لن أقف هنا على أطلال ولا ألتزم نقاشا معيّنا، لأن ما يستهويني في جيل الأستاذ المفكر والفيلسوف الجزائري الدكتور عبد الله شريط رحمه الله، هو ذلك الوعي الفكري والأخلاقي الرّصين، عندما كان يحتدم السّجال بين الكبيرين مصطفى الأشرف وصاحب حديثي في هذا المقام، فرغم ما كان يحمله من تصاعد في المواقف بين هذا التيار وذاك، إلا أن الاختلاف الفكري لم ينزلق إلى العداوة الشخصية والخصومة النّفسية، بل بقيت قائمة على ''علاقة محبّة واحترام متبادل'' يزيدها جمالا ذلك الاختلاف والنقاش الفكري المتعالي عن ''الحساسيات المرضيّة'' رغم ما كانت تشهده الساحة الثقافية والسياسية الجزائرية في العهد البومديني من ''حالة سجال فكري نوعي''، ربّما نذكر منه الموقف الخاص بانقسام المجتمع بين المفرنسين والمعرّبين على خلفية ما كتبه مصطفى الأشرف ضدّ المدرسة العربية وما أثاره عبد الله شريط في دفاعه عن العربية، عندما طلب شريط من وزير الإعلام آنذاك رضا مالك بترجمة كتابات الأشرف إلى العربية ومقالاته (هو) إلى الفرنسية، حتى تتّسع دائرة الوعي بالحوار بين أفراد المجتمع ومدّ الجسور بين المثقفين الجزائريين لتفادي الانقسام والتصادم والتخندق، (لأن القضية ليست فيها خصومة، إنّما هو نقاش أفكار) على حدّ تعبير الأستاذ الزّاوي أبو العمري· وأذكر هذا الاستهلال للمقاربة بين ما ظل يمثّله جيل عبد الله شريط ومصطفى الأشرف من حيوية ونضج الوعي الفكري والأخلاقي وما آلت إليه - ربّما - هذه الميزة الثقافية، في محيط حياتنا الثقافية المنكمشة والمستعصية على الفهم، بين المثقفين أنفسهم، حتّى أن جوهر القضايا الكبرى التي يحتاج المجتمع إلى رأي المثقفين فيها ونقاشهم ''الهادئ والمسؤول'' حولها، لا تستوقف أجيالنا نحن اليوم، بالقدر الذي كانت عليه، فلم يعد يجد (هذا المجتمع) ما يثري حاجته للأفكار، إلاّ بقدر ما يشبع غريزة المثقفين من مسألة الخلط بين ''الاختلاف'' و''الخلاف'' وبين ''القناعة'' و''الإرغام''، حتى تحوّل مشهد المثقفين، في نظر المجتمع إلى ''حالة سخرية''، جعلت اهتمام الشارع بجديد تحويلات اللاعبين وإجراءات الهجرة وأحداث الاختلاس والنّهب العام للثروة الأخلاقية والمادية، في صلب ''الثقافة الوطنية الجديدة'' لأنّ ''المثقفين الحاليين'' في تركيز كبير حول ''الاهتمامات الشخصية''، بينما يبقى المجتمع يتيما من نعمة الفكر الخالص والنقاش الحضاري والسّجال المتفتّح حول القضايا التي تشغله وتؤرقه كل يوم · وأعود الآن إلى ''معركة المفاهيم'' في هذين المستويين، فبين ما كان يؤرق المثقفين الجزائريين آنذاك (بكل ألوان أطيافهم) وبين ما يؤرق المجتمع اليوم، جعل من المثقفين حاليا (وبكل ألوان أطيافهم أيضا) في حالة غيبوبة عن الوعي بالوظيفة والعضوية الحضارية في المجتمع، وألبسهم حالة الانتكاسة التي يدفع ثمنها أفراد المجتمع بانغماسهم في الانحراف والهدم واليأس، وإذا لم يعد المثقفون إلى رشدهم المعرفي والتحلّي بالمسؤولية الفكرية تجاه المجتمع، فلن أزيد من صبّ الزّيت على النّار وأكتفي بقول (السلام عليكم )·