أرشيف مختطف .. ووثائق مغتصبة ** * تحرير التاريخ أعقد من تحرير الجغرافيا تعتبر سنة 1830م نقطة تحول في تاريخ الجزائر الحديث فالاستعمار الفرنسي لم يكن مجرد غزو عسكري عابر للجغرافيا كما كانت حملة نابليون على مصر سنة 1798م أو تدمير عابر للمكان كما كان حال ألمانيا واليابان أثناء الحرب العالمية الثانية أو حتى استعمار عادي كبقية المستعمرات الفرنسية الأخرى بل كان حلم مشروع استعماري استيطاني صليبي تدميري للهوية الوطنية الجزائرية طالما تمنته فرنسا يهدف لفرنسة الجزائر وإصباغ الصبغة الفرنسية عليها أرضا وتاريخا ومجتمعا وثقافة ولغة وسلوكا ودينا وانتماء لتعيد به فرنسا أمجاد روما في سالف عهودها وتصبح الجزائر جزءا لا يتجزأ من أراضيها. كان قرار إلحاق الجزائربفرنسا سنة 1834 وادعائها أن الجزائر جزء لا يتجزأ من أراضيها وأنها امتداد لها فيما وراء البحر كان ذلك يمثل قرارا خطيرا ومنعطفا جديدا في تاريخ الجزائر الحديث إنه عدوان على تاريخ الجزائر وانتمائها بعد العدوان على جغرافيتها بل هو أخطر عن عدوانها الأول لما يترتب على هذا الإلحاق من إجراءات وتبعات. الجغرافيا تنطق بأحداث التاريخ الجديد بعد احتلال الجغرافيا عن طريق عشرات الآلاف من الجنود وعشرات الآلاف من المستوطنين أصبحت الجغرافيا تنطق بأحداث التاريخ الجديد والأصل هو أن التاريخ يتحدث بأحداث الجغرافيا. فالإنسان إنسان بتاريخه يحمله حيث حل وارتحل حتى ولو كان خارج جغرافيته حتى ولو في سجنه لكن ليس الإنسان إنسانا بجغرافيته مجردة من تاريخها يحملها حيث حلّ وارتحل وإلا تساوى في ذلك الجزائريون والفرنسيون فكل ادعى انتسابه لجغرافية الجزائر التي ولد بها الجزائريون جزائرهم التاريخية والفرنسيون جزائرهم الجغرافية وكان من بين ضحايا غزو التاريخ أولئك الذين ادعوا التمسك بالجغرافيا على حساب التاريخ! بل ذهب بعضهم لمعاداة تاريخ الجزائر أكثر من معاداة الاستعمار نفسه!!. لم يكن قرار إلحاق الجزائربفرنسا مجرد شعار رُفع أو كلام أجوف نُطق بل كان مشروعا يسير على قدم وساق على ارض الواقع إذ لم تكتف فرنسا بالغزو الجغرافي للجزائر كما فعلت مع بقية مستعمراتها بل عملت على فرنسة البلاد والعباد جغرافيا وتاريخيا وثقافيا واجتماعيا حتى تصدق فرنسا نفسها فيما تدعيه من أن الجزائر فرنسية وتطلب ذلك تجنيد قوات متعددة الاختصاصات ذات كفاءات عالية تنظر في كيفية التعامل مع احتلال التاريخ ومع حقائقه ووقائعه وطمس آثاره ومع الذاكرة الجماعية والتاريخية واتبعت ما سماه المرحوم مولود قاسم بسياسة المسخ والنسخ والفسخ. بعد الاحتلال مباشرة بدأت عملية النهب والسلب والإتلاف للأرشيف الجزائري ولكل الوثائق والمكتبات الخاصة والعامة بل طالت يد الإجرام المساجد والزوايا والمدارس فاتلف ما أتلف وأحرق ما أحرق ونهب ما نهب واحتكر المستشرقون كتابة تاريخ الجزائر بكل مراحله وسيطر المنصرون من الآباء البيض على المدارس وإدارتها وتعليمها ومناهجها وبرامجها وتلامذتها وطلبتها ومعلميها وتكوينها... غزو التاريخ عكس غزو الجغرافيا إن غزو التاريخ عكس غزو الجغرافيا لا يحتاج لآلاف الجنود المدججين بالسلاح ولا لأسلحة فتاكة ثقيلة ولا يعتدي على الأجساد بل يحتاج لأسلحة القوة الناعمة للتحكم في العقول والأفكار والثقافة والذهنيات توجيها وترسيخا وقطع جسور وروابط الأمم مع ماضيها وتاريخها ومع انتمائها الحضاري وكانت أسلحة غزو التاريخ في الجزائر هي الاستيطان والتعليم وبرامجه واللغة والدين والقيّم والسلوك والعادات والتقاليد هي غزو التاريخ للتاريخ والقيم للقيم والثقافة للثقافة والدين للدين وغزو الحاضر للماضي لهدم ما كان قائما وبناء على أنقاضه ما هو جديد وبذلك حاولت فرنسا أن تفعل ما فعلت اسبانيا قبلها مع مجتمعات أمريكا اللاتينية التي أبيدت هويتها الأصلية اللغوية والدينية والثقافية واتلف تاريخها ولم تعرف لغة ودينا وتاريخا غير لغة ودين وتاريخ مستعمرها الإسبان وهو ما نجحت فرنسا فيه مع بعض مستعمراتها الإفريقية. فالاستعمار