بقلم: سعيد الشهابي تاريخ المنطقة تعاد كتابته من جديد وهو مرشح لأن يكون مكتوبا بدماء الشهداء أو حبر الجبابرة وشتان ما بين النصّين. فمنذ نصف قرن تقريبا تمرّدت الشعوب على محتلّيها وآسريها وغرست في أرضها نبتة الحرّيّة. واليوم أصبحت النبتة شجرة باسقة تحمل أغصانها ثمرات الثورة والتمرّد. فلسطين لن تتحرر إلا بدماء الشهداء التي أريقت على تربتها ولن تكسر شوكتها الأسلحة الفتّاكة التي يستخدمها المحتل لكسر صمود الأحرار. وها هي حروف تاريخ التحرّر تجتمع لتقدّم نسخة تنضح بالدم وتنطق بالنصر. هذه النسخة تتضمن بين سطورها سجالات كثيرة حول الحرّيّة والاحتلال حول الحق والباطل وحول العدل والظلم. وتشمل كذلك حكايات التضحية والفداء لتقدّم رواية مخطوطة بلون أحمر قان ولتقول للعالم: نحن فداء لأرض المعراج ولا مصافحة مع المحتل. يعلم الجميع أن أمن المنطقة يُراد إخضاعه لمن يملكون أعتى الأسلحة والعتاد الذين جاؤوا من أقاصي الأرض في غفلة من الزمن وأعلنوا إقامة كيان جائر لاحتضان ضحايا القمع الغربي على حساب أهله ووارثيه. إنها إحدى قصص الخيال التي وجدت واقعا في فلسطين وتهدد بذلك أمن المنطقة والعالم واختلُت التوازنات وعلت الصيحات ضد إجبار السكان الأصليين على مغادرة أرض الأجداد فذلك تهديد لأمن العالم واستقراره وتحدّ لمنطق العدل والكرامة والحق. من الذي يحق له ضمان أمن العالم؟ ومن الذي يهدد هذا الأمن؟ وأين هي مقولة إقامة حكم القانون إذا سادت الفوضى والعدوان شؤون هذا الكوكب؟ وبالمحصّلة من المسؤول عن تهميش دور المؤسسات الدولية المخوّلة بممارسة هذه الأدوار؟ في ضوء ما يحدث هذه الأيام في المنطقة يبدو العالم على وشك الهبوط الى مستنقع الفوضى واللاقانون. هذه المرة لن تكون الفوضى محصورة بتصرفات محدودة تنحصر آثارها بمنطقة جغرافية صغيرة أو فترة زمنية قصيرة. فما فعلته إسرائيل كان بادرة خطيرة تهدد الأمن والسلم الدوليين. فليس من حقها استهداف إيران أو أي بلد آخر وذلك لأسباب منها: أن إسرائيل لا تملك تفويضا بممارسة دور الشرطي المخوّل بالتصدي للمخالفات القانونية. ثانيها: أن إيران لم ترتكب مخالفة قانونية بامتلاك مشروع نووي سلمي في عالم تنتشر فيه التكنولوجيا النووية على نطاق واسع. ثالثها: أن ما تملكه إيران من منشآت نووية خاضع لرقابة صارمة من الوكالة الدولية للطاقة الذرية وكثيرا ما سمحت بالمفتشين الدوليين بزيارة تلك المنشآت لضمان التزامها بالضوابط القانونية. رابعها: أن إسرائيل هي التي ترفض السماح بإخضاع منشآتها النووية للرقابة الدولية فلم تسمح للوكالة المذكورة بزيارة منشآتها كما لم تسمح بزيارة المفتشين الدوليين لتلك المنشآت. فكيف يسمح العالم لها باستخدام القوة للاعتداء على دولة أخرى ذات سيادة من جهة وملتزمة بالضوابط القانونية من جهة ثانية؟ *تجاوز للقانون الدولي لم يكن العدوان الإسرائيلي على إيران الأسبوع الماضي حدثا عاديا بل كان تجاوزا للقانون الدولي والأخلاق ومصادرة لدور المؤسسات الدولية المخوّلة بالرقابة على المشروعات النووية لدى الدول. ولذلك يعتبر انتهاكا قانونيا وسياسيا خطيرا سيؤدي إذا لم تتخذ إجراءات صارمة رادعة بحق مرتكبيه لفوضى عارمة وتوترات سياسية بدون حدود. وهنا مربط الفرس: فمن القادر على اتخاذ تلك الإجراءات؟ للوهلة الأولى يُفترض أن تتخذ الأممالمتحدة إجراءات عديدة تبدأ بشجب العدوان الإسرائيلي على إيران وتتواصل عبر إجراءات قانونية ضد إسرائيل وتصل إلى حد تعليق عضويتها في الأممالمتحدة وتصنيفها بوضوح ضمن الدول المارقة على القانون. وفي العصر الأمريكي المفروض على العالم بالقوّة تبدو هذه الإجراءات أقرب الى الحلم منها إلى الحقيقة لأسباب عديدة منها: أولا من الذي يجرؤ على مخاطبة الولاياتالمتحدةالأمريكية ومساءلتها قانونيا عن الاستمرار بدعم إجراءات خارجة على القانون؟ ثانيا: في ظل سياسات الابتزاز التي تمارسها واشنطن وتهديدها بوقف تسديد التزاماتها المالية للمؤسسات الدولية والانسحاب منها والتوجه نحو سياسة العمل الأحادي لا يبدو الاعتراض على المواقف الأمريكية خطوة مؤثرة. ثالثها: الخشية من تفاقم الأوضاع السياسية العالمية بما يدفع الرئيس الأمريكي المعروف بشراسته وصلفه لاتخاذ إجراءات تؤدي لتوسع دائرة التوتر وربما إيصاله الى نشوب حرب عالمية ثالثة. *القدرة العسكرية لإيران فقد أظهرت إيران قدرة عسكرية لم يكن الغربيون يتوقعونها خصوصا بعد عمليات الاستهداف التي شنتها قوات الاحتلال على الأراضي الإيرانية فضلا عن عمليات الاغتيال التي طالت عددا كبيرا من الصف الأول من القيادات العسكرية. وكانت خطة الاحتلال المدعوم من امريكا إزالة العوائق عن الطريق وإحداث تصدّعات في البنى التحتية للمؤسسة العسكرية بالإضافة للسياسية. وما وقع في تل أبيب الأسبوع الماضي من تفجيرات بالصواريخ الإيرانية كان خارج التوقع الأمريكي والإسرائيلي. فبرغم نصب ما سمّي القبة الحديدية لحماية المنشآت الإسرائيلية فقد استطاعت إيران اختراقها بجدارة وأوقعت أضرارا واسعة في تل أبيب وأحدثت إرباكا واسعا بين سكانها ودفعت الكثيرين لحزم الحقائب والهروب إما إلى خارج فلسطين أو إلى مناطق بعيدة. واعتُبر ذلك واحدا من أشد التطورات وقعا على النفسية الإسرائيلية التي تأسست على الشعور بالأمن. وتوفير الأمن للمحتلين كان على رأس أولويات الاستراتيجية الإسرائيلية. ومن بين وسائل تحقيق ذلك الاستمرار في العدوان على الجيران لإشغالهم بشكل دائم ومنعهم من تهديد أمن المستوطنين. وبوصول الصواريخ الإيرانية إلى عمق تل أبيب واستهداف العديد من القواعد العسكرية القريبة منها شعر الإسرائيليون بحالة من الذعر والهلع غير مسبوقة وهذا مناف للمبدأ الذي قام عليه الاحتلال. بين أمن المنطقة وأمن الاحتلال ثمة فجوة تتوسع مع كل مواجهة عسكرية جادّة. وكان المحتلّون يعتقدون أن ما حققوه خلال الاثني عشر شهرا الأخيرة من اختراقات أمنية وعسكرية سوف يحقق لهم أمنا دائما سواء باغتيال رموز المقاومة الفلسطينية واللبنانية أم بث الرعب في حادثة البيجرات أم تصعيد العدوان والقتل اليومي في غزة. وكان عدوانهم الاستباقي على إيران الخطوة الأخيرة في تلك الاستراتيجية التي لا يبدو أنها حققت أهدافها. لقد قتلت إسرائيل حتى الآن ما يقرب من 60 ألفا من الفلسطينيين في قطاع غزة خلال أقل من عامين ولم يتحقق للمحتلين ما يمكن اعتباره استقرارا أو انتصارا نهائيا. فما الذي سيحققونه بتوسيع دائرة الحرب والاستهداف خصوصا مع إيران التي استعصى تطويعها على أمريكا لقرابة نصف قرن. فإلى أي مدى تستطيع الولاياتالمتحدةالأمريكية الاستمرار في سياسة التماهي مع المشروع الإسرائيلي خصوصا في ظل إدارة بنيامين نتنياهو الذي يتصرف بغرور وصلف حتى مع داعميه الأمريكيين؟ إنها واحدة من المحطات الاستراتيجية ليس في الصراع العربي الإسرائيلي فحسب بل في السياسة الأمريكية نفسها. ما الذي يلوح في الأفق السياسي المرتبط بالصراع العربي الإسرائيلي في عصر التكنولوجيات العسكرية المتطورة؟ وهل يمكن حسم هذا الصراع بالأساليب الإسرائيلية القائمة على العدوان والقصف والقتل الإجرامي للبشر بوحشية غير مسبوقة؟ من هنا أصبح العالم مهدّدا بحرب عالمية طاحنة لن يستطيع تفاديها إلا بمبادرات أوروبية تشترك فيها روسيا والصين تضغط على أمريكا وتوقف العبث الإسرائيلي وتنتصر للمظلوم وتتصدى للظالم والمعتدي والطامع والتوسعي. وبدون مبادرة عاجلة وكبيرة لا يُستبعد انزلاق الوضع العالمي نحو الهاوية فهل هذا ما يريده السياسيون العقلاء؟