في تاريخ الثورات التحرريّة، ومثلها الانتفاضات الشعبية السياسية، يكون دافع طرد الاستعمار أو تغيير النظام الحاكم، وحتّى إسقاطه في بعض التجارب، هو الجامع الأساسي بين الجماهير الغاضبة ونُخبها القائدة، لكن سرعان ما تطفو الخلافات والحسابات عندما تلوح في الأفق بشائر النصر وقطف الثمار. نحن الجزائريين عشنا هذه التجربة المريرة للصراع السياسي والإيديولوجي غداة الاستقلال على السلطة وحول مشروع المجتمع في آن واحد، واليوم قد يعيد التاريخُ نفسه في غضون أكبر حراك مدني تعرفه البلاد منذ 1962، وربمّا الفريد من نوعه وحجمه عربيّا وإقليميّا. ذلك أنّ السجال الدائر حاليّا حول آفاق الحلول الدستوريّة والسياسيّة للأزمة المؤسساتية التي خلّفها خروج الرئيس بوتفليقة من الحكم، مقابل استمرار المطالب الشعبية بتطهير السلطة من رموز النظام السابق، إنْ كان يعكس تعدّد الرأي والرؤية لدى عموم الجزائريين، وتقديرهم لمآلات الآليات المقترَحة للخروج من وضعية المأزق، فإنّه في واقع الأمر، يُخفي وراءه تصارع الإرادات المُستترة على رسم معالم الجزائر الجديدة وملامحها الحضاريّة باسم الانتقال الديمقراطي أو إعادة التأسيس للدولة الوطنيّة الحديثة. من هنا تبدو خطورة الأفكار المتداولة لهيكلة المؤسسات السياسيّة المؤقتة قبل الوصول إلى تحقيق سيادة الشعب، عبر مسار انتخابي شفاف، لأنّ التصوّرات المروَّج لها لا يمكن أن تكون أفكارًا نظريّة مجرّدة، وبمنأى عن الحسابات السياسوية الفئويّة، ما يقتضي التعامل معها بحذر، وفق ما يستجيب لتطلعات الأغلبيّة الشعبيّة التي تصنع اليوم الحراك بكلّ عفويّة وصدق في الشارع، حتّى لا تجعل الأقليات الإيديولوجيّة المعزولة من ظهورنا مراكبَ لتمرير مشاريعها المنبوذة. لهذا على الجزائريين، ونحن في المنعرجات الأخيرة، أن يفرّقوا بوعي وبصيرة بين ضرورة الاستجابة لما بقي من مطالبهم المشروعة، وفي مقدمتها إسقاط “البلاءات الثلاثة”، لأجل تأمين المرحلة القادمة، حتى لا تضيع ثمرات الانتفاضة الوطنيّة، وبين تلك الدعوات التي تدفع نحو التصعيد اللامتناهي، عبر التركيز على تجاهل الدستور بشكل كامل، لأنها ستفضي في نهاية المطاف، إنْ لم ينتبه المواطنون إلى خلفياتها الحقيقية، إلى حالةٍ من الفوضى والفراغ لا أحد يضمن الانعتاق منها بسلام. وحتى لا يكون كلامُنا مجرّد رسائل مشفّرة، وجب التنبيه إلى أنّ فرز الخطاب السياسي في الآونة الأخيرة يؤكِّد بروز اتجاهين خطيرين، يجمعهما التآمر الحثيث للسطو على حراك الشعب: الأول يغمز في الجيش، موقفًا وقيادةً ورموزًا، أما الثاني فيسوّق إلى استبعاد الانتخابات في الآجال القريبة، ليس لأسبابٍ فنيّة أو تقنيّة، بل لأنها، في تقديرهم، ستحمل التيّار الوطني الإسلامي إلى سدّة الحكم، بينما هُمْ في حاجة إلى متّسع من الوقت لتهيئة أنفسهم، مثلما صرّحوا علنًا، لأنّ ما يحلمون به هو جزائر مختلفة عن آمال أولئك المتشبِّثين بمبادئ أول نوفمبر الخالدة. وليكن واضحًا أنّ هؤلاء المشبوهين في مشروعهم هم عرّابو المرحلة الانتقالية الطويلة، والذين يدفعون بقوّة نحو الفراغ المؤسساتي لضمان مواقعهم عبر المحاصصة، لأنهم لم يراهنوا يومًا على صناديق الاقتراع، في حين إن تنظيم استحقاق رئاسي نظيف لا يتطلب سنوات ولا حتّى شهورًا مديدة، بل من الضروري حسم مسألة الرئاسة في أقرب الآجال الممكنة، وبعدها نتفرّغ لتجسيد الإصلاحات المنشودة في كنف الشرعيّة الشعبيّة الكاملة، لتكون لها المشروعية المطلقة في تنفيذ طموحات الشعب الجزائري. لكن مقابل هذه العقلانيّة المطلوبة من الحراك، على السلطة الفعليّة أن تضخّ المزيد من الضمانات العمليّة التي تكرّس مرافقتها التاريخيّة لهبّة الشعب، حتى تبقى دومًا هي جدار الصدّ والأمان، لحماية الوطن في وحدته وثوابته وهويته الأصيلة ضدّ كل المشاريع الهدّامة والأطراف المتربّصة.