بسكرة: زيارة موجهة لفائدة ممثلي وسائل الإعلام إلى مركز التكوين للقوات الخاصة    التكفل ب76.81 بالمائة من انشغالات المواطنين.. معالجة أكثر من 40 ألف شكوى من طرف هيئة وسيط الجمهورية    التقى وزيري النقل والطاقة لسلطنة عمان.. بوغالي يسترض واقع وآفاق قطاعات النقل والاتصالات والرقمنة في الجزائر    عبد الرشيد طبي : ضرورة تثمين الهياكل القضائية بتقديم خدمات نوعية للمواطنين    الأغواط : أبواب مفتوحة على مركز التدريب للدفاع المضاد للطائرات    البنك الوطني الجزائري: رقم الأعمال يرتفع بأكثر من 27 بالمائة في 2023    العدوان الصهيوني : الأمم المتحدة تطالب بتحقيق دولي في المقابر الجماعية التي عثر عليها بمستشفيات غزة    مطالب بحماية الشعب الصحراوي من الاضطهاد المغربي    برج بوعريريج.. تخصيص 194 مليار سنتيم لتحسين ظروف التمدرس    العاصمة.. إحصاء 248 مشروع تنموي في مختلف القطاعات    برج بوعريريج.. مشروع ازدواجية الطريق الوطني رقم 76 يرى النور قريبا    التراث والأدب.. ثنائية مُؤسّسة للحضارة الإنسانية    الاجتماع التشاوري الأول بين قادة الجزائر وتونس وليبيا: ضرورة توحيد المواقف وتكثيف التشاور والتنسيق    الخطوط الجوية الجزائرية : عرض جديد موجه للعائلات الجزائرية في العطلة الصيفية    المجمع الجزائري للغة العربية يعلن عن تأسيس الجائزة الوطنية في علوم اللغة العربية    دورة اتحاد شمال افريقيا (أقل من 17سنة) : "الخضر" يتعادلون أمام تونس ويواجهون ليبيا اليوم    عرقاب يعلن عن استحداث 4 معاهد تكوينية متخصصة في المجال المنجمي    فلسطين: انتشار مكثف لجنود الاحتلال في القدس وغلق كافة الممرات المؤدية للمدينة    مجلس الأمة يشارك من 26 إلى 28 أبريل بإسطنبول في مؤتمر "رابطة برلمانيون من أجل القدس"    تشاد..نجامينا تستعد لطرد القوات الأمريكية    شباب بلوزداد – اتحاد الجزائر عشية اليوم بملعب نيبسون مانديلا : دريبي عاصمي جديد من أجل نهائي كأس الجزائر    لغروس في بسكرة: وضع حجر أساس مشروع إنجاز محطة توليد الكهرباء بالطاقة الشمسية    الإحصاء للعام للفلاحة : تحضيرات حثيثة بولايات جنوب الوطن    القمة الرقمية الإفريقية : 80 بالمائة من الجزائريين يستفيدون من الأنترنيت    أرمينيا وأذربيجان تعلنان عن بدء عملية تحديد الإحداثيات لترسيم الحدود بينهما    موسم الحج 2024: يوم تحسيسي لفائدة البعثة الطبية المرافقة للحجاج    رئيس مجلس التجديد الاقتصادي الجزائري يتحادث مع المدير العام لمنظمة العمل الدولية    رأس الحمراء و"الفنار".. استمتاع بالطبيعة من عل    دعوة لإنشاء جيل واع ومحب للقراءة    فرصة جديدة لحياة صحية    بطولات رمز المقاومة بالطاسيلي ناجر..تقديم العرض الشرفي الأول للفيلم الوثائقي الطويل "آق ابكدة .. شمس آزجر"    لعقاب: ضرورة توفر وسائل إعلام قوية لرفع التحديات التي تواجهها الجزائر    حج 2024 : استئناف اليوم الثلاثاء عملية حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان الوطني للحج والعمرة    القرار سينفذ هذا الصيف: منع كراء عتاد الاستجمام و زوارق النزهة بشواطئ عنابة    سطيف: تحرير شاب عشريني اختطف بعين آزال    ساهم في فوز فينورد بكأس هولندا: راميز زروقي يتذوّق أول لقب في مشواره    فيما انهزم شباب ميلة أمام الأهلي