تكاد تكون المقاطعة ملازمة للتمرّس السياسي لبعض الأحزاب، و الشخصيات السياسية في الجزائر، كلما اقترب تنظيم المواعيد الانتخابية، وهو السياق الذي يثير العديد من التساؤلات حول مدى قدرة هذه التشكيلات على إثبات نفسها في الحقل السياسي من أجل التعريف بنفسها في المقام الأول، على ضوء معايير تتمثل أبرزها في التقرّب من المواطن والوقوف عند انشغالاته من أجل استحداث تصورات واقعية، تمكّن هذه الأحزاب من ايصال رسائلها بأدوات إقناع منطقية. فبعد مقاطعتها الانتخابات مازالت هذه الأحزاب والشخصيات السياسية تصر على السير عكس التيار بإعلانها مقاطعة مراسم تأدية الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، لليمين الدستورية المقررة اليوم بقصر الأمم، متوهمة بأن مثل هذا السلوك قد يحقق لها ما تصبو إليه في فرض منطقها الذي يتنافى مع الإرادة الشعبية التي أفضاها استحقاق 17 أفريل الجاري. ولا ندري كيف لم يتعلم دعاة المقاطعة من الدروس السابقة، بعد أن تبين لهم بأن هذا السلوك السلبي لم يعد سلاحا فعّالا في التأثير على الاستحقاقات الانتخابية التي تنظمها البلاد، انطلاقا من أن الذرائع والحجج التي تقدمها هذه الأطراف لا تستند إلى مبررات مقنعة. والواقع أن القضية أكبر من مجرد توجيه اتهامات، بل إنها ترتكز بالأساس على طريقة ممارسة الأحزاب الوطنية لما يمكن تسميته ب«السياسة المناسباتية” التي تقترن عادة بالمواعيد الانتخابية، لتكون نتيجتها الفشل المحتوم الذي غالبا ما تحمّل مسؤوليته للشعب الذي يلام على خياراته! وإذا كان دعاة المقاطعة يبررون عدم حضورهم مراسم تأدية اليمين الدستورية، وفق ما أسموه ب«التعدي الصارخ على الدستور، وفرض منطق القوة على الجميع”، فإن ذلك يعد محاولة لضرب مصداقية الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي جرت في أجواء من النزاهة والشفافية بشهادة بعض المترشحين للرئاسيات أنفسهم، إضافة إلى الملاحظين الدوليين الذين أشادوا بوعي الشعب الجزائري ونضجه السياسي في ممارسة واجبه الانتخابي. من خلال هذا الموقف يتبين أن المقاطعين يصرون على اشهار سلاحهم رغم قناعتهم بأنه لا يجدي نفعا، وهو ما يطرح السؤال: لماذا كل هذا الإصرار، هل هو لمجرد تبرئة للذمة والنأي بالنفس، أو لتسجيل موقف فحسب؟ وهل يمكن إحداث التغيير الذي تتحدث عنه هذه الأطراف بهذا الموقف السلبي. وإذا كانت الأحزاب المقاطعة تبرر موقفها بحدوث التزوير، وبأن الاستحقاقات محسومة، وبأنها تسعى بمقاطعتها إلى معاقبة السلطة وتعريتها أمام الرأي العام الوطني على وجه الخصوص، والرأي العام الدولي بصفة عامة، فان الرأي العام لم يعد يرحب كثيرا بهذا الخيار بعد أن اقتنع بإن لجوء الأحزاب السياسية في الجزائر، إلى سلوك المقاطعة كان اضطراريا وتقف وراءه مبررات قد تكون متعلقة بافتقار أغلبية الأحزاب لرصيد سياسي يمكّنها من أن تحظى بمكانة حقيقية في المجتمع بسبب محدودية نشاطها. والواقع أن تبنّي الموقف السلبي بمقاطعة الاستحقاقات الوطنية، والذي لا يبرره سوى عجز هذه الأحزاب عن فرض مكانتها، ما هو إلا نتيجة لرفض مسايرة التطورات السياسية التي تشهدها البلاد، علما أن النشاط السياسي ليس مقرونا بحدث ما، بل هو ملازم للحياة اليومية للمواطن من خلال النضال بالأفكار والبرامج بطريقة سلمية وليس بعقد الجمعيات والمؤتمرات الدورية والطارئة في قاعات مغلقة، والتي غالبا ما تخصص لفك النزاعات الداخلية. ونتذكّر جيدا كيف طلب رئيس الجمهورية، من الأحزاب السياسية تنظيم نفسها في بدايات حكمه من خلال الدعوة إلى هيكلة نفسها، وفرض مكانتها السياسية في المجتمع، وعدم اقتصار ممارسة النشاط السياسي على المناسبات فقط، كون ذلك ينتقص من قيمتها أمام المواطنين، بل ذهب في أحد حواراته إلى وصف هذه التشكيلات بالنوادي بسبب محدوديتها في طرح الأفكار، والوعود التي لا تمت بصلة للواقع، وهو ما تجلى في الحملة الانتخابية الأخيرة التي لم تستقطب تجمعات بعض المترشحين اهتمام المواطنين الذين لم يهضموا الوعود الوهمية التي قدمها لهم بعض المترشحين. وقبل الحديث عن المقاطعة كان من الأجدى لهذه الأحزاب السياسية أن تفكر في مراجعة نفسها، وأساليب عملها، وبالخصوص التعاطي مع ما هو قائم من الأوضاع بنظرة استشرافية تؤهلها لأن تكون طرفا فاعلا في المعادلة السياسية خلال الاستحقاقات القادمة، وقبل ذلك إقناع نفسها بأن التصويت يعد واجبا أكثر مما هو حق من حقوق المواطن، ووجها من أوجه السعي إلى تجسيد السيادة الوطنية.