اليوم، وأنا أطالع نبذة عن حياة العالم والأديب المصري الدكتور حسين فوزي (1900- 1989)، استعدت صورته وقد وقف قبالتي ذات يوم من عام 1969 في مكتب من مكاتب الترجمة بنادي الصنوبر، كان ذلك بمناسبة انعقاد مهرجان الثقافة الإفريقية الأول، الذي كان فلتة من فلتات الثقافة المعاصرة في هذه الجزائر. كنا قضينا الليلة الفائتة مشدودين إلى شاشات التلفزة المبثوثة في أروقة نادي الصنوبر، وقد راحت تنشر مشاهد حية عن هبوط أول إنسان على سطح القمر. وقد ذهب الظن بالجميع في تلك الليلة إلى أن مهرجان الثقافة الإفريقي سيندثر اندثارا كليا أمام ذلك الحدث العلمي العظيم، الذي نقل الإنسانية من طور إلى طور آخر. لكن صور الإنسان وهو يهبط على سطح القمر ظلت في مكانتها السامقة، كما أن مهرجان الثقافة الإفريقية ظل هو الآخر على نفس المستوى الذي كان منتظرا منه في العالم كله. كنت يومها منتدبا في قسم الترجمة بنادي الصنوبر تحت قيادة أستاذي المرحوم الدكتور حنفي بن عيسى، الذي كان يسيّر دفة الأعمال بمهارة ما لها نظير وبأخلاقيات رفيعة جدا وإذا بي أجدني وجها لوجه مع الأديب المصري حسين فوزي، الذي سبق لي أن قرأت عندئذ عددا من الكتب التي وضعها في الأدب وفي الموسيقى وفي الرحلات. ولعل كتابه الشهير ”سندباد مصري” كان أهم تلك الكتب على الإطلاق بالإضافة إلى ما نقله من كتب عن الفرنسية والإنجليزية في مضمار الموسيقى الكلاسيكية. ثم لفت نظري أيضا أن هناك شخصا آخر لا يقل سموقا عنه في مجال الأدب، وأعني به الشاعر المصري الراحل صلاح عبد الصبور (1930-1980) صاحب العديد من الدواوين الشعرية، ومؤلف مأساة الحلاج المتميزة، كان على العكس من رفيقه حسين فوزي، صاحب قامة عملاقة، منحني الظهر قليلا، ولست أدري ما إذا كان ذلك عن تواضع منه أم عن طبيعة خلقية. عيناه الكبيرتان تشتعلان اشتعالا، ولكن حركاته كانت تكشف عن حسن أدب واحترام كبير للأستاذ حسين فوزي، رئيس الوفد المصري. سألني الدكتور حسين فوزي: هل هذا هو مكتب الترجمة؟ أجبت أن نعم، ولكن الأستاذ المشرف على التدقيق والتنقيح اللغوي ليس موجودا، وأعني به الدكتور حنفي بن عيسى. ثم إنه بسط على مكتبي مجموعة من الأوراق المكتوبة بخط يده وباللغة الفرنسية، وقال لي بكل تواضع: أريد منك أن تراجع أسلوبي بالفرنسية. وكان ينوي إلقاء كلمته في المهرجان باللغة الفرنسية خلافا لما كان منتظرا منه، لأنه كان يدرك أن اللغتين الغالبتين على أشغال المهرجان هما الفرنسية والإنجليزية، وأن الحاضرين من مختلف الوفود الإفريقية والعالمية كانوا من الذين يستخدمون هاتين اللغتين، ولعله رأى أن المقولة الشائعة: وخاطب الناس بما يفهمون هي التي كانت وراء كلمته التي يريد إلقاءها باللغة الفرنسية دون الاستعانة بمترجمين فوريين، كما هي العادة في مثل هذه الملتقيات الفكرية. اضطربت في جلستي، وأبديت ترددي، إذ كيف لي وأنا المبتدئ في حقل الترجمة والأدب والصحافة بصورة عامة، أن أراجع أسلوب عالم وأديب في مستوى الدكتور حسين فوزي؟ ولعله لمس على الفور اضطرابي ذاك، فإذا به يشجعني بقوله: لا ضير في أن تراجع ما كتبته، يا بني! ووددت في تلك اللحظات الصعبة أن لو كان إلى جانبي الدكتور حنفي بن عيسى لكي يشد من أزري ويعضدني في ذلك العمل، بل إنني تمنيت أن يدخل علينا المكتب ويريحني من عناء تلك المجابهة الثقافية التي ما كانت في صالحي. قرأت كلمة الدكتور حسين فوزي على وجه السرعة فاستحسنتها، وقلت له بدوري: أنت صاحب أسلوب متميز، يا أستاذ، بالعربية وبالفرنسية. وقد سبق لي أن قرأت العديد من كتبك ومقالاتك الأسبوعية في صحيفة الأهرام. وكان في ذلك الأسبوع، على ما أذكر، قد نشر مقالة في الأهرام عن الكاتب الأمريكي الإنجليزي ”هنري جيمس”، وبالذات عن روايته ”ساحة واشنطن”، فاستحسنتها أيما استحسان. الدكتور حسين فوزي عالم وأديب، وهو متخصص في الأحياء المائية، ونال شهادة الدكتوراه من فرنسا عام 1926؛ أي قبل مجيئي إلى هذه الدنيا بتسعة عشر عاما، لكن العلم هو العلم، والتواضع هو التواضع. إنه جيل من العلماء والأدباء لم يتكرر بعد ذلك. ما عدت شخصيا أجد أمثال أولئك الأفذاذ الذين كانوا يطربونني ويغنونني بعلومهم وأفكارهم، وأعني بهم طه حسين والعقاد والمازني وأحمد أمين والزيات ومن لف لفهم من الذين ازدهت بهم مصر في النصف الأول من القرن العشرين. ومازلت إلى حد الساعة أنظر إلى الدكتور حسين فوزي نظرة إكبار وتقدير، وأعجب كل العجب من تواضعه الجم!