المصري: أمل سكيكدة يفوز على أولمبي عنابة في البطولة الإفريقية لكرة اليد    مؤشرات اقتصادية هامة حقّقتها الجزائر    صعلكة    استدعاءات الباك والبيام تُسحب بداية من 9 ماي    وزارة الفلاحة تنظّم ورشات لإعداد دفاتر أعباء نموذجية    "التاس" ملاذ الفاف وسوسطارة: الكاف تدفع لتدويل قضية القمصان رغم وضوح القانون    منصّة رقمية لتسيير الصيدليات الخاصة    90 % من الجوعى محاصرون في مناطق الاشتباكات    سنقضي على الحملة الشرسة ضد الأنسولين المحلي    بنود جديدة في مشاريع القوانين الأساسية لمستخدمي الصحة    سطيف تنهي مخططاتها الوقائية    رفع مستوى التكوين والاعتماد على أهل الاختصاص    بن ناصر يُفضل الانتقال إلى الدوري السعودي    رئيس بشكتاش يلمح لإمكانية بقاء غزال الموسم المقبل    الشباب السعودي يقدم عرضا ب12 مليون يورو لبونجاح    مصادر وأرشيف لتوثيق الذاكرة بجهود إفريقية    الدورة 14 مرفوعة إلى الفنان الراحل "الرازي"    حكم التسميع والتحميد    الدعاء سلاح المؤمن الواثق بربه    أعمال تجلب لك محبة الله تعالى    دروس من قصة نبي الله أيوب    صيام" الصابرين".. حرص على الأجر واستحضار أجواء رمضان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأفلان بين ديمقراطية المعمول والمأمول /3
نشر في صوت الأحرار يوم 03 - 11 - 2009


الدكتور فاضلي ادريس
إن الديمقراطية الغربية بواحديتها أو بتنوعها كمفهوم متميز تعتبر هدفا من الحركة الدستورية بمفهومها الغربي. من الناحية السياسية يتجه العمل الذي يقوم به المواطنون إلى الحدّ من سلطة الحكام عن طريق إقامة المجالس التمثيلية أو النيابية، والعمل بالفصل ما بين السلطات، ومراقبته لبعضه البعض،و تعميم عملية الانتخابات الخ...ومن الناحية القانونية هناك روابط متينة بين الديمقراطية وخضوع الدولة للقانون.
إن الظاهرة الديمقراطية المرتبطة في الأساس بالحركة الدستورية الغربية، يطغى عليها في الوقت الحاضر نوع من الاستقلالية، ويكتنفها نوع من الغموض، وقد أصبح اليوم للديمقراطية عدّة مفاهيم، أبرزها مفهومان:
الديمقراطية الليبرالية
الديمقراطية التسلطية والديمقراطية الماركسية
وقد أجد من الأنسب ولتفادي التعاريف الفقهية السياسية منها والقانونية وما أكثرها في الدراسات والبحوث، أن أتوقف بعض الشيء وبإيجاز عند الوجهين المذكورين وهذا لايغنيني من الميل إلى تعريف قد أجد فيه بعض الشمولية وبعض الكمال.
إن الديمقراطية الليبرالية آو الكلاسيكية كشكل من الديمقراطية، تعتبر الحرية فيه العنصر الأساسي، إذ تعطى الحرية في إطاره لكل فرد من الأفراد الذين يشكلون الشعب، باعتبار أن الحرية حسب اعتقادهم هي الضامن لتحقيق أماني الأفراد، وهي مصدر المساواة في الحقوق وهي الجديرة بالحماية المطلقة...أما الحكومة من هذا المنظور فهي تعمل من اجل تطور الشعب بشكل حرّ وحماية الحرية متصور في مجال العمل الحكومي، وفي مجال العلاقات بين الحكام والمحكومين، فعلى الصعيد الحكومي والبرلماني تضمن الحرية المحمية تعدد الآراء حول كيفية تسيير الشأن العام والمحافظة عليه.
وهذا بالضرورة يترتب عليه وجود عدة تشكيلات سياسية، بعضها يمثل الأكثرية البرلمانية وهي المخولة للتعبير عن سيادة الشعب، وبعضها الآخر يمثل الأقلية البرلمانية وتعتبر صوت المعارضة فيه.
