رئيس الجمهورية يؤكد التزام الجزائر بالمرافعة عن قضية التنمية في إفريقيا    القضاء على إرهابي بالشلف بالناحية العسكرية الأولى    لويزة حنون: حزب العمال سيفصل في مرشحه لرئاسيات سبتمبر 2024 شهر ماي المقبل    تربية المائيات: الشروع قريبا في عملية واسعة لاستزراع صغار أسماك المياه العذبة بالسدود    عرقاب يتباحث بتورينو مع الرئيس المدير العام لبيكر هيوز حول فرص الاستثمار في الجزائر    مئات المستوطنين الصهاينة يقتحمون المسجد الأقصى المبارك    مندوب المخاطر الكبرى بوزارة الداخلية : الجزائر معرضة ل 18 نوعا من الأخطار الطبيعية تم تقنينها    كرة القدم: غلق مؤقت لملعب 5 جويلية للقيام بأشغال الترميم    شهر التراث : إبراز عبقرية العمارة التقليدية الجزائرية في مقاومتها للزلازل    فلاحة: السيد شرفة يستقبل المدير التنفيذي للمجلس الدولي للحبوب    عيد العمال: الأربعاء 1 مايو عطلة مدفوعة الأجر    شهر التراث: منح 152 رخصة بحث أثري على المستوى الوطني خلال الأربع سنوات الماضية    موعد عائلي وشباني بألوان الربيع    الوريدة".. تاريخ عريق يفوح بعبق الأصالة "    مسؤول فلسطيني : الاحتلال فشل في تشويه "الأونروا" التي ستواصل عملها رغم أزمتها المالية    بوزيدي : المنتجات المقترحة من طرف البنوك في الجزائر تتطابق مع مبادئ الشريعة الإسلامية    هنية يُعبّر عن إكباره للجزائر حكومةً وشعباً    العالم بعد 200 يوم من العدوان على غزة    صورة قاتمة حول المغرب    5 شهداء وعشرات الجرحى في قصف صهيوني على غزة    العدوان على غزة: الرئيس عباس يدعو الولايات المتحدة لمنع الكيان الصهيوني من اجتياح مدينة رفح    رقمنة تسجيلات السنة الأولى ابتدائي    مولودية الجزائر تقترب من التتويج    تيارت/ انطلاق إعادة تأهيل مركز الفروسية الأمير عبد القادر قريبا    كأس الكونفدرالية الافريقية : نهضة بركان يستمر في استفزازاته واتحاد الجزائر ينسحب    رفع سرعة تدفق الأنترنت إلى 1 جيغا    تسخير كل الإمكانيات لإنجاح الإحصاء العام للفلاحة    إجراء اختبارات أول بكالوريا في شعبة الفنون    الجزائر وفرت الآليات الكفيلة بحماية المسنّين    أمّهات يتخلّين عن فلذات أكبادهن بعد الطلاق!    تقدير فلسطيني للجزائر    سنتصدّى لكلّ من يسيء للمرجعية الدينية    برمجة ملتقيات علمية وندوات في عدّة ولايات    المدية.. معالم أثرية عريقة    مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي: فرصة مثلى لجعل الجمهور وفيا للسينما    ذِكر الله له فوائد ومنافع عظيمة    الجزائر تُصدّر أقلام الأنسولين إلى السعودية    دورة تدريبية خاصة بالحج في العاصمة    استئناف حجز تذاكر الحجاج لمطار أدرار    بعد مسيرة تحكيمية دامت 20 سنة: بوكواسة يودع الملاعب بطريقة خاصة    عون أشرف على العملية من مصنع "نوفونورديسك" ببوفاريك: الجزائر تشرع في تصدير الأنسولين إلى السعودية    موجبات قوة وجاهزية الجيش تقتضي تضافر جهود الجميع    تخوّف من ظهور مرض الصدأ الأصفر    إبراز دور وسائل الإعلام في إنهاء الاستعمار    عائد الاستثمار في السينما بأوروبا مثير للاهتمام    "الحراك" يفتح ملفات الفساد ويتتبع فاعليه    مدرب ليون الفرنسي يدعم بقاء بن رحمة    راتب بن ناصر أحد أسباب ميلان للتخلص منه    العثور على الشاب المفقود بشاطئ الناظور في المغرب    أرسنال يتقدم في مفاوضات ضمّ آيت نوري    "العايلة" ليس فيلما تاريخيا    5 مصابين في حادث دهس    15 جريحا في حوادث الدرجات النارية    تعزيز القدرات والمهارات لفائدة منظومة الحج والعمرة    نطق الشهادتين في أحد مساجد العاصمة: بسبب فلسطين.. مدرب مولودية الجزائر يعلن اعتناقه الإسلام    لو عرفوه ما أساؤوا إليه..!؟    أهمية العمل وإتقانه في الإسلام    مدرب مولودية الجزائر باتريس يسلم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الكاتب الاستوني جان كابلينسكي للنصر
نشر في النصر يوم 06 - 05 - 2013

رثيت فرعون و ترجمت حاج علي و كامي قال لي أن ألمه للجزائر يشبه آلام الصدر
كانت الساعة تشير إلى تمام الثالثة بعد الزوال حينما دخل "جان" إلى مطعم "بيار" وسط مدينة تارتو، ثاني أكبر المدن الإستونية بعد العاصمة تالين. كنت جالسا في أحد أركان المطعم أتصفح كتابا مترجما إلى الفرنسية يحتوي مختارات من شعره، وكنت قد استبقته إلى مكان الموعد بدقائق فقط، ريثما أعيد ترتيب عدة أسئلة وتساؤلات في ذهني، والتي أردت من خلاها إماطة اللثام عن مساهمة هذه القامة الأدبية في التعريف بالأدب الجزائري في أستونيا و أوروبا الشرقية.
