غزة: ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 57268 شهيدا و135625 مصابا    نسيمة صيفي تفوز بمسابقة رمي القرص في الجائزة الكبرى لألعاب القوى أولوموك بجمهورية التشيك    الذكرى ال63 للاستقلال: الجزائر فاعل رئيسي في الساحة الطاقوية الدولية    رئيس الجمهورية يوقع مرسومين رئاسيين يتعلقان بإجراءات العفو عن المحبوسين والنزلاء المتحصلين على شهادات التعليم والتكوين    الزخم الذي حظيت به القضية الصحراوية بمجلس حقوق الإنسان يجب أن يساهم في الضغط على الاحتلال المغربي    عرض الفيلم التاريخي للشهيد" زيغود يوسف" لأول مرة بتيسمسيلت وسط حضور كبير للجمهور    الذكرى ال63 لاسترجاع السيادة الوطنية: الجزائر تواصل مسار التحول الرقمي وترسيخ دعائم سيادتها    افتتاح الطبعة الأولى لمهرجان الجزائر العاصمة للشباب بساحة "مقام الشهيد"    حفل فني ساهر بالجزائر العاصمة إحياء للذكرى ال50 لرحيل أم كلثوم    رئيس الجمهورية: الجزائر اليوم تتعامل مع الرهانات بنفس جديد وتتطلع إلى رفع التحديات بكامل الثقة في قدراتها    الذكرى ال63 لاسترجاع السيادة الوطنية: السكك الحديدية في الجزائر, من أداة للنهب الاستعماري إلى رافعة إستراتيجية للتنمية الوطنية    جيجل: وفاة 4 أشخاص واصابة 35 آخرين بجروح في حادث انقلاب حافلة    رئيس الجمهورية يترأس الحفل السنوي لتقليد الرتب وإسداء الأوسمة    محكمة ورقلة: إصدار أمر بإيداع ضد شخص متورط بنقل أزيد من 54 كلغ من الكوكايين    ندوة حول الأمر اليومي للعقيد هواري بومدين    اختتام مشروع باورفورماد بوهران    نهائي كاس الجزائر/ اتحاد الجزائر- شباب بلوزداد: قمة واعدة بين اختصاصين    الجزائر تتوفر على مؤهلات لوجيستيكية ومنشآت رياضية لاحتضان أي تظاهرة عالمية    الجيش يُوجّه ضربات موجعة لبقايا الإرهاب    قانون التعبئة العامّة في مجلس الأمة    ندوة وطنية لمديري التربية    توزيع آلاف السكنات ومقرّرات استفادة من قطع أرضية    هذه تفاصيل هدنة ترامب في غزّة    المجلس الأعلى للغة العربية ينظم احتفائية    سورة الاستجابة.. كنز من فوق سبع سماوات    جانت: انطلاق تظاهرة ''السبيبا'' الثقافية وسط حضور جماهيري غفير    نصاب الزكاة لهذا العام قدر بمليون و ستمائة و خمسة عشر ألف دينار جزائري    تغيراتها وانعكاساتها الإقليمية ج1    المشاريع السكنية أصبحت تُنجز في غضون سنة واحدة فقط    أمطار رعدية على عدة ولايات من الوطن    غزة: ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 57012 شهيدا و134592 مصابا    نشكر الجزائر لحرصها على تقوية العلاقات بين البلدين    اللجنة الجزائرية- الفنزويلية تعقد اليوم دورتها الخامسة    رصد تطوّر الإنتاج وفرص التصدير    متابعة المشاريع المهيكلة الكبرى    أخبار اليوم تُهنّئ وتحتجب    المغرب من يعرقل