من أدبيات الديمقراطية الليبرالية أن الأقلية البرلمانية لا تشلّ قواها أو تخضع تماما للأكثرية، بل جرت التقاليد أن الأغلبية تحترم الأقلية، من خلال تنظيم الانتخابات الحرة، وعن طريق الحصانات البرلمانية، وعن طريق الاشتراك النسبي في اللجان الخ...آما على صعيد العلاقات بين الحكام والمحكومين فحماية الحرية ينظر إليها من زاوية التأكيد على حقوق الأفراد بصفتها الضامن لاستقلاليتهم ومساواتهم فيها، وهذا لا يعني حق الأفراد في المساواة في الظروف والفرص، كما سماها ميثاقنا الوطني ذات يوم ب تكافِؤ الفرص، وسو ف نفسر سرّ هذا المصطلح عندما يأتي الكلام على الديمقراطية المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني قبل الدخول في عهد التعددية الحزبية والسياسية، واقتصاد السوق...
أما الديمقراطية التسلطية والديمقراطية الماركسية، فهذا الشكل من الديمقراطية يرتكز على السلطة والإجماع في العمل الحكومي،و في نفس الوقت يرتكز على المساواة الفعلية بين المواطنين في علاقاتهم، فهذا هو مفهوم الديمقراطية التسلطية والديمقراطية الماركسية التي أسسها كارل ماركس استنادا إلى ما تصوره وكتبه جان جاك روسو حول موضوع الديمقراطية،ومما ذكره روسو في تصوره عن الديمقراطية في كتاب العقد الاجتماعي، ص 118، مايلي »..وإذا أخذنا عبارة الديمقراطية بكل معناها الدقيق نجد أن الديمقراطية الحقيقية لم توجد أبدا ولن توجد أبدا.فمما يخالف النظام الطبيعي أن يحكم العدد الأكبر وان يكون العدد الصغير هو المحكوم.ولا يمكن أن نتصور بقاء الشعب مجتمعا على الدوام للنظر في الشؤون العامة،ونستطيع أن نرى بسهولة انه لايمكن إقامة لجان من أجل ذلك دون تغيير في شكل الإدارة..«.
لقد تأكد هذا الشكل من الديمقراطية في الإتحاد السوفيتي سابقا، وفي الديمقراطية الشعبية بالنسبة لدول أوروبا الشرقية أيضا، بعدما ضلت الديمقراطية بشكلها الأول مهيمنة طيلة قرن ونصف القرن على أذهان وعقول المفكرين الغربيين حتى تكوّن لديهم نوع من التماثل بين الديمقراطية الليبرالية والديمقراطية الحقة الخ..
إن الثنائية في شكل الديمقراطية الذي أصبح عليه العالم الغربي منذ انتصار الثورة الاشتراكية في الإتحاد السوفيتي عام 1917، ومن سار بعد ذلك من الدول في فلك الفكرالإشتراكي والماركسي، في كل من أوروبا الشرقية، والعالم الثالث وكثير من الدول العربية من بينها الجزائر كما هو معلوم قد يطرح أكثر من سؤال.
من التفاسير التي تمّ الإدلاء بها في هذا الشأن، أن اعتبار الديمقراطية ذات مفهوم ليبرالي إنما أتى من كون أن الليبرالية كانت ذات يوم في المعارضة، فاستعملت آنذاك فكرة الديمقراطية كأداة فكرية لإذكاء النضال ضد الاستبداد، باعتبارها نظام الحرية. فاستعملت عقب نهاية القرون الوسطى، ففي فرنسا على سبيل المثال استهدفت تعابيرالمثال الديمقراطي، والسيادة الوطنية من أجل تفكيك السيطرة الملكية أيام الحكم القديم في فرنسا بمناسبة اجتماع ممثلي الطبقات الثلاث عام 1484، وفي القرن السابع عشر.
مع العلم أن ممثلي الطبقات الثلاث (النبلاء، الأرستقراطيون، الإقطاعيون والبورجوازيون) في إطار النظام التمثيلي قد اجتمعت ثلاث عشرة مرة في القرن الرابع عشر، وثماني مرات في القرن الخامس عشر، وخمس مرات في القرن السادس عشر، ومرة واحدة في القرن السابع عشر، وكان أول هذه الاجتماعات عام 1302، بطلب من فيليب الجميل »ليبل« للحصول على تأييد الأمة له في صراعه ضد بونيفاس الثامن إذ تميزت هذه المرحلة بحروب بين السلطة البابوية الروحية والسلطة الزمنية الممثلة في مملكة فرنسا، بلغت نظرية الإمبراطورية البابوية أوجها، وهي النظرية التي قررها القانون الكنسي من قبل، غير انه في نفس الوقت تغلبت عليها الوحدة القومية التي كانت لمملكة فرنسا، فأخذت معارضة النظرية شكلا جديا واتجاها واضحا يتمثل في الحدّ من السلطة الروحية، وعلى طلب استقلال الممالك بصفتها مجتمعات سياسية مستقلة، وقد اتخذ النزاع بين بونيفاس وفيليب الجميل مظهر جدال بين الطرفين أكثر دقة من حيث تدقيق القضية بطريقة أوضح مما حدث في نزاع سابق وأصبح النزاع محصورا بين ملك فرنسا المستقل في جانب، والبابوية في الجانب الآخر، ولم يبق النزاع قائما بين سلطتين روحية ودنيوية...وهذه المرحلة الحساسة في تاريخ أوروبا الحديثة والتي مهدت للنهضة والإصلاح كركائز للحضارة الغربية وأسست لمفاهيم جديدة بالنسبة لمفهوم الدولة والسلطة والسيادة والتمثيل النيابي هذه الحقبة من تاريخ البشرية تحتاج إلى وقفة مستفيضة قد تعين باقي ما يسمى بالدول التي نشأت عن طريق المحاكاة من معرفة الانطلاقة وأسبابها وخلفياتها...
لقد تفاجأ بونيفاس بأن القساوسة الفرنسيين يقفون في صف ملك فرنسا ضد المنشور البابوي الذي أعلن فيه أن الضريبة المفروضة على رجال الدين باطلة، وقد كان أعظم نجاح صادفه حكم فليب الجميل هو تنظيم المحاكم الفرنسية وبرلمان باريس، وكان آخرها تثبيت النظام الملكي الجديد القائم على المركزية، الذي كوّن أول جهاز للوحدة الوطنية، ومصدرا للحكم الحديث في فرنسا،وجاء النصف الثاني من القرن الخامس عشر بدعم سريع للسلطة الملكية جعل فرنسا أكثر امة في أوروبا، وحدة وتماسكا، ليتكرس بعدها الحكم الملكي المطلق، وانتهت بصفة عامة تجربة محاولات تطبيق النظام التمثيلي تحت وطأة الاستبداد الملكي، وفي بريطانيا كانت تجربة النظام التمثيلي انجح بواقع وثقافة تختلف وقد ساعد على ذلك التقاليد المكتسبة عند الإنجليز من استقلال الأقاليم والمدن والتقليد البرلماني الخ..، وهذا ما حدا بالإنجليز أن احتفلوا سنة 1965 بالعيد السبعمائة للبرلمان الإنجليزي لنجاح التجربة عندهم بدون انقطاع منذ القرن الثالث عشر لظروف متوفرة هناك لم تجتمع شروطها في فرنسا الخ..
في الحقبة التاريخية المذكورة أعلاه بدت وظيفة الفكرة الديمقراطية كوظيفة لتحديد السلطة والتأكيد على سيادة الأمة، وعلى الحق في ممارسة السلطة بواسطة ممثليها، أي تحديد سلطة الملك على الأقل.
وفي الرحلة الموالية خرجت الديمقراطية من المعارضة واستلمت السلطة، فلم تعد بالضرورة وسيلة تستعمل للمناداة والضغط من اجل تحديد السلطة أو مراقبتها، ومنذ هذه المرحلة وجدت السلطة نفسها مبررة وأكثر صلابة بشكل جديد بفضل ارتكازها على مجموع المواطنين. هذا التفسير وان أتى على بعض الحقيقة كواقع تاريخي مدوّن، إلا انه يبقى ناقصا وغير كامل في تبرير المفهوم الديمقراطي الليبرالي من زاويته التاريخية،مع ما يضاف إلى ذلك من أن بعض الديمقراطيات الليبرالية مازالت قائمة إلى يومنا هذا بعد أن حدد النظام الملكي أو ألغي نهائيا في بعض الدول.
أما بالنسبة للتفسير الثاني فيعود إلى عشرينيات القرن الماضي وهو عبارة عن دراسة فقهية وقانونية للعميد جورج فيدال، وعنوانها: »هل هناك مفهومان للديمقراطية« تضمنها كتابه الموسوم، تحت عنوان، الموجز في القانون الدستوري.
يرى المؤلف أن الإيديولوجية الكامنة في أساس الديمقراطية هي واحدة، وتتمثل في الحرية دون غيرها، والنظام الديمقراطي مهما كان نوعه ليبراليا أو ماركسيا، هو نظام يهمه تحقيق الحرية، إلا إن الحرية في ذاتها هي مفهوم مركب ومعقد.
فمفهوم الحرية على المستوى الفردي يتلخص في القدرة المتاحة في أن يحدد الفرد سلوكه وطريقه بنفسه دون أن تتدخل في ذلك الضغوط الخارجية.