حاوره في استونيا: حمزة عماروش
وما إن بادرت إلى استقباله وتوجيهه نحو الطاولة التي اخترتها بعيدا عن ضجيج الزبائن قرب الكونتوار، حتى استبقت بسمته كلماته، وراح يتأملني عن كثب وكأنه يسترجع ذكريات عن الجزائر بدت بعيدة عنه في تلك اللحظة.
على مائدة الدردشة قبل الحوار، شكرته على قبول الدعوة، وراح يسألني عن واقع اللغات واللهجات في الجزائر. كان سؤالا بديهيا بحكم تكوينه الجامعي في اللسانيات. لقد اكتشفت في جان كاتبا متذوقا لعدة لغات، فإلى جانب لغته الأم الإستونية، فهو يتقن عدة لغات بنسب متفاوتة، من الفرنسية إلى الروسية، الفنلندية، الإنكليزية، البرتغالية، إلى لغات الدول الإسكندنافية الأخرى وغيرها من اللغات التي اهتم بها بعد أن أتمّ دراساته في اللسانيات بجامعة تارتو بإستونيا ما بين سنتي 1962 1965، فكانت تلك انطلاقة لاهتمامه الميداني باللسانيات وخصوصا بالأنوماتوبيا. وفي هذا الحوار الشيق الذي تخللته دردشات متقطعة حول العديد من المواضيع، حاولت استجماع ذكرياته عن الأدب والأدباء الجزائريين، عن حياته والعديد من المحطات التي ستكتثفونها في هذا الحوار.
انصرف النادل، فبادرت جان بالسؤال:
ألاحظ أنك متمكن من اللغة الفرنسية، ما سر ذلك رغم نشأتك في بيئة إستونية ؟
أتذكر أنني بدأت أدرس الفرنسية مبكرا حينما كنت طفلا صغيرا وكانت والدتي تدرّس اللغة الفرنسية حينئذ هنا في مدينة تارتو. وخلال إقامة والدتي بباريس أين كانت تدرس الرقص العصري، كانت على صلة بالعديد من المثقفين هنالك، وجلبت كتبا وروايات عديدة بالفرنسية من فرنسا وسويسرا لألبير كامو وسارتر وغيرهما، ومنذ ذلك الحين بدأت أعشق هذه اللغة وأهتم بالعديد من الأعمال الأدبية التي كتبت بها. وأود أن أذكر قبل ذلك، أن والدتي كانت مضطرة حينا من الزمن لكي تعمل في مخبر للبيطرة رغم تكوينها في الرقص العصري والفيلولوجيا الفرنسية، إلّا أنها وجدت نفسها في الأخير تعمل في ميدان لا علاقة له إطلاقا بما كانت تنوي العمل به. كانت والدتي نورة كابلينسكي معادية للنظام الشمولي آنذاك، لأنه عطل فرصها في الظفر بمنصب عمل يلائم تكوينها، إلى أن أصبحت فيما مدرّسة للغة الفرنسية.
و حينما بلغت سن العشرين لم أكن أتحدث اللغة الإنكليزية بعد، غير أنني كنت أجيد الفرنسية. وأعتقد أنه حدث الآن العكس، حيث أجدني متمكنا من اللغة الإنكليزية أكثر من الفرنسية، إلّا أنني أؤكد لك شيئا، حيث رغم تمكني الآن من اللغة الإنكليزية إلّا أنني لا أزال أجد متعة المطالعة أقرب إلى اللغة الفرنسية منها إلى الإنكليزية.
