نعم، حقّ للشّعب الجزائري أن يفتخر ويفرح بعيد الاستقلال والشباب، هذه الذّكرى المنيرة في تاريخ الجزائر المجيدة، كانت تتويجا لكفاح مسلّح خاضته الطّليعة الثورية ممثلة في: جبهة التحرير الوطني وذراعها المسلّح: جيش التحرير الوطني، بمشاركة أبطال أشاوس انخرطوا في الديناميكية الثورية بروح وطنية عالية، ونكران الذات ووعي قوي بخطورة كل مرحلة من مراحل الثورة المسلحة ضدّ المستعمر الفرنسي الغاشم. في يوم 5 جويلية 1962، استرجع الشّعب الجزائري الأبيّ حريّته واستقلال بلاده: الجزائر وكامل السّيادة الوطنية على كل أرجاء الوطن المفدّى لإقامة دولته مجدّدا. لقد حرص قادة الثورة، على مرّ سنوات الكفاح وتعاقب مراحله على عدم الخروج عن الخط المرسوم منذ تفجير الثورة في أول نوفمبر 1954، أي مكافحة الاستعمار الفرنسي ورموزه من أجل تحرير الوطن، كاملا غير منقوص وصيانة وحدة الشعب بجميع مكوّناته، واستعادة السيادة الوطنية ودولته التي اغتصبت ذات 5 جويلية - يوليو 1830. كان مفجّرو ثورة التحرير واضحين كل الوضوح عند رسم وتحديد الأهداف، في بيان أول نوفمبر ومنها، بالأساس، إحياء الدولة الجزائرية ذات السيادة لتكون دولة ديمقراطية واجتماعية، في إطار المبادىء الإسلامية، تدويل المشكلة الجزائرية، احترام كل الحريات الأساسية دون أي تمييز عرقي أو ديني، وقد أرادوها جبهة تحرير شاملة جامعة عندما طلبوا، في آخر فقرة من البيان، «أيّها الجزائري، إنّنا ندعوك إلى تدبّر محتوى هذا البيان، مع العلم أنّ واجبك هو الانضمام إليه لإنقاذ بلادنا واسترداد حريتها، إنّ جبهة التحرير الوطني هي جبهتك وانتصارها هو انتصارك أنت، وإنّنا سنبقى ملتزمين بمواصلة الكفاح..». وبالفعل، انضم الجزائريّون من كل الفئات الاجتماعية، وأبلوا البلاء الحسن وبذلوا النفس والنّفيس، ولم يتراجعوا أمام وحشية القمع الاستعماري، فكانت التضحيات جسيمة والعزيمة راسخة، إنّهم أبناء الشّعب الجزائري، لقد هبّوا عن بكرة أبيهم ووقفوا وقفة رجل واحد في كل مناطق الوطن، عازمين كل العزم على تحرير الجزائر، واسترداد كرامتها المهضومة منذ أكثر من قرن من الزمن. كانوا واثقين بشرعية وعدالة قضيتهم لأنّها قضية شعب كامل شكّل، حقيقة، حاضنة طبيعية لهم بدعم فعلي بالإيواء والإطعام، وتقديم المعلومات المتوفّرة عن تحركات القوات الاستعمارية الفرنسية، في الجبال والسّهول والوديان وأحياء المدن والقرى، وفي كل مكان بأعين ساهرة، يقظة. ولقد تفطّن المستعمر الفرنسي الغاشم لكل ذلك من البداية، فبادر إلى إنشاء المحتشدات للزجّ بالجزائريّين واقامة المناطق المحرمة، قصد عزل الشعب عن أفراد جبهة وجيش التحرير الوطني، الذين تصدّوا لكل المؤامرات وهاجموا العدو الفرنسي في كلّ معاقله، ونصبوا له الكمائن وكبّدوه الخسائر الفادحة في الأرواح والعتاد العسكري، بل وغنموا الأسلحة العديدة، وهم الذين خاضوا الحرب الشّعبية الكاملة، أسوة بأسلافهم