كيف يسوغ أن تطلب منه العوض على طاعة أقدرك عليها؟! يقول ابن عطاء الله السكندري:”لا تطلب عوضًا على عمل لست له فاعلاً يكفي من الجزاء لك على العمل أن كان له قابلاً”. بعد أن حذّرك ابن عطاء الله من طلب العوض على الطاعات التي توفق لأدائها، للسبب الذي ذكره لك، وهو غياب الصدق في طاعتك له إن أنت طلبت منه العوض ؛ أضاف في هذه الحكمة الثانية إلى هذا التحذير سبباً ثانياً، وهو أن العوض من شأنه أن يكون على عمل أنت القائم به و المنفذ له.فهل أنت الفاعل للطاعة التي تطلب من الله عوضاً عليها؟ والجواب الذي تبصرك به الحقيقة العلمية ومبادئ العقيدة الإسلامية، أن الذي يخلق أفعالك على اختلافها هو الله عز وجل. وحسبك من الأدلة النقلية على ذلك قوله تعالى:”اللهُ خالِقُ كلِّ شيءٍ”وقوله:”وخلَقَ كلَّ شيءٍ فقدَّرَهُ تقْدِيراً” والأفعال التي تصدر من الإنسان تدخل-كما هو معلوم-في عموم الأشياء. ومعنى ذلك أن الذي يقدرك على النهوض إلى الصلاة مثلا هو الله، وأن الذي يبث في كيانك القدرة على أفعالها وحركاتها من قيام وركوع واعتدال وسجود هو الله.إذن فهو الذي يخلق فيك هذه الأفعال. ولعلك تستشكل فتقول: فكيف يُثيب الله أو يعاقب عباده على أفعال هو الخالق لها؟ وكيف السبيل إلى القول بعدالة الله في هذه الحال؟ والجواب أن الثواب والعقاب ليس شيء منهما على الأفعال الصادرة من الإنسان والتي يخلقها الله فيه كما أسلفنا، وإنما ينالها العبد على عزمه القلبي الذي توجه به إلى الفعل الذي اختاره وهو ما يعبر عنه البيان الإلهي بالكسب، في مثل قوله: ”كل نفسٍ بما كسبت رهينةٌ”(المدثر) وقوله:”لها ما كَسَبَت وعَليها ما اكتسَبَت” (البقرة). غير أن الملكة الكلية للاختيار، بخلق الله تعالى، أما ممارستها باختيار الأشياء الجزئية فمن الإنسان وهي مصدر التكليف، لأنا لو قلنا أنها هي الأخرى باختيار الله لعاد الإنسان مجبراً لا يستطيع أن يمارس إلاّ ما يختاره الله له.. فإذا عرفنا أن الأفعال التي تصدر من الإنسان، إنما تصدر منه بخلق الله لها، فينبغي أن تعلم أن طاعاتك التي تتقرب بها إلى الله، إنما تم أداؤها بخلق الله لها في كيانك، فافرض أنك كنت صادقاً مع الله في الإخلاص بها لوجهين-وهو ما نبه إليه ابن عطاء في الحكمةالسابقة-كيف يسوغ أن تطلب من الله العوض على طاعة هو الذي أقدرك عليها وخلق فيك أفعالها وأقوالها؟ أليس من عظيم فضل الله عليك أن يخلق فيك ما ينسب إليك؟ أليس من عظيم فضله عليك أن يوقظك ليلاً للوقوف بين يديه، وأن يحرك لسانك بمناجاته، وأن يلين جذعك للركوع والسجود بين يديه، وأن يخلق فيك القدرة على كل ذلك؟ فكيف تستسيغ –وأنت تعلم هذا-أن تطلب منه العوض على ما وفقك له وأقدرك عليه؟ لعلك تقول: إنني لا أطلب العوض على الفعل الذي هو بخلق الله وفضله، وإنما أطلب العوض على العزم الذي توجهت به إلى طاعة الله، وقد علمنا أن توجه القلب بالعزم على الفعل صادر من العبد، ومن ثم فهو مناط الثواب والعقاب في حياته. فالجواب، أن الله تفضل عليك فكسى عزمك القلبي كسوة الفعل والتنفيذ، ولولا تفضله عليك بذلك، لما وجدت طاعتك له.. وقد تفضل عليك أيضا إذ منحك ملكة الاختيار والقدرة على اتخاذ القرار. ولولا هذه الملكة الكلية التي منحك الله إياها، لما استطعت أن تتجه برغبتك إلى فعل ما تشاء أو ترك ما تشاء. مثال هذا، ما ينبغي أن تعلمه من أن إقبالك إلى دراسة العلوم وتتبع الحقائق لا شك أنه توجه ذاتي منك، ولكن ينبغي ان تعلم أيضا أنه لولا ملكة الوعي والإدراك التي متعك الله بها، لما استطعت أن تتجه اتجاهك الذاتي إلى دراسة ما تشاء، ولما استطعت أن تصل من وراء ذلك إلى أي جدوى. اعلم أن الله قد تفضل عليك فقبل الطاعة منك، على الرغم من الأخطاء والنقائص التي فيها، عندها سيكون شغلك الشاغل عند انجاز الطاعة، وقبل النهوض إلى أدائها، أن تسأله جل جلاله أن يوفقك لأدائها على خير وجه وأن لا يؤاخذك بما قد يتسرب إليها من تقصير وأخطاء. وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: ”يا معاذ والله إني أحبك، أوصيك لا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادك” (رواه أبو داود والنسائي وأحمد..) سل الله إذا أنجزت الطاعة أياً كانت، أن يتقبلها منك، على ما فيها من نقائص، وما قد تسرب إليها من سوء الأدب وعدم اللياقة، وأن يتغمدك الله برحمته، واحرص أملك ورجاءك في ذلك كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في نهاية الحديث الذي ذكرته لك أكثر من مرة”.. إلا أن يتغمدني الله برحمته”. إن الله هو الأولى بعجزك وتقصيرك، وهو الأليق بما ينبغي أن تعلمه من تفضل الله عليك إذ لين أعضاءك وبث فيها القدرة على النهوض بما أمرك به، وشرح صدرك لأسباب التقرب إليه، بدلاً من أن يشرحه ويوجهه لأسباب الابتعاد عنه. فإنك إن التزمت هذا النهج فلسوف يكرمك الله بالقبول، ويتوج قبوله لك بالمثوبة التي هو أهل لإكرامك بها، وإن لم أكن أنا وأنت أهلاً لشيء منها. المرحوم الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي