العقود تتوالى والسودان لم يخلع أنظمته الانقلابية القبعة العسكرية، نظم الحياة المدنية، ظلت بعيدة عن منال شعب يصارع الفقر، فوق أرض امتازت بثرائها المدفون كنوزا، تركت نهبا لشركات عابرة للقارات، جزّأت الوطن، وقسمت مجتمعه إلى أعراق وطوائف. الطريق أصبح واضحا في خارطة السودان المجزأ رغما عنه، منهيا عنوان أكبر دولة إفريقية مساحة، فقدت نصف ثرواتها، مع بدء نقطة انطلاق جديدة ل”حرب أنانيا” التي وضعت أوزارها عام 1972 مُنهية أول عصيان مدني في جنوبي السودان من دون الوصول إلى ترتيبات إدارية رغم اكتشاف الأسباب الحقيقية للبِّ صراع يتجدد بوتائر أكثر عنفا في ظل قبضة عسكرية، عاجزة عن رؤية الحياة بمنظار مدني. بررت الحرب الانفصالية “أنانيا” التي تعني “سمَّ الأفعى”، صعود العسكر على قمة السلطة، وتأجيل الحياة المدنية، فتوالى فشلهم في إرساء دعائم مجتمع يتطلع لحياة تلبي مستلزمات استقراره على قواعد العيش الحضاري الكريم. “حرب أنانيا” كانت العصيان الأول سنة 1955 الهادف إلى إقرار نظام فيدرالي يمنح الجنوب وضع إنشاء دولة فيدرالية أخذت فيما بعد وضعا انفصاليا، والعصيان الثاني اندلع عام 1983 بظهور حركة “الجيش الشعبي لتحرير السودان” التي خاضت أطول حرب أهلية انتهت باتفاق سلام مع السلطة المركزية في الخرطوم. لكن الانهيار يدك اتفاق السلام من جديد و كأن “حرب أنانيا” تعود لتحسم إدارة صراع أهلي لم تتمكن من حسمه في عقود حرب ماضية، بأشكال أكثر انتشارا وأكبر تدميرا وأقوى إصرارا على حسم ما لم تحسمه حربان، والنفط الذي يسبح به جنوب السودان، هو سرّ الإصرار على تصعيد صراع أهلي سعت إدارة البيت الأبيض إلى تدويله. “شيفرون” اكتشفت النفط في جنوب السودان عام 1978.. ووضعت باكتشافها حدا للصراع التقليدي على الماء في جنبات الصحراء الكبرى ونصَّبت مواقع صراع آخر لم تعرفه المنطقة من قبل، ودفعت السلطات السودانية إلى إعادة رسم الحدود التشريعية لاستبعاد أماكن احتياطيات النفط من التشريعات في الجنوب بشكل فجَّر الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب التي استمرت 21 سنة، حتى تحرَّك النزاع بعد ذلك جنوبا نحو عمق السودان وتحديدا في أراضي المستنقعات التي تشكِّل منابعَ النيل وتقع بعيدا عن مناطق الصراع التاريخية على الماء. وشركة “شيفرون” هي من أكبر شركات البترول العالمية والعاملة في مراحل صناعة النفط كافة، تمكَّنت من جمع ثروتها بمساندة الجنرال فرانكو خلال الحرب الإسبانية والحرب العالمية الثانية، وبعد أن اقتطعت أكبر حصة لها من منابع البترول السعودية أصبحت الشريك الأول للأحزاب السياسية في الولاياتالأمريكية، وظلت من ذلك الوقت تسعى دائما كي تكون انعكاسا للرؤية الإستراتيجية للبيت الأبيض طبقا لمصالحها، ولهذا رعت الدراسات الداعية إلى اجتياح العراق، قبل أن تسيطر على حقوله البترولية كما ترعى التوجُّهات السياسية لمعالجة الوضع السوداني السابح في بحيرات نفطية. والمراقبون كانوا يعتقدون بإمكانية معالجة أزمة الصراعات الداخلية في السودان سياسيا لو امتلكت سلطة الرئيس المخلوع عمر البشير رغبة علاجها. حوصرت أنظمة السودان العسكرية، بضغوط دولية، وهي تحاكَم بتهمة فرض سياسة استيعاب قسرية لتحقيق تجانس مستحيل بين مكونات مجتمع يتوزع بين العربية والأصولية الإسلامية والأصول الإفريقية والمسيحية. آن الأوان الآن أن تخلع السودان القبَّعة العسكرية، وتبسط الأرض لحياة مدنية، تحيي من جديد الطاقات والقدرات المعطلة منذ زمن طويل، بقيد عسكري انتفض الشعب عازما على كسره والإلقاء به في مخلفات التاريخ.