وأجدادهم الأمجاد الذين قاوموا وتصدّوا للمدّ الاستعماري الفرنسي، تحت لواء الأمير عبد القادر، وأحمد باي، والمقراني وبوعمامة وبن ناصر بن شهرة والزعاطشة، إذ أن الثورات الشعبية الجزائرية لم تتوقف طوال القرن التّاسع عشر، خلافا لما نشرته الدعاية الفرنسية، ولو لم تكن الخيانات وأبرزها خيانة المخزن المغربي متمثلا في سلطان مراكش، كما تمكّن الجيش الفرنسي من أسر الأمير عبد القادر ورفاقه بالجنوب الغربي الجزائري عام 1847. لكن هيهات هيهات، فقد استمرّت عمليات المقاومة الشعبية والانتفاضات، طيلة عقود كاملة، ولا أدلّ على ذلك من ثورة المقراني التي انطلقت من برج بوعريريج سنة 1871، وانتشرت شمالا نحو جيجل وغربا نحو جبال التيطري والقبائل والمتيجة التي ظن الغزاة أنّهم بسطوا سيطرتهم النّهائية عليها. وكذلك ثورة بوعمامة في بداية 1883، ثم الزّعاطشة في الجنوب الشرقي من البلاد، وتصدّى الجزائريّون الأشاوش لجحافل جيش الاحتلال الفرنسي الذي خاض به نابليون بونابرت معارك طاحنة في بلدان وسط القارة الأوروبية، هذه الجحافل التي واجهها الشّعب الجزائري بصدر عار وأسلحة خفيفة، ولكن بعزيمة قوية، فولاذية راسخة، وتشهد على كل ذلك المقاومة البطولية للجزائريين بقيادة لالا فاطمة نسومر في معركة إيشريظن ضد جيش الجنرال راندون، سنة 1859. في نفس الوقت الذي تصدّى فيه الجزائريون الأبطال بوادي الرمال وكل أنحاء قسنطينة المجيدة لجيش الجنرال برتوزان، ولم يستسلم الشعب الجزائري أمام وحشية القمع الاستعماري، الذي ازدادت ضراوته بالإبادة الحقيقية لآلاف الجزائريّين بقذائف المدافع، وإحراقهم في الكهوف وتجويع قبائل كاملة في العديد من المناطق. وهي نفس الأساليب الجهنّمية التي استخدمها الجيش الفرنسي، بعلم كبار المسؤولين والسياسيين الفرنسيّين الذين غضّوا النظر عن تعذيب المناضلين الجزائريين في السّجون والمحتشدات، طوال حرب التحرير الأخيرة حتى نهايتها سنة 1962. وقد كانت بالفعل تتويجا لكل ثورات وانتفاضات الشّعب الجزائري الأبي. إنّ القيادات الجزائرية، المدنية والعسكرية، كانت واعية بخطورة الموقف بالحرص، أساسا، على استمرار التعبئة والتأقلم مع متطلّبات كل مرحلة، فكان توجّها نحو شراء الأسلحة العصرية وتوسيع عمليات التدريب، وإنشاء مصالح جديدة مثل سلاح الإشارة والاستعلامات وشراء المدافع المضادة للطيران، من أجل تعزيز قدرات جيش التحرير الوطني ومسبّليه في مواجهة الجيش الفرنسي، المصنّف في خمسينيات القرن الماضي، كرابع أقوى جيش في العالم والذي كان يستند إلى دعم كامل من الحلف الأطلسي، على مرأى ومسمع من العالم أجمع. قامت القيادات الجزائرية في كل مرحلة بتقييم الوضع، بالرغم من صعوبات الإتصال بينها ومحاولات الإختراق والجوسسة الفرنسية، فانعقد مؤتمر الصومام الذي شكّل أول لقاء للقادة، منذ تفجير الثّورة، حيث تمّ الإتفاق على هيكلة جديدة لجيش وجبهة التحرير الوطني داخل الوطن