الحل في الصحراء الغربية    دعوة لانتهاج خطط تحمي المواد المائية الحيوية    عقوبات صارمة تطول مافيا الشواطئ بالعاصمة    مشروع مستشفى ب500 سرير في قسنطينة قريبا    تعيين حجيوي محمد رئيسا جديدا لمجلس الإدارة    الأمن الفرنسي يوقف بلايلي في مطار باريس    توأمة بين البلديات : انطلاق قافلة ثقافية من تيميمون باتجاه مدينة أقبو    كرة اليد/كأس الجزائر (سيدات)..نادي بومرداس- نادي الأبيار: نهائي واعد بين عملاقي الكرة الصغيرة النسوية    دعوة إلى الاستلهام من الثورة الجزائرية للتحرر من قيود الاستعمار    الفاف" تقرر تقليص الطاقة الاستيعابية لكل الملاعب بنسبة 25 بالمائة    ستة مؤلفات جزائرية في أربع فئات    ياسين بن زية يتجه لتوقيع عقد جديد في أذربيجان    الجزائر تطمح للعب دور إقليمي في مجال الهيدروجين الأخضر    مدّ جسور الإنشاد من البلقان إلى دار السلام    630 مليار دينار مصاريف صندوق التأمينات الاجتماعية    برنامج خاص بالعطلة الصيفية    الكشف المبكر عن السكري عند الأطفال ضروريٌّ    الدعاء وصال المحبين.. ومناجاة العاشقين    فتاوى : حكم تلف البضاعة أثناء الشحن والتعويض عليها    تنصيب لجنة تحضير المؤتمر الإفريقي للصناعة الصيدلانية    الجزائر تستعد لاحتضان أول مؤتمر وزاري إفريقي حول الصناعة الصيدلانية    صناعة صيدلانية: تنصيب لجنة تحضير المؤتمر الوزاري الافريقي المرتقب نوفمبر المقبل بالجزائر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



البعد الاقتصادي للعو لمة.. قراءة نقدية (2)

* نتجت عن تبعية الأطراف للمركز اقتصاديا وسياسيا وفي حرص المركز على حفظ مصالحه بشتى الوسائل والأساليب من دون أدنى اعتبار لمصالح الأطراف حالة تعرّضت فيها حاجات ومطالب الأطراف للضياع والضلال، فلا هي ذات اقتصاد وطني يسد حاجاتها ولا هي بقادرة على منافسة المركز في الأسواق العالمية، وفي هذه الحالة أصبح البون شاسعا ويزداد اتساعا وباستمرار بين الأقوياء والضعفاء، وفي هذا الجوّ يكثر الإجرام والفساد وطغيان المصالح الفردية الشخصية، وينتشر العنف بمختلف صوره وانتماءاته وبأدوات وطرق شتى ولا يُنتج العنف إلا العنف والعنف المضاد، كما يعم الفساد الاجتماعي والأخلاقي، الأمر الذي يؤدي إلى تفكك أواصر الوحدة فكريا وثقافيا ودينيا واجتماعيا بضياع قيّمها وأسسها، وتتعرض الأمة للانهيار، لأنّها تفقد أسباب وجودها وشروط استمرارها، ويؤسس المركز وحدة العالم عل مقاسه وبتفكيك وحدة كل دولة وطنية وكل وحدة اقتصادية وكل مثل جيد أو نموذج مثالي في الفكر أو في السياسة أو في الاقتصاد في الأطراف وخارج المركز، ويجعل من ثقافته وسياسته واقتصاده النموذج والمثال والقدوة، لابد أن تقلده الأطراف وتتبعه، وفي حالة الخروج عنه أو التصدي له ومعارضته تتعرض للعقوبات بالحصار أو بما هو أشد منه.