ألا تعتقد أنها نوستالجيا المطالعة باللغة الفرنسية؟
قد يكون ذلك بالطبع، حيث أنني قرأت للعديد من الكتاب باللغة الفرنسية أثناء طفولتي في أستونيا، مما ولد في ذاتي علاقة وجدانية متينة مع هذه اللغة. وبحكم دراستي للسانيات فقد أصبحت اهتماماتي منصبة أكثر على البحث في مختلف اللغات واللهجات، وللأسف ليس لدي الآن القدرة على تعلم لغة جديدة إلاّ أنني لازلت أبحث في الأونوماتوبيا الموجودة في لغات ولهجات العالم. فمثلا قمت بأبحاث في لغة "التاميل" فوجدت أن الأونوماتوبيا في هذه اللغة لا تعتمد في غالب الأحيان على تكرار نفس المفردات كما هو الشأن في اللغة اليابانية. ففي التاميل تجد الكلمة الأولى تختلف عن الثانية، بينما الكلمتان مجتمعتان تعبران عن معنى واحد. هذا مجرد مثال فقط، إذ هناك العديد من الحالات التي تختلف من لغة إلى أخرى...
في بداية الأمر لم أكن أتصور أنني سأصبح كاتبا، كنت أريد أن أكون باحثا في اللسانيات أو في إحدى المجالات العلمية، غير أن ميلي الكبير إلى الشعر ورغبتي في كتابته، أثبتا مع مرور الوقت أنني أتنفس الشعر وأعتبره جزء من حياتي وفلسفتي.
وأنت تتحدث عن اللغات في العالم، ماذا عن اللغة الأمازيغية الموجودة في شمال إفريقيا واللغة العربية مثلا؟
بالنسبة للأمازيغية أو البربرية فلا أتحدثها إلّا أنني طالعت العديد من الكتابات عن المجتمع في منطقة القبائل و التوارق، أعني أنها دراسة إتنوغرافية، أما العربية فقد قرأت ذات مرة كتابا عن تاريخ الأدب العربي وأذكر أنني تعلمت العديد من مفرداتها، وفي الولايات المتحدة مثلا، اذكر أنني كنت أتردد على مقهى لبناني، وأتحدث مع النادل بالعربية (يضحك).
ماذا كنت تقول للنادل مثلا؟
(يقولها بالعربية): أعطيني قهوة من فضلك... (ثم ينفجر ضاحكا). نعم لقد استطعت ذات مرة حينما زرت الإسكندرية في مصر أن أقرأ شعرا بالعربية. ولكن رغم ذلك لم تتعد دراستي لهذه اللغة باب البحث في اللسانيات، ولم تكن دراستي لها معمقة.
كيف تعرفت على الأدب الجزائري لأول مرة؟
(يبتسم) بهذا السؤال، أنت تذكرني بالكاتب الجزائري ألبير كامو الذي قال ذات مرة: " ألمي للجزائر في هذا الوقت، يشبه آلام الصدر التي يعاني منها البعض". لقد كان أول كتاب معاصر أقرأه باللغة الفرنسية هو رواية ‹الطاعون" ثم رواية "الغريب" فيما بعد. وفي تلك الحقبة أيضا تعرفت على كتابات الروائي مولود فرعون الذي أعتبره كاتبا فذا، وطريقة اغتياله هي مؤسفة حقا خصوصا أنه كان بإمكانه إحداث وثبة أخرى في الأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية. إن أسلوبه يشبه حسب اعتقادي أسلوب الكاتب الإستوني ريديك سوار مؤلف كتاب "منذ اليوم الأول"، فريدريك يحكي قصصا عن طفولته وعن المجتمع الإستوني في جزيرة ساريما الإستونية بأسلوب يشبه إلى حدّ كبير أسلوب مولود فرعون خاصة في كتابه "أيام في القبائل" وكلا الكتابين يربطهما عنصرا التشويق وطريقة السرد التي تجعل القاريء ينساق وراء أحداث القصة ويعيش لحظاتها مثلما عاشها الكاتب. لقد كتبت عن ذلك فيما مضى، حقا لقد تأثرت كثيرا بكتابات مولود فرعون وبحياته، وقد ترك اغتياله في نفسيتي جرحا عميقا لكونه كان كاتبا مسالما لا يستحق فعلا نهاية مؤلمة. لقد غادرنا وهو في أوج العطاء.
وهل يتجلى هذا الجرح والتأثر في عمل من أعمالك؟
أجل، ناهيك عن كوني ذكرته في عدة مناسبات ومقالات لم أعد أذكر تواريخها بالضبط، فقد رثيته أيضا منذ سنين بعيدة في شعر مطول، رثيت فيه أيضا الكاتب البولندي الكلاسيكي جانوز كوركزاك الذي توفي هو الآخر في ظروف مأساوية، وكذلك المؤلف والسياسي الإنكليزي توماس مور الذي عارض في القرن السابع عشر طلاق هنري الثامن لكاثرين من آراغون، فرفض الإعتراف به كرئيسا للكنيسة فتم الزج به في السجن وقطع رأسه. دعني أبحث في أرشيفي كل ذلك وسأرسل لك ما كتبته عن ذلك.
