جامعة بجاية، نموذج للنجاح    بحث فرص التعاون بين سونلغاز والوكالة الفرنسية للتنمية    ملابس جاهزة: اجتماع لتقييم السنة الأولى من الاستثمار المحلي في إنتاج العلامات العالمية    بطولة العالم للكامبو: الجزائر تحرز أربع ميداليات منها ذهبيتان في اليوم الأول    السيد مراد يشرف على افتتاح فعاليات مهرجان الجزائر للرياضات    قسنطينة: افتتاح الطبعة الخامسة للمهرجان الوطني "سيرتا شو"    الطبعة الرابعة لمهرجان عنابة للفيلم المتوسطي : انطلاق منافسة الفيلم القصير    مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي: حضور لافت في العرض الشرفي الأول للجمهور لفيلم "بن مهيدي"    رئيس الجمهورية يستقبل رئيس غرفة العموم الكندية    السفير بن جامع بمجلس الأمن: مجموعة A3+ تعرب عن "انشغالها" إزاء الوضعية السائدة في سوريا    شهداء وجرحى مع استمرار العدوان الصهيوني على قطاع غزة لليوم ال 202 على التوالي    انطلاق الطبعة الأولى لمهرجان الجزائر للرياضات    إستفادة جميع ولايات الوطن من خمسة هياكل صحية على الأقل منذ سنة 2021    وزير النقل يؤكد على وجود برنامج شامل لعصرنة وتطوير شبكات السكك الحديدية    السيد دربال يتباحث مع نظيره التونسي فرص تعزيز التعاون والشراكة    السيد بوغالي يستقبل رئيس غرفة العموم الكندية    حج 2024: آخر أجل لاستصدار التأشيرات سيكون في 29 أبريل الجاري    رئيس أمل سكيكدة لكرة اليد عليوط للنصر: حققنا الهدف وسنواجه الزمالك بنية الفوز    "الكاف" ينحاز لنهضة بركان ويعلن خسارة اتحاد العاصمة على البساط    بقيمة تتجاوز أكثر من 3,5 مليار دولار : اتفاقية جزائرية قطرية لإنجاز مشروع لإنتاج الحليب واللحوم بالجنوب    رئيس الجمهورية يترأس مراسم تقديم أوراق اعتماد أربعة سفراء جدد    شلغوم العيد بميلة: حجز 635 كلغ من اللحوم الفاسدة وتوقيف 7 أشخاص    ميلة: عمليتان لدعم تزويد بوفوح وأولاد بوحامة بالمياه    تجديد 209 كلم من شبكة المياه بالأحياء    قالمة.. إصابة 7 أشخاص في حادث مرور بقلعة بوصبع    نحو إنشاء بوابة إلكترونية لقطاع النقل: الحكومة تدرس تمويل اقتناء السكنات في الجنوب والهضاب    السفير الفلسطيني بعد استقباله من طرف رئيس الجمهورية: فلسطين ستنال عضويتها الكاملة في الأمم المتحدة بفضل الجزائر    معرض "ويب إكسبو" : تطوير تطبيق للتواصل اجتماعي ومنصات للتجارة الإلكترونية    وسط اهتمام جماهيري بالتظاهرة: افتتاح مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي    رئيسة مؤسسة عبد الكريم دالي وهيبة دالي للنصر: الملتقى الدولي الأول للشيخ رد على محاولات سرقة موروثنا الثقافي    خلال اليوم الثاني من زيارته للناحية العسكرية الثالثة: الفريق أول السعيد شنقريحة يشرف على تنفيذ تمرين تكتيكي    حلم "النهائي" يتبخر: السنافر تحت الصدمة    مشروع جزائري قطري ضخم لإنتاج الحليب المجفف    القيسي يثمّن موقف الجزائر تجاه القضية الفلسطينية    بطولة وطنية لنصف الماراطون    سوناطراك توقع بروتوكول تفاهم مع أبراج    تسخير 12 طائرة تحسبا لمكافحة الحرائق    الجزائر تحيي اليوم العربي للشمول المالي    هزة أرضية بقوة 3.3 بولاية تيزي وزو    ش.بلوزداد يتجاوز إ.الجزائر بركلات الترجيح ويرافق م.الجزائر إلى النهائي    العدالة الإسبانية تعيد فتح تحقيقاتها بعد الحصول على وثائق من فرنسا    جعل المسرح الجامعي أداة لصناعة الثقافة    جلسة للأسئلة الشفوية بمجلس الأمة    معركة البقاء تحتدم ومواجهة صعبة للرائد    اتحادية ألعاب القوى تضبط سفريات المتأهلين نحو الخارج    فتح صناديق كتب العلامة بن باديس بجامع الجزائر    "المتهم" أحسن عرض متكامل    دعوة لدعم الجهود الرسمية في إقراء "الصحيح"    الاتحاد الأوروبي يدعو المانحين الدوليين إلى تمويل "الأونروا"    إجراءات استباقية لإنجاح موسم اصطياف 2024    فيما شدّد وزير الشؤون الدينية على ضرورة إنجاح الموسم    الرقمنة طريق للعدالة في الخدمات الصحية    حج 2024 : استئناف اليوم الثلاثاء عملية حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان الوطني للحج والعمرة    حكم التسميع والتحميد    الدعاء سلاح المؤمن الواثق بربه    أعمال تجلب لك محبة الله تعالى    دروس من قصة نبي الله أيوب    صيام" الصابرين".. حرص على الأجر واستحضار أجواء رمضان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عبد القادر جغلول.. الجزائر في ذاكرة مؤرخ
نشر في الجزائر نيوز يوم 06 - 02 - 2012

كانت هذه الدراسة استجابة لدعوة من مركز البحث والإعلام التوثيقي في العلوم الإنسانية لجامعة وهران، كي نكون أوفياء ''وكي لا نكون ورثة مصابين بالنسيان''، كما قال يوما المفكر الجزائري الذي رحل عبد القادر جغلول الذي تعرّفت عليه عام 1980 وكان يومذاك مديرا للمركز المذكور··
بدأت معرفتي به مهنية، إذ كنت في الثمانينيات من القرن المنصرم مديرا لدار الحداثة في بيروت، وقد اقترح عليّ بعض الأصدقاء القيام بتعريب ونشر بعض الأبحاث التي نشرها جغلول باللغة الفرنسية، ونشرت كفصول لمشاريع كتب في دوريات تصدر عن المركز وعن الجامعة وعن بعض مراكز الأبحاث في الحزائر وغير بلد· وكانت حصيلة هذا العمل الذي قامت الدار بترجمته ونشره أربعة كتب 1 تاريخ الجزائر الحديث· 2 الاستعمار والصراعات الثقافية في الجزائر· 3 مقدمات في تاريخ المغرب العربي القديم· 4 الإشكاليات التاريخية في علم الاجتماع السياسي عند ابن خلدون، الذي كتب مقدمة له في طبعته الرابعة صديق جغلول د· مصطفى الأشرف· كما كان جغلول قد أشرف على كتابين نشرتهما الدار: 1 المرأة الجزائرية، وقد شاركت فيه أيضا مجموعة من الباحثات الجزائريات، كذلك كتاب الانتلجانسيا في المغرب العربي، شارك فيه مجموعة من الباحثين المغاربة· وبما قدمه جغلول الذي جفت مياه حياته مبكرا، نجد بأن هدفه المساهمة في تكوين ذاكرة خاصة بالمؤلفين الجزائريين القدامى منهم والمعاصرين، حيث في مؤلفاته التي ذكرت، ومنها كتابه الضخم، أطروحة دكتوراه عن فرانز فانون (لم يترجم ولم ينشر)، أعاد التذكير بما طرحه هؤلاء المؤرخين مناقشا وناقدا وباحثا منقبا في خفايا تلك المراحل التي كانت مجهولة··
وجغلول، كما بقية المؤرخين والرواة الذين قام بمراجعة ما كتبوا، وهم كما قال أحد الشعراء: ''الذين أداروا مفاتيحهم من الباب الخلفي يخرحون رسائلهم القديمة المخبأة بعناية '' يقرأونها بصمت ثم يجرجرون أقدامهم للمرة الأخيرة، ويذهبون، هكذا فعلوا وهكذا فعل أيضا عبد القادر جغلول، أما الهدف الذي كان يسعى إليه جغلول فكان معرفة مكانتنا وكيف تصورها هؤلاء الذين احتلهم الليل الدائم وغابوا··