أما مفهومها على المستوى الجماعي فننظر إليه من خلال المجتمع السياسي، فيكون هذا المجتمع حرّا إذا تولى مجموع أعضاء الجماعة تحديد تصرفاتهم الجماعية.
وتبقى مفاهيم الحرية في نظر المؤلف ولو تعددت إلا أنها في نفس الوقت متكاملة ومتنافرة،تظهر صورة التكامل باعتبار الإنسان اجتماعي بطبيعته، وبحكم اضطراره إلى العيش في المجتمع وهو في ذلك مجبر، ولكي يحافظ على حريته واستقلاله الذاتي، عليه أن يزاوج بين حريته واستقلاله، وبين ما تفرضه عليه الجماعة باعتباره جزءا منها، من إكراهات أو حدود ، وفي هذه الحالة نكون أمام اختيارين، إما نقبل بمجتمع تعددي، مركب، مجتمع لا إجماع فيه تسود فيه التسويات، أو نعمل على إقرار الإجماع فيه...
ينصرف مفهوم المجتمع المركب إلى الديمقراطية الكلاسيكية أو الليبرالية، حيث تتعايش الأكثريات والأقليات، ويقر بوجود التعددية الحزبية، ويعترف بشرعية التعارض بين سلطة الدولة والحقوق الفردية للمواطنين، والاعتراف بحق مقاومة الطغيان الخ..، والحاصل أن مناخ الحياة السياسية في الديمقراطية الليبرالية يقوم على التسوية بين الأكثرية والأقلية ، مع الاحتفاظ بالحريات الفردية، وبهذا فالطابع المميز والحالة هذه هو العمل بصيغة التسوية بين سيادة الدولة كممثل للمجتمع وسيادة الأفراد.
مصطلح الإجماع أصبح منذ قيام النظام الاشتراكي في الإتحاد السوفيتي من أدبيات الفكر الماركسي بل ويعتبر الهدف الأمثل عند الديمقراطيات الماركسية، وبالنسبة لاستعمالات هذا التعبير في مسار حزب جبهة التحرير الوطني فكانت كل القرارات التي تتخذ بعد مداولات القيادة السياسية في اجتماعاتها الدورية تتم بالإجماع ، أما بعد الدخول في مرحلة التعددية وما عرفته الدولة من محن وعرفه حزب جبهة التحري من أزمات، فكانت أيضا جل القرارات التي صادقت عليها القيادة السياسية والتي كتب لها النجاح هي تلك التي حظيت بإجماع هذه القيادة، وعليه اعتقد أن الإجماع يبقى مرجعية من مرجعيات حزب جبهة التحرير الجديرة بالاهتمام والمراجعة.
إن الإجماع في المفهوم الماركسي هو ما يتفق فيه الأفراد كلهم على كل شيء تتحقق فيه جميع الأماني التي يقتضيها التصور المثالي للحرية، من جهة لا يلتزم كل فرد إلا بالتصرف الذي يرتضيه، ومن جهة أخرى يكون كل قرار جماعي من فعل الجميع. فالأفراد يتمتعون جميعا بحرية مطلقة وفي ذات الوقت يِؤيد الجميع السلطة تأييدا مطلقا.
وهذا ما تمثله فكرة المجتمع الإجماعي أو الحكم الذي ينال الإجماع وهي أفكار سبقت ظهور الفكر الماركسي. ولتحقيق ذلك يكفي حسب كارل ماركس خلق الظروف الموضوعية للحرية الحقّة، عن طريق الثورة، أي إلغاء الطبقات وإقرار المساواة الفعلية بين الناس، وعندها تزول تدريجيا التناقضات بين المصالح والآراء. إن ما يمكن استخلاصه من هذا التفسير، انه تضمن نصيبا كبيرا من الحقيقة، وفي المقابل انه جعل من المساواة حجر الزاوية كما يقال، وجعلها الأساس البديل للديمقراطية الماركسية، وحلها محل الحرية التي أهملها ودحرجها على ما يبدو إلى المرتبة الثانية.