2 - الاقتصاد من موقع المركز والأطراف: * إنّ العولمة الاقتصادية المهيمنة على العالم والتي تعكس السيطرة الكاملة للمركز على الحياة الاقتصادية في جميع مجالاتها، لم تترك مجالا اقتصاديا واحدا تتحرك فيه القوى الأخرى خارج المركز بحرية تضمن في العالم حدا أدنى من المبادرة نحو العدالة والمساواة، وهي شعارات النظام السياسي والاقتصادي الليبرالي، ولم تسمح للشعوب بأن تختار النمط الاقتصادي الذي يناسبها ويتكيف مع ظروفها الجغرافية والبشرية والتاريخية، وذلك بوضع كافة القيود لتوقيف أيّة تجربة ترى فيها القدر الكافي من الجدّية لحصول النهضة والخروج من التخلف، ويكون ذلك تحت أي ذريعة من الذرائع، هو الأمر الذي حدث مع الكثير من البلدان في آسيا وفي إفريقيا وفي أمريكا الجنوبية، فصارت كل محاولات النهوض بالاقتصاد تهدد الأمن القومي والاقتصادي للمركز الذي صار يستعمل أسلحة اقتصادية وسياسية وحتى عسكرية لتحطيم أيّة قدرة في سبيل النهوض الاقتصادي والتحرر من التبعية له، مثل سلاح الحصار التجاري بحيث لا تصدير ولا استيراد، وسلاح النفط وسلاح القمح وسلاح الماء وأسلحة أخرى كثيرة، ونظرة الخوف والحذر لدى المركز إلى أيّة مبادرة اقتصادية هنا أو هناك في العالم من الاستقلال الاقتصادي ومن ثم التمرد والعصيان صارت قاعدة لم تسلم منها أيّة جهة لها وزن أو ليس لها وزن، قويّة أو ضعيفة، فقيرة أو غنية، بل منطق هذه النظرة يعتبر الدولة الفقيرة أو أيّة جهة ضعيفة هي التهديد الأعظم والخطر الأكبر الذي يجب التخلص منه دون أي اعتبار، ففقر الفقراء وضعفهم وتخلّفهم صار خطرا كبيرا يهدد حياة الأقوياء والأغنياء في أوروبا وفي الولايات المتحدة الأمريكية، حيث الحضارة والرفاهية والحرية والإبداع وحقوق الإنسان، “خذ على سبيل المثال لاوس في الستينيات.. ربما كانت أفقر دولة في العالم. لم يكن معظم الناس القاطنين في تلك المساحة يدرون أنّ هناك ما يسمى بدولة لاوس. فقط عرفا أنهم يسكنون في قرية، وبجوارهم قرى أخرى يعيش على أرضها أناس مشابهون، بشكل أو بآخر. ولكن ما أن شرع البعض في إصلاح اجتماعي على كيفية شديدة التواضع، حتى قصفتهم واشنطن بسيل متدفق من القنابل -في سرية تامة- مسحتهم من مجال العمليات، ولم يكن لهم أدنى علاقة بالحرب التي أشعلتها أمريكا في فيتنام. جرينادا بلد جد صغير، قد لا أستطيع أبدا العثور عليه في الخريطة، يقطنه مائة ألف ينتجون الجوز. ولكن ما إن شرعت في إصلاح اجتماعي معتدل حتى سارعت واشنطن لتدمير ذلك."[15]
* صارت الحياة الاقتصادية برمتها في عناصرها وفي قطاعاتها في صورتها وفي محتواها خاضعة بشكل تام لمنطق قاعدة النهوض الاقتصادي والتطور الاجتماعي والتكاثر المالي في أيّة جهة خارج المركز يشكل خطرا على المركز يجب سحقه وتدميره، الأمر الذي مارسته القوى الكبرى في المركز مع دول وجهات ضعيفة وفقيرة عديدة مثل لاوس وجرينادا وغيرها، كما قامت فلسفة السياسة الاقتصادية في العالم القائمة على مبادئ وقواعد التنظيم الاقتصادي الرأسمالي بالكيل بمكيالين في الممارسات الاقتصادية، فلجهة المركز عدم تدخل الدولة والأخلاق والدين لإعاقة النماء والتطور والازدهار الاقتصادي، استغلال واستثمار كل نتائج وآثار التقدم العلمي والتكنولوجي، وتقديس الحرية الاقتصادية، حرية العمل والاستثمار، حرية الإنتاج في الكم والنوع، حرية التسويق والتبادل، حرية المنافسة الاقتصادية والتجارية، تطوير الصناعة بمختلف أنواعها، التشجيع على المزيد من الاستهلاك بكثرة الإنتاج وتنوعه، إخضاع السوق لقانون العرض والطلب لتنظيم الأسعار وتحديد الأجور، والحرص على تجميع الأموال واستثمارها في الداخل والخارج، وإنشاء الشركات العالمية العابرة للقارات التي تجلب الأموال الطائلة وتعزز هيمنة المركز وازدياد نفوذه، وتكرس تبعية الأطراف له، وهي تبعية الضعيف الفقير المعتل للقوي الغني الصحيح علّه يعطف عليه، وهي محكوم عليها بأن تخضع للنظام السياسي والاقتصادي العالمي الذي تفرضه العولمة كشكل من أشكال الهيمنة بمختلف مظاهر الحياة، ومحكوم عليها أن تنتهج الرأسمالية في حياتها الاقتصادية