نجد، وبما تمت متابعته، بأن جغلول الأكاديمي، كان يحاول الارتقاء في البحث الجامعي، انطلاقا مما كتبه هؤلاء عن التاريخ الوطني للجزائر، وخاصة خلال مرحلة الاستعمار الفرنسي· لقد برز جغلول بما أرخه منظرا نشطا وباحثا
أكاديميا وهو ممن ساهمت وتساهم أعماله في تكوين نخب فكرية، وفي بناء وعي ثقافي يسهم في إثراء النقاش الفكري والاجتماعي التاريخي للنخب الجزائرية والمغاربية العربية بوجه عام·
وكأن جغلول بعد وفاته وفيما كتبه وقدمه للمكتبة الجزائرية المغاربية العربية يقول لنا: حياتي الفكرية بين أيديكم، عليكم أن تعملوا كي تستفيد منها عقولكم·· وهو بما أرّخ له الابن البار للجزائر الذي اعتبرها وطنا أبديا له، ورأى فيها مستقبله ومستقبل الأجيال التي دفعت وتدفع ثمن تحررها واستقلالها، يقول جغلول: ''لم يؤسس الرومان ولا العثمانيون ولا الفرنسيون أسباب تكوين المجتمع المغربي القديم''، ويستخلص من خاتمة كتابه، مقدمات في تاريخ المغرب العربي القديم خلال ''إدارة العثمانيين سيصفي المغرب الأوسط المراكز الإسبانية، وسيتوحد في إطار حدودي واضح المعالم، هو نتيجة ماضي طويل من المنافسة بين الحفصيين والودوديين والمرينيين''·
متابعة لتلك الإشارات التي أتى بها جغلول الذي رحل وبقيت روحه فينا تنمو، وستنهل منها الأجيال الكثيرة، نجد بأنه كان يراهن فقط على قدرات الشعوب وخياراتها في صناعة وصياغة مستقبلها، وكأنه يسترشد بما قاله أحد الشعراء: ''من كل حقل تقفز جداول وينابيع '' أنحي وأشرب من عروق الأرض '' '' سرها المقدس''·
***
أذكر أنني وفي أولى زياراتي للجزائر عام ,1980 كان جغلول وجهي الذي تعرّفت من خلاله على وجه الجزائر·· حصل هذا رغم تعقد الحوار معه، إذ كان هناك وسطاء في عملية الترجمة بينه وبيني· في البداية، كان الصديق جمال غريد الذي ربطتني معه صداقة مماثلة لما هي عليه مع جغلول· وغريد الأقرب إلى جغلول كان متأثرا بمدرسة سمير أمين، وفي فترات مختلفة كان الوسيط في الترجمة المرحوم د· بلحسن عمار، الذي كان صديقا لجغلول قد نشرت له دار الحداثة أحد أعماله، انتلجانسيا أم مثقفون في الجزائر، الذي كان متأثرا بغرامشي بل تلميذا له كما كان يقول لي، كما ربطتني علاقة معه حتى وفاته·· كذلك كان د· عدي الهواري، ود· تواتي وآخرون، كانت هذه مرحلة وهران، أي فترة الثمانينيات· أما فيما بعد أي الفترة الممتدة من أواخر الثمانينيات فقد تواصل الاتصال به في فرنسا، إلى أن عاد إلى الجزائر، فكان المترجم د· الزهري الريحاني ومديرة مكتبه في المؤسسة التي يعمل بها وآخرون، وقد اتفقنا معه على أن نعيد نشر الكتب التي نفدت· هذه كانت وصيته وهؤلاء وغيرهم الذين أداروا عشرات الحوارات معه مترجمين ما يقوله لي وناقلين لي الأجوبة عما يقوله هم من البيئة المتنوعة في تلاوين خيارتها وفي مصادر وروافد مرجعياتها· لقد كان هناك تواصل مستمرا معه، خاصة حينما كان في فرنسا، إلا أن المرحلة الأهم كانت فترة الثمانينيات·· وكم كانت تلك النقاشات ممتعة وجميلة، وفي مرات متفاوتة تأخذ ساعات ممتدة على ليل وهران الجميل والممتع، وعلى صباحات العاصمة الجزائرية بما تحمله من قلق ومسؤولية·
