والفرق واضح جدا، وهنا يأتي النفَس الثوري. دعنا نخرج من مسألة الثورية، ونقول إن نَفَس التّغيير في المجلس التأسيسي كان حاضرا، وبشهادة الجميع نجحنا في الوصول إلى دستور جديد في جانفي 2014، نعتبره دستور الحريات، دستور ديمقراطي لأنه يتضمن السلطة والسلطة المضادة، وتم سن اللامركزية، المبدأ الأساسي للديمقراطية التّشاركية.
كانت للمجلس مهمة رئيسة هي صياغة الدستور، ولو نقيِّم بشكل موضوعي، فإن المجلس نجح في وضع دستور الحريات، صياغته كانت تشاركية إلى حدود قصوى مع المجتمع المدني، وذهبنا إلى كل الدوائر الانتخابية لطرح الدستور، وأخذنا آراء الخبراء في تونس والخارج، نجحنا في تشكيل لجنة التوافقات لخلق مناخ جديد تشعر فيه المعارضة أنها عنصر فاعل. ولا ننسى الحوار الوطني عام 2013، الذي ساهم في تسهيل العملية والحوار والتفاوض عندما يتعلق بالدستور والحرية وقواعد العيش المشترك.

إذاً كيف يمكن فهم ما وقع بعد 2015، من تعطيل للمسار والانقسام السياسي، لدرجة أن من التونسيين من كره الثورة ومخرجاتها؟
المرحلة التأسيسية نجحت في وضع الأسس الصلبة للانتقال الديمقراطي، لكن الذي حدث في السنوات الخمس الأخيرة (بعد 2015)، كان هناك نوع من التجاذبات، ومرة أخرى كنا نتصرف وكأننا في ديمقراطية عريقة رغم أننا كنا في الخطوات الأولى من الديمقراطية الناشئة، وما تلاها من أشكال غير لائقة وتدنٍّ في الخطاب السياسي، وتلاسن وبعض أعمال العنف التي لا يمكن إلا أن ندينها. في الحقيقة ما طغى على المشهد هو حرب وصراع على المواقع، بينما يفترض في المرحلة التأسيسية أن نهتم بالتأسيس، وفي المرحلة الموالية نهتم بالبرامج، لأن تونس في حاجة لإصلاحات.
اليوم الصراع الهُوِّيُّ هو أول سبب لانقسام مسلمين وحداثيين، والصراع الثاني بين من يعتبرون أزلام النظام القديم ومن يُسمون بالثوريين، لأنهم ليسوا كلهم ثوريين، لقد غيبت هذه الصراعاتُ الصراعَ الذي تحتاجه إصلاحات الأوضاع في تونس، وهو الصراع التنموي والاقتصادي والاجتماعي، صراع الإصلاحات وكيف نحقق الهدف الأصلي للثورة، وهو العدالة الاجتماعية، وكيف نقضي على الجهوية والتفاوت بين الجهات، وكيف نقضي على الفقر والبطالة، بمعنى هذا هو "مخ الهدرة" الذي تركناه جانبا إلا في بعض المناسبات، وغصنا وتعمقنا وغرقنا في صراعات هامشية.

هذا الوضع دفع الكثيرين، بمن فيهم الرئيس قيس سعيد، لضرورة مراجعة الدستور ونظام الحكم القائم. هل لأن الدستور كان ظرفيا؟ أم أن التقييم الذي يتحدث عن مراجعة الدستور ينطلق من حسابات غير واقعية؟
لا بد من التوضيح، أولا من يتحدثون عن مراجعة الدستور 3 أصناف: رافضون للدستور وللثورة بكل ما أتت به. وهناك المختصون الذين عبروا في العديد من المناسبات، وأنا شخصيا لا أتخلف عن حضور الندوات وأستمع وأشارك، لأن هناك آراءً تُطرح عن بعض الفصول ذات الصياغة التي يصعب تفسيرها أو تأويلها، وهذا الخطاب لا بد من الإنصات إليه لأن الدستور ليس قرآنا. وهناك صنف ثالث للأسف سمعناه في السنوات الأخيرة، وهو الصنف الذي عندما عجز عن حلّ الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تستجيب لآمال التونسيين والتونسيات، راح يضع على كاهل الدستور ما لا يتحمله الدستور ولا الثورة، الذين يقولون: "ماذا قدمت لنا الثورة؟".
لنعد إلى أصل المشكل، أولا ماذا تريدون أن يتغير في الدستور؟ وفي أي باب؟ باب الحريات؟! هل تريدون الرجوع إلى نظام رئاسوي؟ ليقولوا لنا ذلك بكل وضوح! ثم الدستور، هل طبقناه؟ هل وضعنا المحكمة الدستورية المخولة بالحكم والتأويل؟ ألم يكن هذا الدستور هو الأداة الأساسية للتداول السلس في أزمة وفاة الرئيس السبسي في أقل من 48 ساعة؟ عندما كانت أزمة بين السبسي ورئيس الحكومة الحبيب الصيد، ألم يذهب الصيد بنص الدستور في مشكلة الرئيس السبسي ورئيس الحكومة يوسف الشاهد أيضا؟ روح الدستور كانت ضد أي نظام يعود بنا إلى الحكم الفردي أو التغول، فهل هذا الذي يجب مراجعته؟ لنستكمل البناء الدستوري على الأقل ثم نراجعه.
النقطة الأخيرة، من يدعو اليوم إلى مراجعة الدستور لأنه حقيقةً مقتنع أنه ليس هذا هو النظام المطلوب، فسنراجع الدستور حسب أي قاعدة؟ نمحوه ونقوم بثورة أخرى أم بانقلاب؟ أنا أعتقد أن مراجعة الدستور تخرجنا عن المشاكل التي يشكو منها التونسي اليوم، الفقر والبطالة وهشاشة القدرة الشرائية والوضع المالي الصعب والمديونية بلغت مستويات غير مقبولة، كيف سنخرج من هذا الوضع نتفق كلنا بأنه متأزم؟ كيف نترك هذا جانبا ونتحدث عن تغيير الدستور لأسباب يطول شرحها؟ عمليا ومنطقيا هذه محاولة لتحويل الأنظار من المشاكل الحقيقية التي تشكو منها تونس اليوم إلى مشاكل قد تبدو مهمة ولكنها ليست أولوية اليوم.

التونسيون يشعرون أن الشعار الذي خرجوا من أجله "شغل حرية عدالة اجتماعية" لم يتحقق، هل يمكن تحميل الثورة مسؤولية الفقر والبطالة والمشاكل الاجتماعية التي تعيشها تونس؟ أم أنها أيضا مخلفات تهميش النظام السابق للمناطق الداخلية؟
عندما قامت الثورة خرج الناس لأن الوضع كان متأزما وكارثيا، بالطبع كانت هناك أرصدة في الخزينة، لكن المنتفعين منها كانوا أقلية وليس الشعب، كانت الأوضاع غير مقبولة وتفاوت بين الجهات، ما استدعى الثورة ضد هذه الأوضاع، لكن الثورة كمفهوم مطلق أي ثورة لا يمكن تحميلها ما لا يمكنها تحمله، لأن هناك رسالةً، رسالة التغيير لفائدة الأغلبية، وهذا ما حصل، الأغلبية ثارت على وضع مرفوض، الجهات الداخلية مهمشة وتعرف نسبة بطالة عالية مقارنة بالمناطق الساحلية، حتى الاستثمار والتنمية والبنية التحتية ودور الشباب والملاعب إلى غير ذلك.. وهذه كلها أسباب قادت إلى الثورة، للأسف الشديد بعد 10 سنوات مازالت الأوضاع قائمة.
رغم ذلك لا يمكن أن نحمِّل الثورة ذلك، فهي حركة شعبية اجتماعية، علينا أن نعود للتاريخ، كيف عاشت البلدان بعد الثورات؟ لا بد من ثمن ولا بد من مرحلة انتقالية، وهي من أصعب المراحل وأدقها بعد الثورة، لأن فيها تكلفة، إذا تعاملنا بذكاء فستكون التكلفة معقولة زمانيا وماديا، وإلا ستكون الكلفة كبيرة، وهناك بعض الدول مازالت في مرحلة انتقالية منذ ثوراتهم قبل عقود.