والإمبريالية كما يقول ادوارد سعيد : يريان أنهما وصيان على تاريخ العالم وشعوبه فلا تاريخ إلا ما كتبوه وما كتبه غيرهم فهو جدير بإعادة النظر فيه وإعادة كتابته من وجهة نظر إمبريالية . إن الغزو الحقيقي للأمم ليس هو فقط غزو الجيوش الجرارة والأسلحة الفتاكة والدمار الشامل للمدن والقرى والمباني والمؤسسات والممتلكات وقتل الآلاف من سكان تلك الجغرافيات فهذا مجرد غزو جغرافي عابر والمسألة مسألة وقت لا أكثر لتندمل الجراح ولتُسترد الأرض والعافية وهذا ما حدث وتكرر في التاريخ لكثير من الجغرافيات في كل القارات خاصة أثناء الحرب العالمية الثانية. أما احتلال التاريخ فهو احتلال أبدي هو اقتلاع الإنسان من انتمائه الحضاري والتخلص من مقومات شخصيته وقطع صلته بالماضي بمعنى إلغاء ماضي الجزائر وتاريخها وثقافتها ليصبح تاريخها هو جزء من تاريخ فرنسا كما أصبحت أراضيها امتدادا للأراضي الفرنسية فيما وراء البحر لكن أيضا أن احتلال التاريخ لا يتم بسرعة احتلال الجغرافيا فالتاريخ يبقى حيا في الذاكرة الجماعية في المشاعر والوجدان وفي الثقافة والعقول والأذهان وهو مصاحب للشعوب في اتخاذ كل قراراتها التاريخية والمصيرية ولا ينفصل على من تشبَّع به ولا يموت إلا بموته لذا الهيمنة على التاريخ تكون ضامنا لمستقبل الاستعمار ومصالحه. تحولات كبرى.. لقد استطاعت فرنسا خلال قرن وثلث القرن أن تحدث تحولات كبرى خطيرة وعميقة اجتماعية وثقافية على مستوى الفرد والمجتمع في الجزائر لم تتعرض لها أي مستعمرة فرنسية أخرى مسَّت هويتها وشخصيتها كدولة وكأمة وذلك بمحاولة استئصال هويتها الوطنية وانتمائها التاريخي والحضاري لمحيطها العربي والإسلامي بعد أن سيطرت اللغة الفرنسية على اللغة العربية التي أصبحت لغة أجنبية بحكم قانون الاحتلال وأوجدت فرنسا نخبة جزائرية مفرنسة تؤمن بأطروحة فرنسا المعادية لعروبة الجزائر وإسلاميتها وتشكك في تاريخها.... فالجيوش التي تغزو الجغرافيا ليست هي جيوش غزو التاريخ وأن من يحرر التاريخ ليس هو من يحرر الجغرافيا كما أن سلاح تحرير الجغرافيا ليس هو نفس سلاح تحرير التاريخ وإذا كان الكل يستطيع المشاركة في تحرير الجغرافيا فليس الكل قادر على المشاركة في تحرير التاريخ لأن معالم الجغرافيا أوضح من معالم التاريخ وان لكل ميدان رجاله ولكل حرب سلاحها ولكل معركة قادتها فكما كان محمد العربي بن مهيدي وإخوانه من الشهداء قادة تحرير الجغرافيا كان أبو القاسم سعد الله ورفاقه قادة تحرير التاريخ وتحرير التاريخ هو استكمال لتحرير الجزائر وسيحرَّر كل تاريخ الجزائر إن شاء الله ولو بعد حين!!. استرداد الجزائر التاريخ أعقد من استرداد الجزائر الجغرافيا إن استرداد الجزائر التاريخ أعقد من استرداد الجزائر الجغرافيا وإن تأثير الاحتلال على الجغرافيا اقل بكثير من تأثير الاحتلال على التاريخ فنحن منذ عقود استرددنا أرضنا وجغرافيتنا لكن تاريخنا لا زلنا نكافح من اجل تحديد معالمه لاسترداده وتحريره التاريخ بنوعيه المادي والفكري تاريخ الأرشيف والوثائق التاريخية المغتصبة القديم منها والحديث المحتجز في فرنسا والذي لا زالت هذه الأخيرة لحد الساعة ترفض فتح الأبواب الموصدة أمام الباحثين والمؤرخين والكتاب الجزائريين وثانيهما إعادة كتابة تاريخ الجزائر بأيدي وأقلام وطنية أمينة مختصة وكفأة وبأفكار ومبادئ وقيم الجزائر التاريخية تحلل وتدقق تصحح الأخطاء وتجلي الحقائق وتفضح التحريف وتقارن الوقائع وتكشف الخفايا وتقيم خطى للتواصل والربط بين الماضي والحاضر بين الأجداد والأحفاد. مرّ أكثر من نصف قرن على تحرير الجزائر وبذلت جهود مضنية لتحرير التاريخ وإعادة الجزائر إلى أصالتها خاصة في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي أيام انعقاد الندوة الوطنية للتعريب سنة 1975 وتعريب المحيط وتعريب الإعلام واستبدال يومي السبت والأحد بيومي الخميس والجمعة وتأسيس التعليم الأصلي ومجلة الأصالة ومجلة الثقافة... وانطلاق مشروع إعادة كتابة التاريخ الوطني ولكن..!!.