أنا أعارض الهمجية ضد الكتاب وأرفض العنف والقتل ومصادرة الرأي في كل مكان. لقد وصفت هؤلاء الكتاب بالورود التي لا تتحمل الأغصان ثقلها رغم أنها لم تحمل أعناقها بعد. وفي دهاليز قذارة التاريخ والطرقات تعبث أشياء مروعة من دون هوية، من غير اسم، تكبر وتتصاعد من بعيد كشرارة النيران من نوافذ حقل مهجور. فقد قلت فيهم (يقول الشعر بالإستونية):
" أنظر إلى ذاك الجو الداكن،
هنالك...
حيث يتدلى عنق توماس مور، مخضبا بالدماء...
أنظر إلى ذاك المكان،
يبدو كل شيء قاتما،
هنالك، حيث أدخل جانوز كوركزاك إلى ذاك المكان،
هنالك، حيث سقط مولود فرعون... "
لقد كان شعرا مؤثرا، كانت الكلمات تنساب متسارعة وكنت أحس بكل وصف آنذاك حينما كنت أكتب.
في أي ديوان يمكن أن نعثر على هذا الشعر؟
لقد مرت سنين طويلة على ذاك الزمن، لست أدري بالضبط في أي ديوان، إلاّ أنني أعتقد أنه يمكنك الاطلاع عليه في ديوان صدر لي سنة 2000 الموسوم ب "كتابات'' والذي يحتوي على عدة مختارات شعرية قديمة. (بعد الحوار مباشرة تحصلت على نسخة الكتاب من مكتبة مدينة تارتو)
وهل ترجمت مثلا لكتاب جزائريين أخرين؟
بالطبع، ففي سنوات الستينات تعرفت على كتابات الشاعر والمناضل الجزائري بشير حاج علي عن طريق إحدى المجلات الفرنسية التي نشرت له في تلك الفترة مختارات شعرية، كانت تتحدث عن معاناته في السجن وإصراره على مواصلة النضال. وأنا أتصفح المجلة ذات يوم قرأت تلك الأشعار فبدت لي واجهة للتحدي والصمود، حيث اكتشفت هذا الشاعر الثائر الذي كان يحظى باحترام دوائر النخبة في فرنسا آنذاك، خاصة من طرف اليساريين والحزب الاشتراكي. ومنذ ذلك الحين بدأت أهتم بكتاباته وأشعاره وأعجبت بشخصيته ونضاله في سبيل مبادئه وأفكاره اليسارية التي كان يِؤمن بها ويدافع عنها بكل إخلاص. لقد كان شاعرا من الطراز الرفيع وكانت أشعاره فعلا صرخة مدوية جديرة بالترجمة.
في سنة 1968، صدر لوالدتك نورة كابلينسكي ترجمة رواية "الإنطباع الأخير'' للروائي الجزائري مالك حداد إلى الإستونية، كيف بدأت الفكرة؟
بحكم ثقافتها وتكوينها باللغة الفرنسية، كانت والدتي تتابع كل إصدار أدبي جديد ومختلف الكتب والروايات التي كانت تصدر بهذه اللغة خصوصا تلك التي كانت تلقى رواجا في تلك الفترة.. وأعتقد أن اختيار رواية "الانطباع الأخير" كانت له صلة مباشرة مع قيم الحرية والمساواة الموجودة في الرواية... لقد مرت عقود من الزمن على ترجمة تلك الرواية، حيث أنني نسيت العديد من تفاصيلها، غير أنني أتذكر جيدا أنني ساعدت كثيرا والدتي في ترجمتها إلى الإستونية وكتبت ملخصا أرفق بالترجمة عن المجتمع الجزائري والثورة الجزائرية. لقد كانت تلك الترجمة إصدارا مميزا في تلك الفترة.
تذكر في الملخص الذي كتبته في الصفحة 108 من الترجمة أن مالك حداد هو ثاني أديب جزائري يترجم إلى اللغة الإستونية. هل سبق وأن التقيت مثلا بمحمد ديب وهو أول كاتب جزائري تترجم روايته "صيف إفريقي'' إلى الإستونية؟
بالطبع، التقينا في ستراسبورغ بفرنسا منذ أكثر من عشرين سنة رفقة كتاب مغاربة آخرين لا أذكر أسماءهم بالضبط. لقد كان حديثنا آنذاك منصبا حول الوضع الأمني المتدهور في الجزائر. كان ديب يبدو متقدما في السن، مهموما بأوجاع وطنه وهو في المنفى... أتذكر كيف كان يتحدث في هدوء وورع عن أوجاع وطنه وفي لهجة الواثق من نفسه. كان مقنعا في الكلام، يسوق الحجج في كل حديث. لقد كان أسلوبه في الحديث مميزا، بدا لي أرستقراطيا ويختلف عن أسلوب الحديث هنا في إستونيا.