الأسباب التي تركتنا في هذا الوضع هي أننا أعطينا الأولوية لصراع المواقع الذي نعيش فيه يوميا مقارنة بصراع البرامج، والصراع مبني على من مع الثورة ومن ضدها، وعلى الهوية، وليس على الآليات والبرامج. علام تُبنى الديمقراطية؟ على النصوص. الدستور لم يتم احترامه، والسبب أن الآليات الأساسية غير موجودة، نحن مازلنا أمام "أحزاب فاست فود" التي تُبعث ليلة الانتخابات. لدينا 228 حزب معتمد اليوم، بينما يتحدث تقرير محكمة المحاسبات أن 50 منها تقريبا لها معروفة ولها عنوان، والباقي بلا عنوان حتى.. فهذا تعدد دون تعددية في الحقيقة، أو تعددية لكنها غير منظمة. ثانيا: أين هي الأحزاب التي تمويلها شفاف وتسير بشكل ديمقراطي؟ نقف على سياحة حزبية وخصومات تحت قبة البرلمان، وأحزاب ليس لها قواعد تحاسبها، فكيف تُبنى الديمقراطية؟ الديمقراطية تُبنى بآليات الرقابة.
أيضا عدم التواصل والاسترسال على مستوى تسيير البلد.. شهدنا من 2011 إلى يومنا هذا عدد كبير من الحكومات المختلفة في المناهج، وأغلبها حكومات تصريف الأعمال لم يكن لها الإرادة ولا القدرة ولا الوقت لتضع برامج إصلاحية تذهب إلى عمق المشاكل وتفتح الآفاق لنموذج تنموي وإصلاحات جذرية على المستوى الاقتصادي والاجتماعي. ثم إن هناك على كثير من المستويات أشياء لم تتغير منذ هروب بن علي، أنا مثلا 50 سنة من فترة بورقيبة وبن علي لم أدخل الإذاعة والتلفزيون بسبب التضييق، ثم حصلنا على حرية الإعلام والتنظم وحرية الفكر، وهذه مكاسب عظيمة، لكن من يمسك بوسائل الإعلام مثلا؟ هذه الوسائل ليست بأيدي الثوريين أو من يشتغلون على التغيير.

عرفت تونس الإرهاب قبل الثورة، وعرفت اغتيالات سياسية وعمليات إرهابية بعد 2011.. كيف ترى هذه الظاهرة بعد الثورة: هل هذه العمليات فعلا صناعة أم مؤامرة من الخارج، أم هي منتج تونسي صنعته الظروف؟
لو انحصر الإرهاب في تونس لقلت لك منتج تونسي، لكنه عالمي وليس تونسيا، بقي السؤال المطروح: لماذا بالأرقام يكون عدد التونسيين المنخرطين في بعض بؤر الإرهاب والتوتر مرتفعا؟ التفسير بسيط في رأيي، الإرهاب لا يمكن أن يتحمله أي طرف سياسي في البلد، ولاحظ أنها أسئلة خطيرة لأنها تحتاج إلى معالجة على المستوى المتوسّط والبعيد، وتحتاج حلولا تتعدى الحلول الأمنية: سياسية واجتماعية وثقافية وفكرية، الأسباب الواضحة هي أننا في 20 سنة من فترة بن علي لا نعلم شيئا عن تونس إلاّ عبر الفضائيات الخارجية، الشباب الذي شارك في الإرهاب لم تُكوِّنه أحزاب ما بعد الثورة، هم شباب تكوّنوا في فترة بن علي وفترة العصا الغليظة. ثانيا بعد الثورة الحدود لم تكن محمية، الأغلبية القصوى من الشباب الذين تنقلوا خارج تونس ذهبوا في تلك الفترة 2011، عندما لم يكن الوضع مستقرا وكان الغنوشي رئيسا للحكومة، الأرقام موجودة.
ثالثا: الفترة التي تلت الثورة جاءت بالفكرة الجاثمة على الأدمغة وهي فكرة الحرية، حيث كانت فترة ارتخاء تساوت فيها الحرية مع التطرف، وقع في هذه الفترة نوع من التراخي، هناك من يتهم الترويكا (حكومة النهضة والمؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل من أجل الجمهورية)، لكن الترويكا خرجت من الحكم في جانفي 2014، وفترة المشاكل الأمنية الحقيقية والتكلفة الكبيرة كانت في 2015، فهل يمكن أن نقول إن النداء الذي كان يحكم عام 2015 هو المسؤول عن العمليات الإرهابية التي وقعت في نزل سوسة ومتحف باردو في 2015 وفي شارع بورقيبة وتفجير مجموعة الحرس الجمهوري؟ يجب معالجة المشاكل الحقيقية بالعمق المطلوب والموضوعية المطلوبة، وليست مسألة السياسيين فقط والمختصين، لكننا للأسف نترك هذا كله جانبا، ونقول إن المنافس السياسي هو المسؤول عن الإرهاب.