تناسبت أو لم تتناسب مع أوضاعها الاقتصادية وظروفها الجغرافية والاجتماعية والثقافية والتاريخية وتركيبتها البشرية وغيرها، ومحكوم عليها بأن تكون مناطق وأسواقا حرّة مفتوحة أمام المنتجات العالمية، منتجات المركز، ومحكوم عليها بأن تعيش فقيرة ضعيفة في تبعية اقتصادية تامة لغيرها، تعيش على فتاته وتحت رحمته ومشفقته وهو عالم لا يرحم ولا يعرف للشفقة موطن، الأغنياء فيه يموتون من السمنة والتخمة والفقراء يموتون جوعا، وتنعكس آثار التبعية الاقتصادية وتداعيات العولمة على المستوى الاقتصادي سلبا على الظروف الاجتماعية لشعوب الأطراف، فإلى جانب الفقر تُحرم من سائر حقوقها في العيش الكريم وهي ليست مسئولة عن الأوضاع التي آلت إليها حياتها، تُحرم من حقوقها في التعليم والتثقيف والمثاقفة، وفي العلاج والتطبيب، وفي العمل والاستثمار، وفي السكن وفي غيره، وهي حقوق طبيعية أوصت بها كافة الشرائع والديانات والنظم التي عرفها تاريخ الإنسانية منذ القدم إلى يومنا هذا.
* يتغنى المركز بشعارات ترفعها العولمة في العالم هي في جوهرها لخدمة المركز وحده ودائما، وهي حينما تتجه نحو الأطراف التي يُعلّق بعضها عليها آمالا كثيرة وكبيرة تصلها صماء بكماء عمياء جوفاء باطلة لا يبقى منها سوى الاسم، شعارات برّاقة وجذابة، الحرية والديمقراطية والتعددية، حقوق الإنسان، العدالة والمساواة، نقل التكنولوجيا لكل جهات العالم، الحد من التسلح والتسلح النووي، المحافظة على البيئة وغيرها، كل هذه الحقوق مباحة للمركز محظورة على غيره، وفي حظر هذه الحقوق وغيابها انتهاك لكرامة الشعب وسيادة الدولة في الداخل وفي الخارج، ففي سائر الحالات ينتهي باضطرابات داخلية ومشاكل خارجية مع الجيران ومع النظام الدولي، تكون نتائجه التجويع والتقتيل والتهجير والتدمير، وهي الظواهر التي صارت تميّز عالم الأطراف وتُبرر تخلّفها ويتخذها المركز ذريعة للتدخل في شؤونها وانتهاك حقوقها.
* انتهت العولمة من الناحية الاقتصادية إلى تدويل النهج الرأسمالي وفلسفته وآلياته، وإلى الهيمنة الكلية على سائر اقتصاديات العالم خاصة العالم الثالث، من خلال إزالة سلطة الدولة الوطنية على الاقتصاد وإزالة القطاع العام واللجوء إلى الخصخصة والانفتاح على اقتصاد السوق والمنافسة الحرة، ولعمل مع الشركات الاستثمارية العالمية التي تعمل لصالح الدول الكبرى المتمثلة في منطقة الأورو التي تشكل الكتلة الأوربية الغربية وكتلة الولايات المتحدة الأمريكية والمكسيك وكندا، وذلك على حساب باقي شعوب ودول العالم الأخرى، ففي منطقة الأورو وفي منطقة التجارة الحرّة لدول أمريكا الشمالية يستقر أكثر من ثمانين بالمائة من إجمالي الناتج القومي العالمي وخمسة وثمانين بالمائة من إجمالي التجارة العالمية، ونجد خمس دول هي الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وألمانيا وإنجلترا واليابان تتوزع بينها مائة وثلاث وسبعين شركة من الشركات المتعددة الجنسيات من أصل مائتي من الشركات العملاقة العالمية، هذه بعض الأمثلة عن سيطرة الشركات العملاقة العالمية على الاقتصاد والمال والأعمال في العالم، في هذا الجو أصبح تعميق التفاوت في توزيع الدخل والثروة بين المواطنون في الدولة الواحدة وبين الدول الغنية والدول الفقيرة يتنامى ويتزايد باستمرار، فلا الدول الغنية سمحت بهجرة العمالة من الدول الفقيرة ولا هذه الأخيرة استطاعت أن تستقطب رؤوس الأموال من الخارج بسبب تعفن وفساد إدارتها، بحيث نجد القلة من سكانها يستأثرون بالقسم الأكبر من الدخل الوطني والثروة المحلية وغالبية السكان تعاني الفقر وكل صنوف الحرمان، وانتشار البطالة وانخفاض الأجور وارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية وغياب الإنتاج والاعتماد على الواردات ناهيك عن انتشار الفساد الاقتصادي والاجتماعي مثل العبث بالمال العام وتهريبه وتعطيل التنمية، كل هذا يزيد في درجة التخلف والانحطاط إضافة إلى ما ينتج عن العولمة الاقتصادية من مشكلات تؤدي لا محالة إلى الاضطراب السياسي والاجتماعي الذي ينتهي في معظم الأحيان إلى الفوضى وانهيار النظام.