للأسف لم أقرأ له الكثير حتى يتسنى لنا الحديث أكثر عن الأدب، كان حديثنا يومئذ قصيرا وتطرقنا أكثر إلى موجة العنف التي بدأت تتصاعد في الجزائر حينئذ. أما "نيلي تويغر'' التي ترجمت روايته "صيف إفريقي'' إلى الإستونية سنة 1959، فقد كانت مختصة في الفيلولوجيا ومترجمة في آن واحد، لقد ترجمت الكثير من الأعمال الأدبية إلى اللغة الإستونية، ورغم كبرها في السن كانت لا تزال دؤوبة على الترجمة إلى حين وفاتها.
لقد كنت من بين الكتاب الذين أطلقوا مشروع البرلمان الدولي للكتاب في التسعينيات، من هم الكتاب الجزائريين الذين التقيتهم خلال تلك التحضيرات؟
لقد حضر العديد من الكتاب خلال التحضير لإطلاق المشروع ، ومن بينهم كتاب من شمال إفريقيا لا أتذكر بالضبط أسماءهم، غير أنني أتذكر الكاتبة آسيا جبار التي أعرفها بحكم أننا التقينا قبل ذلك سنة 1990 بجامعة أوكلاهوما في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث كان كلانا عضوا في لجنة التحكيم للجائزة الدولية نوستادت للأدب، وهي جائزة مرموقة ذات صيت عالمي، وتعد الثانية بعد جائزة نوبل، وتدعمها كل من جامعة أوكلاهوما و نشريتها الأدبية "الأدب العالمي اليوم". لقد تحصل على الجائزة في تلك السنة الكاتب السويدي توماس ترونسترومر الذي تحصل لاحقا على جائزة نوبل للأدب سنة 2011، وأعتبر توماس من أعز أصدقائي وقد سبق لي أن ترجمت له مختارات من شعره إلى الإستونية...
وهل كان لك حديث مع آسيا جبار في تلك المناسبة خارج موضوع الأدب؟
نعم تحادثنا حول مواضيع أخرى إلّا أنها كانت جدّ حزينة في تلك الفترة بعدما فقدت زوجها، وأذكر خلال تلك الفترة أن الجزائر كانت تعيش مرحلة مخاض عسيرة في التحول الديمقراطي، وكانت آسيا قلقة جدا بسبب الأحداث التي كانت تدور رحاها آنذاك في الجزائر. وبعد ذلك التقينا مرة أخرى سنة 1993 في ستراسبورغ بفرنسا، وكان ذلك بمناسبة التحضير للإعلان عن البرلمان الدولي للكتاب الذي عرف النور في شهر نوفمبر من نفس السنة. لقد ولدت فكرة البرلمان في ظروف عسيرة عرفت مدّ موجة العنف واغتيال المثقفين والكتاب في الجزائر. ومثل محمد ديب. كانت آسيا تناضل في صمت في سبيل وطنها رغم أنها تعيش في المنفى. أعترف أنها كانت تحمل هموم وطنها أينما ارتحلت ولا تفوت أي مناسبة لتعبر عن ذلك. وفي لقاء ستاراسبورغ ناقشنا أوضاع الكتاب المهددين في أوطانهم بسبب آرائهم وأفكارهم ومن ثمة انطلقت فكرة مدن اللاجئين للكتاب، وهي التسمية الجديدة التي حملها البرلمان الدولي للكتاب بعد الإعلان عن حله سنة 2004. وعلى فكرة، كانت مهمة الشبكة الدولية لمدن اللاجئين هي البحث عن سبل تجهيز منشآت لاستقبال الكتاب المهددين في بلدانهم لأسباب إيديولوجية أو سياسية قصد التكفل بهم وإعانتهم.
ومتى التقيت آسيا جبار لآخر مرة؟
التقينا في لشبونة بالبرتغال في سبتمبر1994 لمناقشة مشروع هام في إطار البرلمان الدولي للكتاب، وللأسف تعثر المشروع وانتهى في بداياته. أتذكر تلك المناسبة جيدا، في تلك الصبيحة وأنا بلشبونة، اطلعت على قناة بي بي سي على نبأ غرق السفينة العملاقة "إستونيا'' في أعماق مياه البلطيق. لقد كانت تلك أسوء كارثة في تاريخ إستونيا المستقلة، والتي أودت بحياة المئات من الضحايا...