أما بالنسبة إلى التفسير الثالث، فهو تفسير فقهي ينسب إلى العميد جورج فيدال، والفقيه الأمريكي توكفيل في كتابه عن الديمقراطية في أمريكا وفكرة المساواة،ذلك انه حتى نكون بصدد شكلان متناقضان للديمقراطية في العالم، ديمقراطية ليبرالية، وديمقراطية تسلطية وماركسية، فانه يجب أن يكون بينهما تناقض أساسي، فالتناقض الحاصل حسب وجهة الرأي لدى المؤرخين ترجع إلى الوجه الوظيفي... فالفقيه جورج فيدال يرى التناقض في الثنائية التي تقوم عليها الحرية والتي سبقت الإشارة إليها أعلاه، إنما ينعكس في تعقيد مفهوم الديمقراطية، ذلك آن الإيديولوجية الديمقراطية تحمل طموحين متناقضين تماما، كالطموح نحو الحرية والطموح نحو المساواة.
غير أنه لا يقوم أي نزاع حول كون هذان الطموحان يشكلان جزءا من الإيديولوجية الديمقراطية، وتبقى فضيلة الحرية عند الفقيه شيئا أساسيا في تعريف الديمقراطية.
إما ما يدلل به تحليله هذا المرتكز على مفهوم المساواة عند الفقيه توكفيل، من أن الثورة الفرنسية ومنذ إعلان عام1789، قد وضعت على قدم المساواة، فكرة الحرية وفكرة المساواة، وكذلك ما ورد بشأن حقوق المواطن من نفس السنة في مادته الأولى التي تنص على أنه: »يولد الناس ويظلون أحرارا ومتساوين في الحقوق«. أما التناقض القائم بين الفكرتين فيتمثل في أن ممارسة الحرية تؤدي إلى خلق عدم المساواة، والعمل على إقرار المساواة يؤدي بصورة حتمية إلى الحدّ من الحرية.
والحاصل أن التركيز على الحرية أو على المساواة يؤدي بصورة حتمية إلى الاتجاه نحو الديمقراطية الليبرالية أو نحو الديمقراطية التسلطية أو الماركسية.
إن الديمقراطية الليبرالية لاتتنكر للمساواة، ولكنها تهتم بالمساواة في الحقوق، ومن منظورها أن المساواة لا تعتبر في أساسها إلا نوعا من الحرية الإضافية فهي تقر نوعا من المساواة في الأوضاع، وإذا استعملت استعمالا جيدا فإنها تؤدي إلى التعادل بين الأفراد في الواقع...
وبالنسبة لأنصار الديمقراطية الماركسية فهم أيضا لا ينكرون الحرية، غير أن الحرية الحقّة لا تنال إلا إذا أقرت المساواة، وإقامة الحرية تتطلب ولو لفترة على الأقل قيام حكومات تسلطية والقضاء على المعارضة وحتى على الخلافات، وبالتالي يتحقق إقرار إجماع، وهي في البداية ولكنه يصبح في النهاية إجماعا حقيقيا، وفي هذا الصياغ نرد فقرة مما ذكرناه في مرجعنا الموسوم الوجيز في فلسفة القانون ص55 »... من أن ستالين أكد سنة 1930، بمناسبة المؤتمر السادس عشر للحزب الشيوعي من أن بناء الاشتراكية يؤدي إلى حدّة الصراع الطبقي وليس إلى التخفيف منه، ومن ثمة فالدولة السوفيتية قبل أن تتلاشى يحب أن تصبح قوة عظمى لا مثيل لها في العالم الخ... « وبعبارة أخرى أن الدولة الماركسية ورثت نفس الأدوات ونفس الأسلوب للدولة الرأسمالية طول فترة الانتقال.
والخلاصة أن تعريف الديمقراطية الليبرالية أو الغربية عن طريق الحرية، وتعريف الديمقراطية التسلطية والماركسية عن طريق المساواة إنما يأخذ بعين الاعتبار التناقض الأساسي القائم بين النظامين.
إن التناقض القائم بين الديمقراطيتين، من حيث منح الأفضلية والأولوية للحرية، آو للمساواة يتجلى تفسير ذلك بالوصول بالديمقراطية الليبرالية أو السياسية إلى الديمقراطية الاقتصادية والاجتماعية، ومردّ ذلك إلى أن الديمقراطية الحقة إنما تتمثل أيضا في الجانبين الإقتصادي والاجتماعي، ذلك أن معنى الديمقراطية في مدلوله منذ النشأة إنما يتمثل في »حكم الشعب من قبل الشعب ومن أجل الشعب« وهو تعريف أكثر دقة وشمولية والأكثر شيوعا، ذلك أن حكم الشعب إنما يمتد ليشمل إدارة الاقتصاد، ومجال الأمن، والعدالة الخ..فالدول الغربية إذا نجحت إلى حد بعيد في تحقيق شكل مقبول من الديمقراطية السياسية عن طريق الحرية، فإنها في المقابل لم تأخذ بعين الاعتبار بما يسمى بالديمقراطية الاقتصادية والاجتماعية، بل أدى تطور الرأسمالية إلى بلورة المنظور الديمقراطي السياسي بالميكانيزمات والأدوات المتلائمة مع نمط البناء البورجوازي للحياة الاقتصادية والاجتماعية من حيث الإنتاج، والاستهلاك، والثقافة الخ...