وإعادة تنظيم الولايات التاريخية وتحديد المسؤوليات الأساسية، مدنية كانت أو عسكرية، ثم تعيين هيئة تنفيذية سميت «لجنة التنسيق والتنفيذ» وبرلمان الثورة، وقد سمي ب «المجلس الوطني للثورة الجزائرية»، وهي الهياكل التي بقيت جاهزة وعملية حتى نيل الاستقلال، مع العلم أن تسمية «لجنة التنسيق والتنفيذ» تغيّرت لتصبح «الحكومة المؤقّتة للجمهورية الجزائرية» بنفس الأعضاء الأساسيين فيها. وظن الجيش الفرنسي، بعد القمع الدّموي على مدى ما سمي بمعركة الجزائر سنة 1957 أنه قضى على «رأس الثورة»، لكن القيادة أعادت الإنتشار والتنظيم في الداخل والخارج، وبالأساس لكل الهياكل المدنية والعسكرية المتواجدة بقوّة في المغرب الأقصى وتونس وليبيا. وتمّ تنظيم ما سمي باجتماع عقداء جيش التحرير الوطني (العشرة) بتونس في سنة 1958، فكان محاولة تقييم جديدة، الأمر الذي أسفر عن إنشاء «رئاسة أركان جيش التحرير الوطني» بقيادة العقيد هواري بومدين. كما أنّ المناضلين الجزائريين قاموا بأعمال جبّارة، حقيقة، للتعريف بالقضية الجزائرية وعدالتها، في كل المحافل الدولية، وحشد الدّعم العالمي من لدن الشّعوب المحبّة للسلام والحرية، فكانت أبرز المحطات مشاركة وفد هام من جبهة التحرير الوطني، عام 1955، في مؤتمر باندونغ، في أندونيسيا، للبلدان المحايدة في العالم الثالث، وهو المسار الذي أدّى إلى تأسيس «حركة عدم الانحياز» في العاصمة اليوغسلافية، بلغراد سنة 1961 والجزائر عضو مؤسّس لها، دون نسيان الجهود المبذولة من أروقة منظمة الأممالمتحدة في نيويورك. وتوّج الكفاح المسلّح بمعركة دبلوماسية حقيقية خاضها قادة الثورة بالتفاوض مع ممثلي الدولة الفرنسية الاستعمارية التي حاول مسؤولوها، وخاصة منهم الاشتراكيون ثم في عهد الجنرال ديغول تمييع المسألة لكسر شوكة جيش وجبهة التحرير الوطني بإضافة تمثيليات شتى في المسار التفاوضي كفرض وفد من فرنسيي الجزائر وتيار «الحركة الوطنية الجزائرية» المتكوّنة ممّا يعرف حتى الآن ب «بالحركى»، الذين هم خونة جزائريون انضموا إلى جيش الاحتلال الفرنسي لمحاولة إجهاض الثورة الجزائرية. غير أنّ القيادة الثورية فرضت نفسها ممثلا شرعيا ووحيدا للشّعب الجزائري، باق على العهد من أجل الجزائر الجزائرية، وهي القيادة التي قاومت وأسقطت كل المؤامرات الاستعمارية الهادفة لضرب وحدة الشعب الجزائري، لإقامة كيانات لفرنسيي الجزائر في الوسط والغرب وحتى الشرق وفصل الصحراء عن باقي أراضي الوطن، فكانت المقاومة صامدة، صلبة للدفاع عن وحدة الشعب الجزائري بكل فئاته ووحدة أراضيه والتحضير لإقامة دولته ذات السيادة الوطنية الكاملة وذات التمثيل الدبلوماسي الكامل في الساحة الدولية، وإقامة علاقات دبلوماسية عادية مع الدولة الأجنبية، مع التوضيح بأنّ «العلاقات بين الجزائر وفرنسا سيتم تحديدها والإتفاق عليها بين الدولتين على أساس المساواة والاحترام المتبادل»، وفق ما نصّ عليه بيان