سنة بعد ذلك (1995)، أصدرت كتابا في أدب الرحلة موسوم ب " الجليد والتيتانيك". ألا توجد علاقة بين الكارثة وعنوان الكتاب؟
(يبتسم) يبدو الأمر كذلك، ولكن في الحقيقة لست أدري لماذا كتبت عن قصة التيتانيك بالضبط، أعتقد أن الفكرة جاءت من ابني "لميت'' الذي يمتلك حاليا مطبعة هنا في تارتو، لقد كان مهتما إلى أقصى حد بتلك القصة وغالبا ما كان يحدثني كل أمسية عنها... (يتنهد) آه، لقد امتلأت ذاكرتي بالأحداث وأصبحت أنسى الكثير من التفاصيل في حياتي، فاعذرني إن كنت موجزا في الأجوبة...
توقفنا عن الحوار بعضا من الوقت، وراح يسرد لي بعض الأساطير عن منطقته التي ترعرع فيها "بولفا'' تلك المدينة الهادئة في الجنوب الإستوني، واسترجع العديد من اللحظات التي اعترف أنها غابت عن ذاكرته لفترة طويلة من الزمن. كنت أسأل، وهو يجيب، تارة يختصر وطورا يجيبني بسؤال آخر. سألني كثيرا عن الجزائر، عن الواقع الثقافي، المسرح، السينما، الدين... سألني عن اللغة الأمازيغية ولهجاتها، عن اللغة العربية... لم يسألني كثيرا عن السياسة، لأنه لا يجيد الحديث في السياسة، فبالنسبة إليه كلغوي وباحث في اللسانيات، كل له اختصاصه واهتماماته، فهو يجد المتعة الكبرى في الحديث عن تاريخ اللغات واللهجات في العالم، وليس بالغريب أنه يجيد لغات عديدة.
كان من حين إلى آخر يستشهد بأبيات من الشعر، وأنامله تتصفح كتابا، أو تمسحان في عناية على قنينة من الفخار التقليدي الجزائري، جلبتها خصيصا له من منطقة القبائل.
واصلنا الحوار، فسألته:
نجد في العديد من الدراسات النقدية الأدبية أنك تأثرت كثيرا بالكاتب الفرنسي رامبو، كيف بدأ هذا الاهتمام؟
هذا صحيح، بدأت الاهتمام بأرثور رامبو منذ مدة، أتذكر عندما كنت طالبا في الجامعة أنجزت بحثا عن حياته، تأثرت به لكونه كان شاعرا متمردا يكتب بصدق وعرف بتمرده على البرجوازية ودعواته للتحرر، وكان شاعرا محبا للمغامرة والاستكشاف ودفع به الفضول إلى زيارة اليمن وإثيوبيا والاطلاع على حالة الشعوب في تلك المجتمعات، ورغم حياته القصيرة إلا أن شاعريته كان لها بالغ الأثر ليس فقط على المجتمع الفرنسي بل حتى على المجتمعات والشعوب الأخرى. فإلى جانب الأدب الفرنسي، فقد قرأت أيضا الكثير من الشعر الروسي في طفولتي، وبدأت ذلك في سن الثالثة عشر لأهتم بعدها بأغلب ما كتب في الشعر الروسي الكلاسيكي، إنه في غاية الأهمية ويستمد خصوصيته من كون أن أغلب الأشعار الروسية الكلاسيكية كانت محافظة تتغنى مجملها بالتقاليد الروسية القديمة، وتستمد وحيا خاصا من الكنيسة الأرثذوكسية الروسية.
* منذ الستينات إلى يومنا هذا نشرت أكثرت من عشرين ديوانا شعريا، غير أن أول مجموعة قصصية لك "هناك من حيث يأتي الليل" لم تصدر إلّا سنة 1990. لماذا كل هذا التأخر في كتابة النثر و القصة؟
من الأحرى أن تقول التأخر في النشر. أعتقد أن الإشكال ليس في نوع الجنس الأدبي بقدر ما هو انعكاس آني للإبداع وفق المخيال الذي يناسب التعبير الحسن والملائم لأحاسيسنا. إن تطور التجربة الشخصية ليس لها زمن محدد حيث يتوجب الانتقال فيه من جنس أدبي إلى أخر، وبتعبير أدق، ربما أجدني في تلك المرحلة أقرب إلى الشعر منه إلى النثر، إلا أنني أؤكد لك نقطة هامة، وهي أنني كتبت قصصا كثيرة إبان الحقبة السوفياتية إلا أنها لم تنشر إلاّ بعد استقلال إستونيا. وخلال تلك الفترة كنت أكتب أيضا في المسرح، كمثال مسرحية "يوم الملوك الأربعة" الصادرة في 1975، إضافة إلى كتب أخرى للأطفال نشرت في السبعينات من القرن الماضي. أضف إلى ذلك أنني كنت أشتغل أيضا على الترجمة، فعلى سبيل المثال، فقد سبق وأن ترجمت إلى الإستونية لأندري جيد، آلان فورنيي، أيضا "طيار الحرب" لأنطوان سانت إكزيبيري، وللسويدي توماس ترونسترومر، كما ترجمت بمساعدة صديق لي ما يناهز الخمسين عملا لشعراء صينيين كلاسيكيين، فكانت تلك المجموعة نافذة مهمة على آداب آسيا الشرقية...