***
لقد كنت أشعر وأنا أتابع حركة تفكيره، أنه كان يريد أن يرشح أفكاره في بيئات صالحة للزرع· وكنت في متابعاتي لمضامين ما يكتب، وفي حيثيات مجريات الحوار معه، أحاول متابعة الكيفية التي كان يتحرك فيها، وهو الذي كان يساهم في تصويب الأفكار التي يعتقد بأنها بحاجة لذلك، سواء على الصعيد التربوي الجامعي، أم على صعيد الحوارات السياسية التي كان يرى بأن الاستعمال السلبي لها يكمن في تجاهلها للبعد الاجتماعي، وهذا ما سيؤدي إلى الإضرار بأمن المجتمع··· وجغلول الذي كان يعمل مع ثلة واسعة من المفكرين الجزائريين وغيرهم، ومنهم مصطفى الأشرف والمرحوم بلحسن عمار، وعلي الكنز وجمال غريد وأحمد الجيار وعبد المجيد مزيان، ومثلهم وقبلهم مالك بن نبي ومحمد أركون وكاتب ياسين ومحمد ديب وغيرهم··· ممن كانوا يساهمون مع ثلة من النخب العربية في خلق خطاب يساهم في تعزيز الاستقلال السياسي والاقتصادي الثقافي للجزائر وللبيئة المغاربية العربية بعام· وجغلول هو من ساهم في فتح الحوار مع النخب التي كان يعتقد بأنها ستساهم فيما يسعى إليه، مثلا إشرافه على كتاب الأنتلجانسيا في المغرب العربي الصادر عن دار الحداثة، التي ساهمت فيه ثلة تمثيلية للحياة الثقافية المغاربية كذلك في إشرافه على كتاب نشرته الدار نفسها، شاركت فيه مجموعة من الباحثات الجزائريات وتناول المشاركون في أوضاع المرأة الجزائرية، وكتاب آخر وليس أخيرا عن التراث الشعبي، ساهمت فيه أيضا مجموعة من الكاتبات الجزائريات·
لقد كان البعض ممن يحاورهم جغلول يحملون أفكارا مختلفة عن أفكاره، وقد نرى ذلك من خلال الحوارات الممتعة والمسؤولة في وهران، مما يعني بأن جغلول لم يكن متشبثا برأيه كما كان يرى البعض، بل كان يأخذ ويعطي مع من يحاورهم، يأخذ بما يقتنع به من آراء، ويعطي لمحاوريه ما يروا مقنعا لهم·
لقد عمل جغلول على بناء جسور للتعاون بينه وبين جل المثقفين لبنات بناء على مستقبل بلدانهم، وكانت حواراته تعمل كي يكون للمثقف دور ووظيفة، وقد نجد ذلك واضحا في مضامين الحوارات التي جرت على صفحات جريدة الجمهورية في وهران، وأيضا في مضامين كتاباته وخاصة في كتاب الأنتلجانسيا في المغرب العربي، هذا الأخير الذي كان المشاركون فيه ومعظمهم متأثرين فيما كتبه غرامشي عن المثقف· لقد فتح جغلول حوارا حول دور المثقف ووظيفته، بل قدم وجهة نظر حول الواقع الثقافي، وراجع فيما قدمه ما أسست له هذه النخب على الصعيدين التاريخ الاجتماعي من تراكمات، وما حفرت له وخزنته من مرجعيات تستند عليها الأجيال في تواصلها وإضافاتها··
والهدف الثابت عند جغلول، التأسيس لمناخات يثمر عنها حوار وطني لا يستثني أحدا·· وهو، جغلول الذي كان يرى في البيت الجزائري الذي أسس للثورة وحقق الاستقلال الوطني مثالا يحتذى به، حيث قيادة الثورة لم تستبعد أيا من الفعاليات، ومن جميع شرائح المجتمع الجزائري· هكذا رأى من ضرورة لمشاركة شرائح الشعب المتعددة في البناء الوطني الجزائري، وهكذا كان تقييمه لتاريخ حركات التحرر المغاربية العربية العالمية، تلك التي انتصرت وحققت الاستقلال·