* إنّ غزو العولمة الثقافي وما انجر عنه من آثار ومخلفات على الوحدة الثقافية والوحدة الوطنية ووحدة الماضي والمصير داخل الدولة الوطنية كان تمهيدا وطريقا سلكته العولمة للوصول إلى هدف أكبر وأعظم ينشده المركز، هو تغلغل الفكر الليبرالي والنظرية الليبرالية السياسية والاقتصادية وثقافة العولمة عموما في الأطراف، والتمكين بقوة للتنظيم الاقتصادي الحر فيها، العولمة كإيديولوجيها هي وجه الإمبراطورية العالمية وشكل من أشكال الإمبريالية العالمية “في إطار هذا المبدأ تبدو الخوصصة والمبادرة الحرة والمنافسة..إلخ. على حقيقتها كإيديولوجيها للإقصاء والتهميش وتسريح العمال أخذا بمبدأ: “كثير من الربح قليل من المأجورين".[16]
-3 العولمة الأمركة واقتصاد شعوب العالم: * ما سبق نماذج حيّة من الدول التي مسّتها سياسة العولمة الأمريكية، أي سياسة الأمركة التي يفرضها المركز بكل الأساليب مشروعة وغير مشروعة، ولا ينجر عنها سوى الاضطراب السياسي والفساد الاقتصادي والاجتماعي، الذي كثيرا ما ينتهي بالفوضى والحرب والاقتتال، ومعروف ما ينتج عن هذه الأوضاع ومآل الشعب والدولة الانهيار، هذا الانهيار من عوامله الاقتصادية والاجتماعية تنمية الفوارق وتعميم الفقر، “إن القاعدة الاقتصادية التي تحكم اقتصاد العولمة هي إنتاج أكثر ما يمكن من السلع والمصنوعات بأقل ما يمكن من العمال.. والنتيجة التي يستخلصها الباحثون والمختصون في هذا المجال هي التالية: إذا كان النمو الاقتصادي في الماضي يخلق مناصب شغل، فإن النمو الاقتصادي في إطار العولمة والليبرالية المتوحشة يؤدي ويتوقف على تخفيض عدد مناصب الشغل. إنّ بعض القطاعات في مجال الالكترونيات والإعلاميات والاتصال، وهي من القطاعات الأكثر رواجا في العالم، لا تحتاج إلا إلى عدد قليل من العمال. إن التقدم التكنولوجي يؤدي في إطار العولمة إلى ارتفاع البطالة مما سيؤدي حتما إلى أزمات سياسية".[18]
* في جوّ المنافسة الاقتصادية الشرسة في المناطق والأسواق العالمية الحرة وما ينتج عن ذلك من كثرة وتنوع في إنتاج السلع يتجه الاهتمام في الحياة إلى الاستهلاك الذي تتسع دائرته في المركز وتضيق في الأطراف لضعف الإنتاج الوطني في الكم والنوع أو لغيابه تماما، ولاستحواذ الإنتاج العالمي على السوق وندرته في الأسواق المحلية، للقصور المالي للدولة خاصة إذا كانت لا تملك موارد طبيعية وثروة نفطية، وللضعف الشديد في القدرة الشرائية لدى المستهلك، ولغياب التخطيط الاقتصادي والاجتماعي الوطني والقومي وهو مهمة المركز لا الأطراف، فيغرق المجتمع في الفقر وتغرق الدولة في الديون إن كان لها ذلك، فتنجر الدولة في هذا الوضع إلى التبعية الاقتصادية والسياسية للمركز التي لا مفرّ منها، وهي أمنية المركز وغايته القصوى، وما ينبغي “على الأطراف إلا ركوب القطار الذي يحدد المركز اتجاهه وسرعته ونوع حمولته وقائده ووقوده ومحطاته والتي يتوقف فيها أو التي يتجاوزها".[19]