لنعد إلى دواوينك الأولى التي ظهرت خلال مرحلة التجديد الأدبي الإستوني في الستينات، نلاحظ وجود اهتمام كبير بالبيئة، كما يبدو جليا تأثر نصوصك بالديانات التقليدية الشرقية. ما تعليقك على ذلك؟
الشعر هو تجاربنا في الحياة، نحن نكتب ما نشعر به، نكتب ما نريد تحقيقه ونحلم به. هذا موضوع مهم فعلا. أنا أحلم بتحقيق عالم إيكولوجي نظيف يعطي للبيئة حقها ويحترم الطبيعة ككيان وجداني نتنفسه ونشعر به. تلك مسألة لها جانبها الجمالي أيضا. في الستينات كنت أعمل في حديقة النباتات في العاصمة تالين، كنت، أكتب بعض المقالات عن البيئة والطبيعة، ثم سرعان ما انتقلت تلك الأحاسيس الوجدانية إلى وصف جمالي في كيان الشعر، فكان ذلك تأثيرا بارزا للبيئة على أشعاري الأولى...
ألا يفهم من هذا الكلام أن تلك الاهتمامات كانت مجرد مرحلة من المراحل؟
بالعكس، أقول مرة أخرى أنني مرتبط ارتباطا وجدانيا بالبيئة، وأعني أنها ليست مجرد اهتمام ظرفي كما تعتقد، بقدر ما تشكل فلسفة بأكملها في قاموسي الشعري. تعال، أدعوك إلى القرية الصغيرة التي أقطن بها، لا تبعد سوى 35 كلم عن تارتو، ستتأكد بنفسك مما أقول...
يبدو أن نشأتك في ريف هادئ مليئ بالأساطير وحكايات الأجداد كان لها تأثير مباشر في هذا الارتباط الوجداني...
أجل، لقد كان لتلك النشأة تأثير على العديد من الدواوين الشعرية التي نشرتها كما على النثر. فمثلا تجد أنني ذكرت بعض الأماكن التي نشأت فيها أو قضيت بها مراحل مهمة خلال طفولتي، وأذكر مثلا منطقتين في مقاطعة بولفا قضيت فيها فترات طفولة رائعة، حيث أتذكر إلى الآن حينما كنت أتعلم السباحة في مياه النهر الموجود بالمنطقة. حقا، إلى يومنا هذا لا يزال يشدني الحنين إلى تلك الأوقات السعيدة. إنها فعلا نوستالجيا إلى طفولة بريئة لن تعود.
حسنا، وأنت تتحدث عن الطفولة، كيف كانت ذكرياتك مع والدك البولوني الذي كان يدرس أيضا في جامعة تارتو؟
عندما أوقف والدي من طرف جهاز الأمن في تلك الفترة، كنت لا أزال صبيا في الشهر الخامس. أحيانا عندما يقسو القدر يجب علينا نحن البشر أن نواجهه بكل هدوء وثقة. حقا هو موضوع شائك غير أنه ذا أهمية قصوى لتأثيره أيضا في مساري الأدبي فيما بعد. ولد والدي البولندي جيرزي كابلينسكي في مدينة فرصوفيا ببولندا، وفي بدايات القرن العشرين أمضى عشرية كاملة من شبابه في مدينة سانت بترسبورغ بروسيا، في تلك المدينة الجميلة الرائعة التي تعد مهدا للعلوم والثقافة والآداب والموسيقى، والتي يؤمها الزوار والطلاب من كل صوب وحدب. ومن ثمة زار والدي بعض المدارس في دول أخرى كفرنسا وسويسرا وتشيكوسلوفاكيا، إلى أن انتهى به المطاف محاضرا ومدرسا للغة البولندية في جامعة تارتو، وكانت السلطات البولندية آنذاك هي التي أرسلته إلى استونيا لتولي هذه المهمة. وفي إحدى الأيام ألقي عليه القبض وتم الزج به في الغولاغ في سيبيريا، فكانت رحلة من دون عودة... كانت أمي لم تعلم وقتئذ أنه كان في الغولاغ، أما أنا فقد اطلعت فيما بعد على وثائق توقيفه غير أنني لا أعلم إلى اليوم أي شيء عن ظروف وفاته بعد التوقيف..(يتنهد ثم يسترسل في الحديث كمن يبحث عن ذكريات متعثرة):
أغلب الظن أنه أرسل بعد التوقيف إلى مخيمات الأعمال الشاقة في سيبيريا للعمل كعبد من دون هوية، إلى أن توفي من شدة الجوع والإنهاك.