***
لقد انتقد جغلول الثقافات الوسيطة مع الماضي، واعتبر بأن الخرافات والأساطير لا يمكن أن تشكل مصدرا يمكن الاعتماد عليه، وقد تكون هذه أو تلك مغذية للحلم والخيال، ولكنها ليست مصدرا للتاريخ، ورأى بأن الخطورة تكمن عندما يقوم كاتب من هنا أو هناك بإلباسهما علما تحت يافطة الدين، معتبرا بأنه لا يوجد حد بين ما هو ممكن وبين ماهو غير ممكن في الطبيعة، ولكن هذا موجود في النظرة إلى الواقع الذي نعيش، يقول جغلول: ''العقل ميزان عادل يعطينا بيانات صحيحة لا أخطاء فيها، لكن علينا عدم استعماله لوزن مواد هيولية كوحدانية الله والجنة والآخرة وحقيقة النبوة· ويضيف ''عندما تتكلم عن الوظائف الملكية والحكومية، فذلك من وجهة نظر طبيعة وحضارة الإنسان التي نضعها لأنفسنا، وليس من وجهة نظر التشريعات الدينية الخاصة''، والفرق -كما يقول أحد المؤرخين- ''بين الماضي والحاضر يتلخص في أن الحاضر الواعي هو وعي للماضي بشكل وبدرجة لا نراها في وعي الماضي بنفسه''· ومعنى هذا بالنسبة للفرد أنه اجتاز التجربة، ولكن معناها غاب عنه على أن يعيها في المستقبل·
يقف جغلول، كما سبق وذكرنا، موقفا واضحا ضد المرجعيات التي تفسر الماضي بأدوات الماضي واستحضار تفكير من عاشوه، معتبرا أن تلك المرجعيات أوصلتنا إلى الحسابات الخاطئة· وبذا جغلول لم يستسلم ويجاري أصحاب تلك النظريات، بل وقف منتقدا، ومن خلال موقعه الأمراض الناجمة عن فشل التشخيصات التي تعرفها مجتمعاتنا من أمراض، تلك التي أصابت الفكر العربي بالتردي، بسبب ما يمارسونه ويقدمونه من نظريات وهمية وفارغة من معطيات مرجعية تاريخية وعلمية··
جغلول فيما رسمه وأسس له من مواقف تاريخية، كان لكل ما كتبه مرجعياته المتعددة والموثوقة، خاصة أنه يتبنى النسبية في نظرته للتاريخ وفي تعامله مع مؤرخي الماضي، ففي أبحاثه فتح أبوابا لمجاري الدورة الدموية لحركة المجتمع وتفاعلاتها سواء في الصراعات أم في المساومات، يقول جغلول ''نحن ورثة شديدو الغرابة''، قال هذا وهو يصف أولئك الذين يعممون ثقافة الوهم، دون مرجعية إلا مرجعية ذاتية ضعيفة في صلتها بتاريخ وواقع مجتمعاتها، أولئك المؤرخون الذين يعتمدون على تعميم الخرافات رابطين إياها بثقافة التقديس والدين، ويسأل ''لقد تمت كل التجارب الكبرى في بناء الدول باسم الإصلاح الديني'' ولكن ماهي النتيجة التي وصل إليها أولئك المصلحون؟ ويضيف مشيرا لكيفية بناء الدول القديمة، ''يشكل الرابط بين العصبية والقبيلة المسيطرة والنفوذ المالي والتضامن الديني مبدأ معقولية مسار تشكل الدول، فالقبيلة والدولة رغم تناقضهما لا ينفي أحدهما وجود الآخر''·
نجد ونحن نتابع المنهجية التي أخذ بها جغلول في كتاباته، الكيفية التي جدل بها أفكاره مستفيدا من تعددية منهجيات، هي هذه المستخلصة من مسار واقع شرائح المجتمع الذي ينتمي إليه· وكم نحن بحاجة إلى وجوده، إلى أفكاره التي أصبحت مرجعا للأجيال التي ستنهل منها وتتعلم الكثيرة، وقد تكون مئات الكتب التي صدرت ليست أكثر فائدة من كتاب واحد أصدره المعلم عبد القادر جغلول·
لقد بيّن جغلول عن انتماء له كمثقف في بيئة كان مثالا فيها، وهو الذي كان يعمل مع فريق من المثقفين على مناقشة الأفكار التقليدية السائدة، مستخلصا منها عدته في نظرياته التصويبية، مساهما في خلق المناخات التي تؤسس لرافعة من التطور والنمو والتراكم· لقد كان ولا زال مركز الأبحاث في وهران مثال لما أسس له جغلول وتلامذته من بعده، يقول جغلول: ''إن المقدرة الصحيحة على نقل وقائع الماضي، هي أحد عناصر الوعي القومي والديناميكي، القادر