* نتجت عن تبعية الأطراف للمركز اقتصاديا وسياسيا وفي حرص المركز على حفظ مصالحه بشتى الوسائل والأساليب من دون أدنى اعتبار لمصالح الأطراف حالة تعرّضت فيها حاجات ومطالب الأطراف للضياع والضلال، فلا هي ذات اقتصاد وطني يسد حاجاتها ولا هي بقادرة على منافسة المركز في الأسواق العالمية، وفي هذه الحالة أصبح البون شاسعا ويزداد اتساعا وباستمرار بين الأقوياء والضعفاء، وفي هذا الجوّ يكثر الإجرام والفساد وطغيان المصالح الفردية الشخصية، وينتشر العنف بمختلف صوره وانتماءاته وبأدوات وطرق شتى ولا يُنتج العنف إلا العنف والعنف المضاد، كما يعم الفساد الاجتماعي والأخلاقي، الأمر الذي يؤدي إلى تفكك أواصر الوحدة فكريا وثقافيا ودينيا واجتماعيا بضياع قيّمها وأسسها، وتتعرض الأمة للانهيار، لأنّها تفقد أسباب وجودها وشروط استمرارها، ويؤسس المركز وحدة العالم عل مقاسه وبتفكيك وحدة كل دولة وطنية وكل وحدة اقتصادية وكل مثل جيد أو نموذج مثالي في الفكر أو في السياسة أو في الاقتصاد في الأطراف وخارج المركز، ويجعل من ثقافته وسياسته واقتصاده النموذج والمثال والقدوة، لابد أن تقلده الأطراف وتتبعه، وفي حالة الخروج عنه أو التصدّي له ومعارضته تتعرّض للعقوبات بالحصار أو بما هو أشد منه.
* إنّ العولمة الاقتصادية المهيمنة على العالم والتي تعكس السيطرة الكاملة للمركز على الحياة الاقتصادية في جميع مجالاتها، لم تترك مجالا اقتصاديا واحدا تتحرك فيه القوى الأخرى خارج المركز بحرّية تضمن في العالم حدّا أدنى من المبادرة نحو العدالة والمساواة، وهي شعارات النظام السياسي والاقتصادي الليبرالي، ولم تسمح للشعوب بأن تختار النمط الاقتصادي الذي يناسبها ويتكيف مع ظروفها الجغرافية والبشرية والتاريخية، وذلك بوضع كافة القيود لتوقيف أيّة تجربة ترى فيها القدر الكافي من الجدّية لحصول النهضة والخروج من التخلف، ويكون ذلك تحت أي ذريعة من الذرائع، هو الأمر الذي حدث مع الكثير من البلدان في آسيا وفي إفريقيا وفي أمريكا الجنوبية، فصارت كل محاولات النهوض بالاقتصاد تهدد الأمن القومي والاقتصادي للمركز الذي صار يستعمل أسلحة اقتصادية وسياسية وحتى عسكرية لتحطيم أيّة قدرة في سبيل النهوض الاقتصادي والتحرر من التبعية له، مثل سلاح الحصار التجاري بحيث لا تصدير ولا استيراد، وسلاح النفط وسلاح القمح وسلاح الماء وأسلحة أخرى كثيرة، ونظرة الخوف والحذر لدى المركز إلى أيّة مبادرة اقتصادية هنا أو هناك في العالم من الاستقلال الاقتصادي ومن ثم التمرد والعصيان صارت قاعدة لم تسلم منها أيّة جهة لها وزن أو ليس لها وزن، قويّة أو ضعيفة، فقيرة أو غنية، بل منطق هذه النظرة يعتبر الدولة الفقيرة أو أيّة جهة ضعيفة هي التهديد الأعظم والخطر الأكبر الذي يجب التخلص منه دون أي اعتبار، ففقر الفقراء وضعفهم وتخلّفهم صار خطرا كبيرا يهدد حياة الأقوياء والأغنياء في أوربا وفي الولايات المتحدة الأمريكية، حيث الحضارة والرفاهية والحرية والإبداع وحقوق الإنسان، “خذ على سبيل المثال لاوس في الستينيات...