في تلك اللحظات كانت عيناه تتطلعان إلى كتابين كانا على الطاولة للروائيين مولود معمري والطاهر جاووت (حكايات بربرية من القبائل و رواية الباحثون عن العظام)، أحضرتهما له خصيصا، وراحت أنامله تداعب ببطء حافة الكتاب وقد لفه صمت لبعض الوقت. كانت تلك فرصة مناسبة لإعفائه من تلك الذكريات الأليمة.
عدنا للدردرشة بعضا من الوقت، حيث كانت الساعة تشير إلى الخامسة إلا ربعا. كان مرتبطا بموعد آخر بعد دقائق فقط.
قلت له في عجل:
لنختم الحوار بسؤال أخير...
أجل تفضل.
بعد كل هذه السنين من الإبداع و الكتابة، و هذا السجل الحافل بالجوائز الأدبية، وأعمالك قد ترجمت إلى أكثر من 20 لغة، كيف تبدو لك الكتابة الآن؟
في الحقيقة هاجس الكتابة يبقى ذاته ولا يخضع لأي متغير. كما أن المبدع أيضا يجب أن يحافظ على ذاته المسكونة بحب الكتابة والإبداع. ذاك هو الأهم. لقد مرت عقود من الزمن على إصداراتي الأولى، وحينما أتصفحها الآن أشعر أنها لا تزال تغرد في كياني ولم تتأثر بتطورات الأحداث التي تجري حولنا. الإبداع الجيد ليس له عنوان ولا زمان، الإبداع هو الحب والإخلاص لما نؤمن به. فحينما تكتب ما تحس به فعلا، فاعلم أنه أيضا إحساس أناس آخرين من حولك، تلك بذاتها ترجمة، هي ترجمة لأحاسيس سرعان ما تتحول إلى ترجمة من لغة إلى أخرى. تلك هي النشوة، إسعاد الآخرين في كل قطر.
أنا أعكف حاليا على إصدار ديوان شعر باللغة الروسية، يمكن أن تسميها أشعارا ثورية، غير أنها تسافر بهواجس الحب والحرية بين أبياته. أنا أحس بذاتي في كل لغة، هو إحساس بالإنتماء إلى كل لغات ولهجات العالم. وفي الأخير أقول أن الكتابة نضال ومتعة في آن واحد، هما شقان يلازمان المبدع إلى آخر لحظة من حياته. أعتقد أن الفكرة واضحة لديك الآن.
شكرا جزيلا على هذا الحوار وعلى تلبية الدعوة...
شكرا ...
سلامي إلى الجزائر التي أتمنى أن أزورها يوما...
من هو جان كابلينسكي:
يعد جان كابلينسكي من المثقفين البارزين في إستونيا وأحد كبار كتابها المعاصرين الذين ساهموا في حركة التجديد الأدبي الإستوني في الستينات من القرن الماضي. يكتب في الشعر والقصة والمسرح، كما ترجم العديد من الأعمال الأدبية إلى اللغة الإستونية، وترجمت أعماله أيضا إلى أكثر من 20 لغة.
ولد كابلينسكي في يوم 22 جانفي سنة 1941 بمدينة تارتو بإستونيا، من أم إستونية (نورة كابلينسكي) درست الفيلولوجيا والأدب الفرنسي، وأب بولندي (جيرزي كابلينسكي ) توفي بعد أشهر فقط من ولادته. درس علم اللسانيات واللغة الفرنسية في جامعة تارتو، كما يهتم أيضا بالفلسفة والأنتروبولوجيا، وكذا بالإيكولوجيا والديانات الشرقية. يتحدث عدة لغات ويكتب الشعر بأكثر من لغة. كانت بداياته الأدبية الأولى في كتابة الشعر حيث أصدر في الستينات عدة مجموعات شعرية ساهمت في حركة التجديد الأدبي الإستوني، وقد أولت آنذاك إهتماما بارزا بالطبيعة وتأثرها بالديانات الشرقية
يرى أغلب النقاد أن نصوصه تتسم بالتحرر لما تحمله من قيم سياسية وفلسفية، ترفض العنف وتواكب ما يعيشه عالمنا المعاصر من تجاوزات.
في سنة 1997 تحصل كابلينسكي على الجائزة الكبرى للأدب من المجلس البلطيقي، واسمه ظل إلى اليوم مرشحا عدة مرات لجائزة نوبل للآداب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.