على مجابهة الحاضر والتطلع إلى المستقبل· هذه الكفاءة ليست موجودة في الوقت الحاضر، فتاريخ بلدنا لم يستوف حقه من الدراسة حتى الآن، والوعي لا يزال مثقلا بالتفتت الثقافي والتداعيات التاريخية التي جاءت بها الايديولوجية الاستعمارية، وبظهور تداعيات جديدة كانت النتيجة تاريخا ممزقا، وعيا تاريخيا ضعيفا ومشتتا سببه مواقف مجيدة ومواقف خفية···· ''لقد وجدنا من الضروري وضع حد للمعلومات الخاطئة، وبناء جهاز مراجع يسمح لشعوب المغرب بالاطلاع على تراثهم وسط التعقيدات والاستمرارية أو التقطع الذي يلف تاريخنا خلال الثلاثة آلاف سنة الأخيرة ويضيف: لم يؤسس الرومان ولا العثمانيون ولا الفرنسيون أسباب تكوين المجتمع المغربي القديم''·
***
إذن، جغلول الذي أشارت سيرته الذاتية إلى اهتمامات له مبكرة في الصحافة، كان ذلك في فترة الستينيات من القرن المنصرم، ستبين أيضا تلك السيرة حصوله على شهادة الدراسات العليا في الفلسفة، وأيضا حصوله على شهادة الدكتوراه التي تناول فيها السيرة الفكرية لفرانز فانون، هذا الذي تأثر به وكان بالنسبة له القدوة والنموذج والمثال، معتبرا إياه غرامشي إفريقيا والعرب·
جغلول الذي تلقى في بداية دراساته الجامعية تكوينا فلسفيا محضا، اهتم بالدراسات الفلسفية الإسلامية وبموقع بن باديس وفرانز فانون وتراثهما الفكري والفلسفي فيها، مشتغلا على الحفر في ذاكرة المؤرخين الجزائريين والمغاربة، متابعا من خلال ما كتبوه الظواهر الاجتماعية والفلسفية، خاصة ما عرفه منها التاريخ الجزائري والمغاربي العربي من أحداث·
لذا، فإذا كان الانطباع الذي ورد في المقدمة يحمل رصدا للمسيرة الفكرية لجغلول، فإن الانطباع الشخصي الذي كونته من هذا الصديق، من أنه كانت لديه عقدة ذنب حملها إلى أخريات حياته، من أنه لم يتعلم العربية، وإن كانت حماسته لهذا التراث ولدراسته، وإن بعيون لغة أخرى، كبيرة جدا، ووطنيته الجزائرية العربية راسخة، وهو الحساس دائما، والخجول، ويتبدى ذلك من خلال قلة كلامه، إذ يبدو مستمعا أكثر منه متكلما، وهو الوقور، القليل المزاح، شديد المسؤولية، يفكر كثيرا، يعطي المعنى الحقيقي والواضح لما يريده محاوره·
جغلول الواقعي في حياته، الحياة بالنسبة له ذات جوهر يكمن معناها في ما تفعله وتتركه فيها· إن واقعية جغلول ما هي إلا تعبيرا عن خلاصة لجهوده وتجربته الحياتية والفكرية· جغلول لم يأخذ كثيرا بالآراء الفكرية والتاريخية الموروثة، بل قام بمراجعة ما كتبه المؤرخون وما أضافوه من تجارب، محللا ودارسا موقع كل منهم في التركيبة الاجتماعية للمجتمع وميوله وكيف تبدت فيما كتبه وأرخ له·
في كتاباته، كما في حواراته يتحدث جغلول كمؤرخ، إلا أنه يكتب كعالم اجتماع، يعرض ويستعرض أفكار من يتطرق إليهم في دراساته، لا يقف عند حيثيات شكلية، بل يتابع الخريطة الفكرية للمفكرين، والمؤرخين الذين يتناولهم دارسا من خلالهم المرحلة التي يكتب عنها·
