قبل ربع قرن، أي في منصف سنوات الثمانينيات من القرن الماضي، وقع بين يدي كتابان، موضوعهما واحد، لكن محتواهما مختلف، اختلافا يصل إلى حد التناقض، أما الموضوع المشترك بين الكتابين فهو إيران، وإيران بعد الثورة التي أطاحت بحكم الشاه، وجاءت بنظام جديد، يقوده آية الله الخميني. واليوم بعد ثلاثين سنة، تبدو جمهورية إيران الإسلامية، قد حققت حضورا على الساحة الإقليمية والدولية، وقوة متنامية يستعصى تجاوزها في رسم خرائط الإستراتجية، واستطاع النظام الذي ورث عرش آل بهلوي، أن يحقق التماسك الداخلي والنماء الاقتصادي، وأكثر من ذلك افتك رهان النقل التكنولوجي، فالنموذج الحكم الذي بدا مغلقا تماما، عمل على تأسيس مشهد ديمقراطي، وإن يكن داخل البيت والطيف الواحد، لكنه ضمن تداول حقيقي على السلطة، وأبقى على حضور الرقابة الدستورية في إدارة دفة الحكم، وهو ما حفظ البلد من الوقوع في تبديد المال العام، أو الاستئثار به، فبرز أهل الخبرة بدل أهل الثقة. لست أدري هل هو مجرد اتفاق عفوي، أم أن الحكومة الإيرانية تعمدت أن لا تمر الذكرى الثلاثين للثورة إلا باختراق الفضاء، بإطلاق قمر صناعي بعيد المدى، يخصص للأبحاث العلمية، وقبلها ما يزال ملف تخصيب اليورانيوم، والتمكن من تطويع الطاقة الذرية، مهما تكن نية استغلالها، فإنها من الناحية العلمية، عبارة عن ثقب في جبل الجليد الغربي الذي يحجب هذه الطاقة عن الدول "المارقة"، وهو ما يجعل الاقتصاد الإيراني لا يتكئ على عصا المحروقات، ينهض بنهوضها ويسقط بسقوطها، فالصناعات التحويلية والغذائية تشهد تطورا متصاعدا في البلاد. النظام الإيراني الحالي، وهو يدخل العقد الرابع من وجوده، يبدو أكثر تماسكا وحضورا، فالسنوات الأولى من عمره شهدت مضايقات ورفض دولي وإقليمي، بداية بحرب الخليج الأولى، حيث تعسكر خلفها العديد من المصالح والرغبات، وحرمت إيران من تجديد ترسانتها الدفاعية، ولجأت إلى باب المزرعة الخلفي كما يقال، واستطاعت أن تتفاوض مع من تسميه "الشيطان الأكبر" أي الولاياتالمتحدةالأمريكية، وهو ما يعرف بفضيحة "إيران- غايت"، وبموجبها حصلت إيران على السلاح ومعدات الطيران الحربي، بطريقة سرية من أمريكا، وهو ما اكسب الدبلوماسية الإيرانية قدرة على التفاوض الخفي، دون أن تفقد مصداقية مواقفها المعلنة. وهكذا كان موقف إيران المعلن، لا يتوانى في توجيه السهام للشيطان الأكبر، لكن ذلك لم يعقها في مرونة مواقفها، كلما تعلق الأمر بترتيبات دولية، ترى إيران أنها لا تتعارض مع إستراتيجيتها العامة، وهو ما بدا جليا في الحرب على العراق وأفغانستان، فواضع الإستراتجية الإيرانية لا يقاوم الريح بالعصي، خاصة إذا كانت ريحا تدفع بسفنه في الاتجاه الذي رسمه، وبصورة أدق هو تحقيق بعض أهدافه دون أن يصرف من طاقته شيئا، وهو ما يجعل من الجمهورية الإسلامية تتميز عن أنظمة المنطقة الأخرى، فالبراغماتية حاضرة دوما في التخطيط والتنفيذ. لقد أدركت إيران أن حضورها على الساحة الدولية، مرهون بمدى فاعليتها، وأن الدول لا يمكن أن تسيير بمنطق الجمعيات الخيرية، فالاحتراز من الاختراق الخارجي، بالحفاظ على تماسك الجبهة الداخلية، وتقويتها معنويا واقتصاديا، وضبط إيقاع علاقاتها وأحلافها ضمن منظور تحقيق الجدوى والفاعلية، كل هذا جعل منها تتصدى لكل محاولات التشويه، فالضعفاء هم وحدهم على خطأ دائما، وهذا ما فهمه صانع القرار الإيراني، باتخاذ المواقع المجدية، والمواقف التي تخدم إستراتجيته العامة. وهذا ما أدركته مراصد القوى التي يهمها تحجيم أي قوة صاعدة في المنطقة، وعملت على استعداء العديد من الأطراف عليها لتقوم بحرب مفتوحة بالوكالة عنها، وتحقق بذلك استنزافا مزدوجا، وتضمن الحيلولة دون حدوث تكتل إقليمي قوي، يخشى منه مستقبلا في أن يتطور إلى قوة تحول دون نفاذ الترتيبات الدولية للقوى الكبرى. نعود للكتابين الذين أشرنا إليهما في بداية هذا المقال، الكتاب الأول كتبه محمد رضا بهلوي شاه إيران السابق، وعنوانه "شهادة للتاريخ"، حاول فيه الملك المخلوع عبر أبوابه الأربع أن يبرئ فترة حكمه من كل ما بدا بعد خلعه، واستغل في إثبات ذلك التاريخ والجغرافيا، والاقتصاد والخدمات الاجتماعية، تحدث عن ثورته البيضاء عن والديه وعن ابنه، تحدث عن وزرائه وحلفائه، تحدث عن خصومه وأعدائه، تحدث عن سياسته الخارجية، تحدث عن الإعلام وعن مخابراته "الصفاك"، ليخلص في النهاية إلى انه كان مصيبا في كل ما ذهب إليه، وانتهى بالحديث عن خروجه من البلد، وأنه متشائم من مستقبل بلاده. الكتاب الثاني، عنوانه "إيران الثائرة"، وكاتبه الصحافي الفرنسي بول بالطا بمشاركة كلودين رولو، وهو على نقيض الكتاب الأول يتتبع فيه الصحافي الأسباب العميقة للثورة، ذكر فيه البذخ الذي كانت تعيشه أسرة بهلوي وحاشيته، ذكر الفضائع التي تسبب بها جهاز المخابرات الصفاك، ومما ذكره أن بعض الحدائق العمومية كتب عند مدخلها "ممنوع على الكلاب وعلى الإيرانيين"، وجاء في الكتاب ذكر الظلم الذي كان تعانيه الطبقة الوسطى كالأطباء، فلا غرابة إذن أن تتهاوى مملكة بهلوي تحت أحذية الشارع الغاضب.