أما بالنسبة للدول التي انتهجت الإديلوجية الماركسية فإن ديمقراطيتها تقوم على أساس فضيلة المساواة، التي لا يتصور تحقيقها خارج الحياة الاقتصادية والاجتماعية للأفراد، ومن هذا المنطلق جاء الاهتمام بالديمقراطية السياسية أقل، هذه الأخيرة كما هو معروف تقوم على التعددية الحزبية، والتنافس على السلطة بواسطة الانتخابات، والفصل ما بين السلطات، وعلى العكس من ذلك يتطلب الوصول إلى تحقيق المساواة كأساس للديمقراطية الاقتصادية والاجتماعية وجوب توافر ميكانيزمات تتمثل في: العمل بأسلوب الحزب الواحد، الانتخابات غير التنافسية، غياب الرقابة البرلمانية بالمفهوم الليبرالي باعتبار البرلمان يقوم بوظيفة، وليس بسلطة إذ لا تتجمع فيها تيارات المعارضة التي تتطلب بشكل أساسي التعددية السياسية الخ...وكذا قلة الاهتمام بالحريات الفردية على النمطية الليبرالية..
لقد اعتقدت الليبرالية الغربية أنها باعتماد شكل الديمقراطية السياسية القائم على أساس الحرية سوف تحقق الديمقراطية الاقتصادية والاجتماعية.
وعندما قامت الثورة السوفيتية عام 1917 كان أملها أن تصل إلى تحقيق الديمقراطية السياسية عن طريق الديمقراطية الاقتصادية والاجتماعية القائمة على أساس المساواة أولا وقبل كل شيء.. ومن خلال مسار الحياة العامة وممارسة السلطة السياسية وتحقيق الديمقراطية الليبرالية، لجأت هذه الأخيرة إلى إعطاء الحرية اهتماما خاصا كالمناداة بالحريات العامة لكل المواطنين، والتأكيد على المساواة في الحقوق المتمثلة في الوصول إلى الوظائف العامة السياسية، وإقرار الاقتراع العام الذي يستهدف من ورائه توزيع السلطة السياسية بين المواطنين بالتساوي. وفي الاعتقاد أنه بعد هذه الخطوة وما بصحبها من تنظيم يتم السعي إلى توزيع السلطة الاقتصادية أيضا بشكل متساو، وفي هذا الإطار عرفت اغلب الدول الأوروبية ثورات وهزات اجتماعية عنيفة بقصد القضاء على مخلفات القرون الوسطى ومن بقايا النظام الإقطاعي، والتفاوت الطبقي، والاستئثار واحتكار المزايا والحقوق وتوارثها، وفي هذا الخضم قامت الثورة الفرنسية عام 1789، فنادت بمبادئها الثلاث الخالدة: الحرية المساواة الأخوة.
كما اعتقدت الديمقراطية السياسية، انه عن طريق اقتصاد السوق الحرّ القائم على قانون العرض والطلب، يتحقق لكل مستهلك أو بالأحرى لكل مواطن من ممارسة سير الشؤون الاقتصادية، وان انتشار السلطة الاقتصادية تتم بصورة طبيعية مع انتشار السلطة السياسية هكذا كان ومازال حلم الديمقراطية الليبرالية، وهذا تفسيرها للحرية كأساس تتحقق من ورائه كل الرغبات، وبذلك تتحقق سعادة الفرد ويتحقق فردوس الدنيا الخ..