جغلول الذي عرفته، قليل العناية بنفسه، يعمل دون كلل، شعاره لا راحة لمثقف· بالمقابل كان جغلول كثير الاعتناء بطلابه، يتعلم منهم بقدر ما يتعلمون منه، علاقاته الثقافية مع من يحاورهم سواء أكانوا طلابا أم غير ذلك، تحمل ثقافة رفيعة تماما كما هي أخلاقه الدمثة، يتعامل مع الآخرين بندية كاملة· المتابعون لحياته يعرفون بأنه كان يناضل كي تعيش الأجيال المقبلة أفضل مما عاشه هو وجيله، وهو تماما ممن يعتقدون بأن عقدة الفرنسيين تكمن وكما أباح فرحات عباس تجاه الجزائريين، لأن لديهم الميل والإصرار على التعلم والرقي ليصبح الجزائري ندا للفرنسي، هذا المطلب جعل الفرنسيين حقودين وحوّلهم إلى برابرة في علاقاتهم مع الجزائريين·
لقد عمل جغلول وراهن على مستقبل أفضل للجزائر، ولهذا كان يمعن النظر وفي كل ما كتبه في تفحص المشاكل المتعددة التي يعيشها وطنه، معتقدا ومؤمنا أن الكفاءات الموجودة عند الشعوب العربية، وفيما إذا استحسن توظيفها، باستطاعتها أن تصنع التغيير وتحققه وترسي أسسا أفضل للمستقبل·
كان جغلول يثق كثيرا بقدرة الشعوب على التغيير وتطوير مجتمعاتها، خاصة الأجيال الجديدة التي كان يراهن عليها، فعقلانيته تبدو معالمها وفي كل ما كتبه، حيث كان هناك الكثير من الانسجام بين ما يفكر به وبين ما يمارسه، وهذه ميزة قلما نعرفها في الحياة التي تعيشها مجتمعاتنا، لذا قال عنه البعض بأنه كان إنسانا غامضا، والسبب أن جغلول لم يكن يعطي شأنا لعواطفه، رغم أنك في عينيه المتوقدين قد تكشف وتقرأ الكثير مما يجول في فكره·
***
بداية أخيرة
إذن، ذكرياتي عن جغلول ستكون ناقصة ومضطربة، ولا عجب إذا كانت الذاكرة المتقطعة للعلاقة معه، ثلاثون عاما نصفها غياب عنه، قد أوصلت إلى ذلك· لقد أصبحت الذاكرة كثيرة الثقوب، إلا أنني أحيل ما عرفته عنه إلى ما عرفه ليكمل الرواية، رواية حقبة من تاريخ الجزائر مثلها جيل جغلول، وأنتم أيها الجزائريون مضمون الرواية، وفيكم ومنكم آلاف الرواة· وجغلول ذاته الذي انصب جهده في الفترة الأخيرة من حياته على متابعة الأعمال الروائية المغاربية، هو الجهد الذي لم أستطع متابعته وتوثيقه، وقد يكون هناك من انشغالات أخرى له كنت بعيدا عنه وعنها وبالتالي عن متابعة ما يكتب· لقد حصلت تحولات مهمة عند جغلول هو ما نحن بحاجة إلى معرفته، وهو الذي كان فكره قابلا للسكن في العقول·
لقد فقدت الجزائر إنسانا تمثلت فيه الجزائر وكبرت بأمثاله، وهو أيضا كما غيره يكبر فيها، ويكبر فيكم، خاصة بمن عرفوه، تماما كما آلاف المثقفين منهم من افتقدناه ومنهم لا زالوا أحياء، أولئك الذين كان همّ الجزائر همّهم وديدنهم من أمثال علي الكنز وجمال غريد ومحمود بوسنة وأحمد الجيار وعبد الحميد بن هدوقة ومحمد أركون الذي نطلب إعادة جزأرته ثقافيا وتراثيا، كذلك كاتب ياسين وأبو العيد دودو ومحمد ديب ومولود المعمري والصادق بخوش وواسيني الأعرض وأمين الزاوي وأحمد منور ومحمد بغداد والطاهر وطار وجيلالي خلاص ومحمد ساري ومصطفى الفاسي وعبد المالك مرتاض وزهور ونيسي وأحلام مستغانمي ومناجلية الهذبة، وسعيدة كحيل واحميدة عياشي وعبد الرحمن الحاج صالح وعبد الحميد مهري، وفرحات عباس ونفيسة الأحرش وعبد العالي رزاقي ومحمد عباس وعبد الوهاب العويسي، ورشيد بوجدرة ومحمد العربي ولد خليفة، وعبد القادر الكجع وهني عبد القادر ومنير بهادي، ورشيد فوقام ويحيى بوتردين ونذير بوقرون والأخضر الابراهيمي، والحاشي سليمان، وخولة الإبراهيمي، وجلال خشاب، وعبد الحميد بورايو، وياسمينة خضرا، والأمين بشيشي وعمر الزاوي وعمر أزراج، وعز الدين ميهوبي، وجيلالي حاج سماحة، وآسيا جبار··· وغيرهم الكثير·