أول نوفمبر 1954، وما تضمّنته اتفاقيات إيفيان التي تعتبر قمّة في صياغة المعاهدات الدولية وتدرس في كليات الحقوق والدبلوماسية وحتّى في الكلّيات الحربية العالمية. ولا أحد ينكر أنّ القيادة الجزائرية فرضت نفسها ومطالبها على مرّ المفاوضات السرية الأولى في كل من روما وبلغراد وجنيف، وصولا إلى جولتي إيفيان سنة 1961 و1962، في الجولة الأخيرة التي وافقت فيها القيادة الجزائرية على وقف إطلاق النار الذي كانت قد رفضته، أصلا، موصدة الباب أمام كل المؤامرات الفرنسية مثل «سلم الجشعان»، ونزول جنود وضباط جيش التحرير الوطني من الجبال وتسليم أسلحتهم، كمقدمة للشروع في مفاوضات السلام. عند التوقيع على اتفاقيات إيفيان، يوم 18 مارس 1962 لتدخل حيز التنفيذ في منتصف نهار اليوم الموالي 19 مارس 1962، عقّب رئيس الوفد التفاوضي لجبهة التحرير الوطني، كريم بلقاسم، أمام نظيره رئيس الوفد التفاوضي الفرنسي لوي جوكس، بقوله: «لقد أنجزت المهمة» أي مهمة تحرير الجزائر، الواردة في بيان أول نوفمبر 1954، والموقّع عليه من طرف مصطفى بن بولعيد، محمد بوضياف، رابح بيطاط، العربي بن مهيدي، ديدوش مراد، وكريم بلقاسم، وهي المجموعة التي تضم أيضا الوفد الخارجي للمنظمة الخاصة، المتكوّنة من حسين آيت أحمد، أحمد بن بلة ومحمد خيضر. إنّها المعركة التفاوضية التي خاضها أحرار الجزائر الذين لم يخضعوا أبدا، بل تصدّوا لكل المؤامرات الاستعمارية، وهم بالفعل أسود الجزائر، تماما مثل رفاقهم داخل الوطن وخارجه، إنهم الأبطال: الأخضر بن طوبال، سعد دحلب، عمّار بن عودة، قايد أحمد، محمد الصديق بن يحيى، أحمد بومنجل، شوقي مصطفاي، الطيب بولحروف، امحمد يزيد، رضا مالك وكريم بلقاسم، الذين دخلوا التاريخ من الباب الواسع. إنّ هذه الملحمة الأخيرة وردت بتفاصيلها في كتب سعد دحلب ورضا مالك وبن يوسف بن خدة الرئيس الثاني للحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية التي كان رئيسها الأول فرحات عباس تطرّق في كتب عديدة لمراحل الكفاح وأهمها: «ليل الاستعمار» و»تشريح حرب»، وتوضيح نضالاته ومراحل الكفاح المسلح. كما ألّف المؤرخ والمناضل الكبير والمسؤول في جبهة التحرير الوطني محمد حربي العديد من الكتب قلّ ما أنتج أساتذة التاريخ مثلها والأحرى أن تعاد صياغة كتب التاريخ التي تدرس في المدارس، على أساس ما كتبه المناضلون، مع التدرج حسب المستويات البيداغوجية، حتى يعرف شبابنا وطلبتنا، تمام المعرفة، تاريخ وأمجاد المناضلين الذين حرروا الجزائر، وردّوا إليها الاستقلال والحرية والسّيادة وبناء الدولة من جديد، وحتى يتسلّحوا بذاكرة قوية تحصّنهم لحمل مشعل المجاهدين والشهداء الذين دفعوا الثمن غاليا في سبيل الجزائر (مليون ونصف مليون من الشهداء، فقط، خلال ثورة التحرير المجيدة)، وحتى يصونوا الأمانة وهذا دورهم المقبل لتعزيز الجزائر في كل المجالات الاقتصادية والعلمية والثقافية والاجتماعية.