ظللتُ على مدى العقود الماضية مؤمنا بأن حمَلة الشهادات العليا أو الذين أوتوا حظا من التعليم العالي، هم أبعد ما يكونون في الوقوع في الفخاخ التي ينصّبها الجهلاء هنا وهناك. وما كان أشد سذاجتي حين اكتشفت خلال العقدين الأخيرين، أن أولئك الذين عوّلت عليهم في هذا الشأن ظلوا يفتقرون إلى أرضية فكرية صلبة يقفون عليها، ثم ينطلقون منها واثقين من أنفسهم صوب هذا العالم العريض لتطويعه. ولقد أُصبت بما يشبه الزلزلة عندما قيل في مطلع التسعينات من القرن الماضي، إن أحد المهندسين في الإعلام الآلي بمدينة جزائرية عريقة في العلم، كان يتلقى أوامره من إسكافي ينصّب دكانته المتنقلة في زاوية من زوايا تلك المدينة الأصيلة. وكان ذلك المهندس مناضلا في الجبهة الإسلامية المحظورة. وقد أردت التثبت مما قيل لي يومها بشأن تلك الواقعة العجيبة، لكنني عندما رأيت سيل الدماء في بلادي بدأت أتخلى عن سذاجتي تلك بعد أن صاحبتني عقودا من الزمن. ما ظننت يوما أن حاملي الشهادات الجامعية العليا قد يرتكبون أبشع المجازر في حقوق شعوبهم التي دفعت الغالي والنفيس من أجل تعليمهم، إما في عقر ديارهم وإما في كبريات الجامعات العالمية. وقد ثبت لي بعد ذلك أن معظمهم تقوقعوا على أنفسهم وراء طلاء براق، وأنهم مستعدون في أية لحظة لكي يعودوا إلى الجهل الذي ضرب أطنابه في مجتمعاتهم. الشهادات العليا في هذا العالم العربي تفتقر في معظمها إلى التناغم والتناسق مع المجتمعات العربية. وأنا في هذا الشأن لا أستثني إلا القليلين من حمَلة تلك الشهادات؛ أي من أولئك الذين سفحوا دماءهم وتعذبوا من أجل تغيير الواقع الاجتماعي والسياسي المرير الذي تتخبط فيه مجتمعاتهم. الدكتور الفلاني، والمفكر الفلتاني، والشاعرة الفلانية، والروائي الفلاني، ليسوا في حقيقة الأمر إلا أناسا ارتدوا أحدث الأزياء القادمة من الخارج، ووضعوا أربطة العنق المزركشة، ورفعوا أصواتا منكرة كاذبة في العديد من الأحيان. والواقع العربي يثبت لي ذلك بما لا يدع مجالا للشك. الدكتور الفلاني الذي يعيش في باريس وينادي بتحرير سوريا هو في حقيقة الأمر تاجر أفكار تَجنّس بالجنسية الفرنسية، وعاش طيلة أيامه بعيدا عن عذاب الشعب السوري. وأنا لا أريد في هذا الشأن ذكر اسمه؛ لأنني أربأ بنفسي عن ذلك، والناس كلهم يعرفونه. فرنسا أعطته قطاعا علميا عريضا في أحد مختبراتها الاجتماعية بباريس، وهو ينادي بتحرير سوريا، ولكن دون أن يضع قدما في أرض بلاده. وحاكم سوريا الحالي يحمل شهادة الدكتوراه في الطب أيضا، لكنه لا يتردد في قنبلة أبناء بلده! والدكتور محمد مرسي، ذلك الذي كان رئيسا لمصر لعام واحد، لا يشذ عن هذه القاعدة من حملة الدكتوراه الذين يتنكرون لشعوبهم ولا يترددون في سفك الدماء! هذه الخريطة المشبوهة من حمَلة الدكتوراه هي في جميع العالم العربي! ولذلك بتُّ مؤمنا بأن تلك الشهادات إنما هي شهادات "تراكتورات" صدئة، تفتّت بجنازيرها الصدئة عظام المقهورين من العرب وتزيدهم قهرا على قهر! فارحمونا أيها القوم من هذه الصفة التي صارت بذيئة، وأعني بها صفة "الدكتوراه"، التي ما ناسبت في يوم من الأيام واقعنا المرير، اللهم إلا من استثناءات قليلة جدا! طه حسين لن يتكرر، وزكي نجيب محمود لن يتكرر، وعابد الجابري لن يتكرر، وعبد الله الركيبي لن يتكرر، وأبو القاسم سعد الله لن يتكرر، وشكري فيصل لن يتكرر، ومصطفى مشرفة لن يتكرر، وعبد العزيز المقالح لن يتكرر، وقسطنطين زريق لن يتكرر، والعشرات من النوابغ لن يتكرروا أيضا، إنما يتكرر في عصرنا هذا المهندس في الإعلام الآلي، ذلك الذي يأتمر بإمرة الإسكافي. إنما يتكرر في عصرنا هذا الحاكم، حامل الدكتوراه، ذلك الذي يقتل شعبه. إنما يتكرر في عصرنا هذا أولئك الذين يحملون شهادات عالية لكنهم لا يقفون على أرضية فكرية عريقة، هي أرضية أجدادهم وأسلافهم وأرضية العلم الصحيح في هذا الزمن! فارحمونا، بربكم، من هذه الصفة البذيئة، صفة الشهادات العليا التي يرتكب حمَلتها أبشع المناكير!