ولم تستفق الديمقراطية الليبرالية من حلمها الجميل، إلا بعد أن هزت الاضطرابات الاجتماعية وثورات العمال والبطالين المكدسين في المدن الأوروبية الكبيرة التي سكنها الفقر والمرض والبؤس، وعودة طبقية جديدة قوة أصحابها هذه المرة تتمثل في مالكي الإنتاج ووسائله، وفي المقابل قامت طبقة العمال الأجراء آو البروليتاريا، وترتب عن التفاوت الطبقي تركيز هائل للسلطة الاقتصادية بين أيدي أرباب العمل وأصحاب المشاريع والطبقة الرأسمالية التي نشأت واستفادت من ثمار الثورة الصناعية، ونتائج التجارب العلمية، والتكنولوجية الخ.. وهكذا حدث التناقض العميق بين المساواة الاقتصادية والسياسية المرجوتين والمبشر بهما من أنصار ديمقراطية الليبرالية على مدار قرن ونصف قرن، إلا أن أ شرقت ثورة من أقصى الشرق تحمل بين طياتها أمال وأحلام المستضعفين في الأرض التي أجهضت كما هو معلوم بعد مسار قصير وبقيت في عمومها تجربة إنسانية تحتاج ربما إلى قراءة متأنية والعمل على بعثها من جديد بعد تمكينها من تصحيح ما علق بها من أخطاء ولحقها من قصور في فهم طبيعة الإنسان المعقدة.
لقد أدى المشهد المؤلم الذي أدت إليه الديمقراطية الليبرالية وما نتج عنه من ظلم وبؤس، إلى تأسيس النظرية الماركسية التي نادي بها كل من: كارل ماركس الألماني، فريدريك أنجلس الإنجليزي والتي ارتكزت كما هو معلوم على وجوب إلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وتحويل هذه الملكية إلى الجماعة، باعتبارها مصدر التفاوت والطبقية، والبؤس وكل الحروب، وبذلك فقط يمكن الحديث عن الديمقراطية الاقتصادية وترسيخها وتحقيق الديمقراطية السياسية على قواعد صلبة وأكثر ثباتا الخ...
ومن الانتقادات التي وجهتها النظرية الماركسية إلى النظام الليبرالي في الغرب بان ديمقراطيته شكلية، وأنها منتجة لصراع الطبقات الذي يؤدي إلى جعل الدولة مجرد أداة أو جهاز ضغط في أيدي الطبقة المسيطرة، وهي البورجوازية، ويبقى الأمر كذلك مهما ارتدت الدولة شكلا ديمقراطيا، فتبقى على الدوام في خدمة الطبقة الحاكمة، في حين في المجتمع الاشتراكي تزول الطبقية وتزول معها سلطة أصحاب المال، فتصبح الديمقراطية والحالة هذه واقعا ملموسا بالنسبة للجميع..ويضيف ماركس ولينين في باب آخر بان الحريات في البلدان التي قامت فيها ثورة اشتراكية، لم تعد فيها الحريات مسألة نظرية فقط بل تصبح مقرونة بوسائل تحقيقها، إذ تنص دساتير هذه الدول في الغالب بالنسبة لكل حق أو حرية، الشكل الذي يمكن بواسطته ممارسة هذا الحق وتأمينه، بعكس ما هو عليه الحال في العالم الغربي.
كما سبقت الإشارة لم تسعف الظروف استقرار التجربة الاشتراكية كاندلاع الحرب العالمية الثانية وما تركته من خراب ودمار وتكلفة أثقلت كاهل الإتحاد السوفيتي، وكذا المنعطف الخطير الذي مرت به النظرية كما شرح ذلك الفيلسوف روجي قار ودي وعدم التمكن من إدخال التصحيحات والمراجعات في حينها من طرف منظريها بعد صفقة إنهاء الحرب الباردة وتحطيم جدار برلين التي قام بها مسئولون سياسيون والبقية معروفة...لذلك ما يعاب على الديمقراطية الاقتصادية والاجتماعية من أنها لم تقض مطلقا على الحرمان الذي يعانيه العمال والاغتصاب لبعض حقوقهم، ولو أن الأمر يختلف في تجربة يوغسلافيا إذ كان العمال هناك يمارسون الرقابة في إطار التسيير الذاتي للمؤسسة الخ..
ومجمل القول تبقى الديمقراطيات الغربية، تسير في طريق الديمقراطية الاقتصادية والاجتماعية، فالتأمينات، والتخطيط التوجيهي، وتوزيع الدخل عن طريق الضريبة، وعن طريق القوانين الاجتماعية، تشكل تحولا ملحوظا، فالتأمينات، والتخطيط التوجيهي، والاعتراف بالحقوق الاجتماعية كلها تطبيقات مأخوذة عن النظرية الاشتراكية وتطبيقاتها.
إن إكمال الديمقراطية السياسية بالديمقراطية الاقتصادية والاجتماعية ليس بالأمر السهل لما لها من صعوبة تقنية تطرح عند الحل من تحريك السياسة على المستوى الوطني وفي مستوى المشاريع، وكذلك لسرعة وتيرة الحياة الاقتصادية مقارنة بوتيرة الحياة السياسية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.