التفسير الوحيد لحالة الغليان الاجتماعي والنقابي الذي تعرفه فرنسا هذه الأيام، بحيث اتحدت ثمان نقابات لأول مرة في تاريخ فرنسا النضالي، وجندت أكثر من مليون ونصف شخص في الشارع، لا يمكن فصله عن أزمة الليبرالية في العالم اليوم، لكنه يكمن في الوقت ذاته في استفحال أزمة نابعة من الخصوصية الفرنسية. أدت النيو ليبرالية المفرطة التي تركت السياسات الاجتماعية جانبا، إلى حافة الانهيار. وربما هو ما أدركه النظام الجزائري في السنوات الأخيرة، فراح يقلل من توجه التخلي عن المؤسسات الاقتصادية الوطنية لكبريات المجمعات المالية العالمية. وبينما عادت عدة دول أوروبية وعلى رأسها ألمانيا للسياسات الاقتصادية التي تحفظ المجتمع من هيمنة رأس المال، نجد أن دولة مثل فرنسا ما تزال تتعنت وترفض السير في اتجاه التأميم رغم أن الأزمة المالية مستفحلة بها بشكل مخيف. والنتيجة أنها هي البلد الأوروبي الوحيد الذي يعرف حاليا اضطرابات اجتماعية قد تؤدي إلى رهن انتصار اليمين، وتكشف زيفه. وقد اتضح جليا أن انتصار اليمين في فرنسا، لم يكن بسبب انجازات اقتصادية، ولا هو راجع للقدرة على تحقيق التوازن الاجتماعي، بل راجع لخطابات أيديولوجية وطائفية، تقوم على الخوف من الآخر، وعلى محاولة الحفاظ على الهوية الفرنسية من الاندثار وسط تأثيرات غير التأثيرات المسيحية. فاليوم بعد استفحال الأزمة بشكل كبير، ما الذي تقدمه هذه الخطابات العنصرية لفئات اجتماعية انزلقت نحو الفقر، والبطالة؟ علما أن الرئيس نيكولا ساركوزي مولع بالسياسات الاقتصادية الأمريكية، وبنمط الحياة بها. وهو بذلك يغازل الضرة اللدود لفرنسا. فأمريكا في أعين فرنسا تقوم على الكراهية الشديدة على اعتبار أن هذه الأخيرة تحاول فرض هيمنتها وثقافتها على الفرنسيين الذين هم في الأصل يعتزون بثقافتهم الفرانكفونية ويعتبرونها أعظم ثقافة في العالم. ويمكن تقديم قراءة بخصوص عدم اكتراث ساركوزي بالسياسات الاجتماعية من خلال قضية جوني هاليداي، الذي فر بتأييد وتشجيع من ساركوزي إلى سويسرا متهربا من دفع الضرائب الباهظة للحكومة الفرنسية. وكان تأييد ساركوزي للمغني الفرنسي بالذهاب إلى سويسرا لعدم دفع الضرائب نقطة سوداء تفسر هذا التخلي الواضح لما قد يساهم في تحقيق التجانس الاجتماعي والشروع في سياسات اجتماعية. إن الشيء الوحيد الذي قدمته السياسات الليبرالية في فرنسا مع صعود ساركوزي، هو اللعب على أوتار الصراعات الطائفية والدينية، بدل العمل على تحقيق العدالة الاجتماعية، وقد تمكن أكثر الوزراء عنصرية في حكومة فيلون الحالية، بوريس أوتوفو، من طرد أكثر من ثلاثة آلاف مهاجر إفريقي الأشهر القليلة الماضية. لقد انتشر الفكر اليميني في فرنسا بفضل ترويجه لأفكار عنصرية طائفية. وهذا هو الخطاب الذي يستعمله اليمين لكسب الأصوات والتأثير على الشعب الفرنسي، حتى قبل أن تنتشر الأزمة. أعتقد أن المفكر السياسي "نيكولاس بافاريز" لم يخطئ عندما لم يتردد في كتاب مثير بعنوان "فرنسا التي تنحدر"، إلى إصدار حكم قطعي بأن فرنسا بدأت فعلا في الانحطاط بشكل متسارع. ومن جهته تحدث آلان ديهاميل في كتاب بعنوان "الضياع الفرنسي"، عن تعداد أوجه هذه الأزمة المتفاقمة، مركزا على ثلاثة منها هي الانهيار المؤسسي المتمثل في جمود وتكلس المؤسسات الدستورية، والقطيعة المتزايدة بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني، والانهيار الأيديولوجي الذي تجسد في تحطم التقليدين الوطنيين الكبيرين اللذين تقاسما الساحة الفرنسية منذ الحرب العالمية الثانية، وهما التقليد الديغولي اليميني والتقليد الشيوعي اليساري، وانتشار سياسات قائمة على الفكر الطائفي تغذيه أوساط مالية عنصرية. ويستنتج ديهاميل أن فرنسا فقدت حيويتها وثقتها في نفسها، كما أضاعت مثالها، ولذا تعاني أزمة هوية متفاقمة، زادتها حدة أزمة اجتماعية مخيفة.