لقد أعطى هؤلاء ممن لا يمكن حصرهم للجزائر الكثير، هم مثال، فكونوا إضافة نوعية هو ما كان يعمل له ويطمح إليه الراحل جغلول·
لقد عاد جسد جغلول إلى الأرض التي أحبها، إلى الجسد الرحم الذي ولد ودفن فيه، إنه جغلول الذي انقسم بعد موته إلى قسمين، قسم ووري في المكان الذي نذر نفسه له، وقسم آخر لا زال حيا في العقول والأمكنة ومع الأصدقاء الذين عرفهم وأحبوه وأحبهم·
إن أرواح الأحياء تتذكر جغلول فيكم، تحاكيكم روحه الممتدة في عقولكم، لتقول لكم بأن تعملوا من أجل الجزائر ومن أجل بلادكم المغاربية العربية·
مات جغلول وبقي ورثة تفكيره مؤسسات عمل فيها، وبعضها أشرف عليه، وطلاب علمهم وأشرف على رسائلهم الجامعية، وأصدقاء عرفوه وها هم يشاركون في إعادة قراءة سيرته الثقافية والفكرية، وفيما بناه من مداميك للنهوض والتطوير·· أصدقاء ومفكرين يتابعون ما انتهى إليه وساهم في التأسيس له، وها هو مركز الأبحاث في وهران منارة بحثية ومرجعية لذاكرة الوطن· وكأني بجغلول يقول لكم الآن، ماذا فعلتم للجزائر، وماذا فعلت الجزائر لمن عمل لها وأحبها؟
***
مصطفى الأشرف يقرأ عبد القادر جغلول
في قراءات مصطفى الأشرف لجغلول، نجد في المقدمة التي نشرت له في كتاب الإشكاليات التاريخية في علم الاجتماع السياسي عند ابن خلدون، تثمينا ليس فقط لهذا العمل، بل للجهد الذي يقوم به جغلول· يقول الأشرف: ''إثبات أولى يطرح نفسه في قراءة تجربة عبد القادر جغلول المميزة، إنه بحث وخلق أصيلين ودائمي التجدد ينزعان إلى العناية بالتاريخ ونتائجه الحالية''·
''يتعلق الأمر بهذا الشأن بالتنقيب بعملية جرد يجب إتمامها لواقع جزائري يجب التعرّف عليه، وخصوصا بمنهجية تجديدية لتطبيقها على أرضية لن نتردد في تبيان أدنى خباياها، قاطعين بذلك مع توجه تفكير منظري عهد الاستعمار، حيث كان الهدف الأكبر يرتكز من أجلهم، على إرجاع كل شيء إلى تسويغ جهاز إيديولوجي في مخططه يرجح بشدة نافيا غيره''، ''إن بحث جغلول كان يطمح أيضا وما زال إلى التفاؤل حول إحصاء استعماري شديد الشبهة يتناول الناس والمؤسسات والأملاك من منظور يرثى له دائما، غير منطقي وليس بذي فائدة بالنسبة لما تبقى، يتذبذب هذا الإحصاء بين الميل نحو التصويري، والغرائبية المتأصلة، والتشهير المضطرب في حالة طباق مع ميراث ''الأثر الحضري'' حيث يقابل ذلك ''البربر الأصليين'' الذين اشتهروا بهذا اللقب منذ الماضي البعيد و''العرب منذ عهد قريب وهم في النهاية جزائريون'' (····)
''عبد القادر في مدينته المدية، كان محاربا عاديا، متخفيا مجبرا على التواري عن العدو وعلى مراقبته بنفسه لنواحي مخبئه وليس حاكما مستقلا وقائدا عسكريا محاطا بجيشه الذي كان يقوم بالحراسة، حتى الأسوار والأبواب الخارجية للبلدة، لبلدة بقيت حرة عن كل محتل غريب، لأنها لم تسقط تحت سيطرة الاستعمار الفرنسي إلا في 17 مارس 1940 (···)· انطلاقا من هذا المغزى، لن نتخلى، يضيف الأشرف، عن دراسة ما كتبه عبد القادر جغلول، تلك الدراسة شديدة الخصوبة والدقة، يقودنا ذلك إلى نقطة يجب أن نقوم منها بإعادة طرح السؤال مقام الجديد الجوهري لوعي ورؤية التاريخ، وذلك في سبيل مصلحة الثقافة الجزائرية وإخلاصنا الواضح تجاه أجدادها المؤسسين لها''·


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.