ربما كانت أفقر دولة في العالم.لم يكن معظم الناس القاطنين في تلك المساحة يدرون أنّ هناك ما يسمى بدولة لاوس. فقط عرفا أنّهم يسكنون في قرية، وبجوارهم قرى أخرى يعيش على أرضها أناس مشابهون، بشكل أو بآخر. ولكن ما أن شرع البعض في إصلاح اجتماعي على كيفية شديدة التواضع، حتى قصفتهم واشنطن بسيل متدفق من القنابل -في سرية تامة- مسحتهم من مجال العمليات، ولم يكن لهم أدنى علاقة بالحرب التي أشعلتها أمريكا في فيتنام. جرينادا بلد جد صغير، قد لا أستطيع أبدا العثور عليه في الخريطة، يقطنه مائة ألف ينتجون الجوز. ولكن ما أن شرعت في إصلاح اجتماعي معتدل حتى سارعت واشنطن لتدمير ذلك."[20]
- خاتمة:
* انتهت العولمة من الناحية الاقتصادية إلى تدويل النهج الرأسمالي وفلسفته وآلياته، وإلى الهيمنة الكلية على سائر اقتصاديات العالم خاصة العالم الثالث، من خلال إزالة سلطة الدولة الوطنية على الاقتصاد وإزالة القطاع العام واللجوء إلى الخصخصة والانفتاح على اقتصاد السوق والمنافسة الحرة، ولعمل مع الشركات الاستثمارية العالمية التي تعمل لصالح الدول الكبرى المتمثلة في منطقة الأورو التي تشكل الكتلة الأوربية الغربية وكتلة الولايات المتحدة الأمريكية والمكسيك وكندا، وذلك على حساب باقي شعوب ودول العالم الأخرى، ففي منطقة الأورو وفي منطقة التجارة الحرّة لدول أمريكا الشمالية يستقر أكثر من ثمانين بالمائة من إجمالي الناتج القومي العالمي وخمسة وثمانين بالمائة من إجمالي التجارة العالمية، ونجد خمس دول هي الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وألمانيا وانجلترا واليابان تتوزع بينها مائة وثلاث وسبعين شركة من الشركات المتعددة الجنسيات من أصل مائتي من الشركات العملاقة العالمية، هذه بعض الأمثلة عن سيطرة الشركات العملاقة العالمية على الاقتصاد والمال والأعمال في العالم، في هذا الجو أصبح تعميق التفاوت في توزيع الدخل والثروة بين الموطنين في الدولة الواحدة وبين الدول الغنية والدول الفقيرة يتنامى ويتزايد باستمرار، فلا الدول الغنية سمحت بهجرة العمالة من الدول الفقيرة ولا هذه الأخيرة استطاعت أن تستقطب رؤوس الأموال من الخارج بسبب تعفن وفساد إدارتها، بحيث نجد القلة من سكانها يستأثرون بالقسم الأكبر من الدخل الوطني والثروة المحلية وغالبية السكان تعاني الفقر وكل صنوف الحرمان، وانتشار البطالة وانخفاض الأجور وارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية وغياب الإنتاج والاعتماد على الواردات ناهيك عن انتشار الفساد الاقتصادي والاجتماعي مثل العبث بالمال العام وتهريبه وتعطيل التنمية، كل هذا يزيد في درجة التخلف والانحطاط إضافة إلى ما ينتج عن العولمة الاقتصادية من مشكلات تؤدي لا محالة إلى الاضطراب السياسي والاجتماعي الذي ينتهي في معظم الأحيان إلى الفوضى وانهيار النظام.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.