هل تعتقد أن الإرهاب، إضافة إلى كل الأسباب الموضوعية، كان لعبة طرف خارجي، أو أن ظرفا خارجيا ساعد على إقحامه في المشهد التونسي؟
نعم، هذا لا يغيب على أي محلّل لتقييم التّجربة التّونسية، طبعا التجربة التونسية ليس منظورا لها بكثير من التفهُّم أو التسامح أو الحماس، هناك من ينظر إليها بأنها تقضّ بعض المضاجع، وهذا دون أن نتهجم أو نوجّه أصابع الاتهام لأي طرف من الأطراف بشكل محدد، لكن لا شكّ أنها تجربة لا تُعجب الجميع، وشيء طبيعي أن يكونوا مشاركين في عمليات إرهابية وتكون لهم مساهمات بشكل ما، قلتها من قبل إن الإرهاب ليس له حدود، ولا يمكن مقاومته إلا إذا كان الجدار الداخلي موحّدا وصلبًا وصامدا، والبلدان التي تعمل بشكل ديمقراطي وتحل مشاكلها بالتشاور داخل المجموعة الوطنية لا خوف عليها.

من خلال حركة النهضة وأدائها في المجلس التأسيسي وفي المراحل اللاحقة، كيف تنظر إلى تجربة الإسلاميين: هل أمكن لهم الانخراط في الحالة الديمقراطية؟ هل تقدم النهضة خصوصية تونسية أيضا؟
كما قلت هناك خصوصية تونسية هي التدرّب على إدارة الأزمات وثقافة التفاوض، شيء يفسّر إلى حد بعيد لماذا تجاوزنا بعض الأزمات في أحلك الظروف، وينطبق هذا على تاريخ الحياة السياسية، ومن هذه الخصوصية ما يسمى الإسلام السياسي الذي جاءت به الظروف للحكم، كانت له نوع من القيود المستبطَنة، لكن أنا مازلت مقتنعا بأن الإسلاميين في تونس، أي حركة النهضة، لا بد أن يكونوا طرفا من الأطراف، ومن شيطنهم وصعد للسّلطة كان أول من تحالف معها، أقصد السبسي، وكان يمكنه أن لا يتحالف معها، لكنه اختار أن يتحالف معها وترك من ساندوه، بينما عندما اشتركنا مع النهضة في الترويكا قالوا بن جعفر خان القضية! هم مواطنون يطبق عليهم القانون.
ثانيا وإحقاقا للحق، عندما ترى التراكمات لدى النهضة من مؤتمر ومؤتمر، ونحن نحاسب على أساس الممارسة، تجد في حركة النهضة إرادة واضحة لدى القيادة للاندماج في المجتمع التونسي بكل خصوصياته واحترام النتائج واحترام الديمقراطية، فهو يقبل النتائج ربحا أو خسارة. ثالثا: قدرة الحركة على التأقلم مع المناخ الدولي، وقراءة جيدة نسبيا للتوازنات الإقليمية والعالمية، وهو نتيجة واضحة لتصرف النهضة التي حاولت أن تطبع علاقاتها مع محيطها. رابعا: على مستوى الأفكار المنهجية فصلها بين الدّعوي والسياسي، أظن أنها قامت بخطوات حقيقية في هذا المنحى.
النهضة لديها أخطاء ومشكلة من الناحية الاستراتيجية، في مسارها لم تُحافظ على صديق، في اختيارها للعلاقات تميز من يكون تابعا، مسألة المشاركة وفلسفة الشريك الحقيقي غائبة لديها، ومن خلال التصرف تتعامل مع الرابح ولا تتحالف مع الضعفاء، أي حسابات خارجة عن الفلسفية المبدئية، إذا خان الزمانُ صديقَك فلا تتركه وقد كنتَ تجده وقت الشدّة، أما النهضة فتمحو وتعيد بناء شراكة جديدة، وفي الحقيقة هذا أمر داخل في اللعبة السياسية التي لا يمكن أن تكون دائما منسجمة مع الأخلاق السياسية. لكن للأسف بقدر مقدرة النهضة على المراوغة والتسيير والتأقلم مع الأوضاع وموازين القوى لفائدتها، وفي غير فائدتها، فإن القوى الحداثية الديمقراطية التي تحمل مشروعا محترما مشتَّتةٌ وليس في صلبها حوار جدّي حول هذه القضية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.