لعلّه قَدَر جيلنا الحالي أن يعايش نكبات من أشدّ النّكبات التي مرّت بأمّة الإسلام، ويكونَ شاهدا على خيانات قلّ أن يعرف تاريخ الأمّة لها نظيرا.. يُخذل المسلمون في بلاد الله الواسعة وتُباع دماؤهم وقضاياهم بأثمان بخسة دراهم معدودة، وتُقدّم مقدّسات المسلمين عربون وفاء لأعداء الأمّة الذين تَفتّحت أساريرهم وراحوا يفركون أيديهم ويُعربون عن فرحتهم وهم يجدون ممّن ينتسب إلى أمّة الإسلام من هو أحرص على مصالح المحتلّين لأراضي الأمّة الناهبين لخيراتها المحاربين لدينها مِنَ المحتلّين والمتربّصين أنفسهم، ومن هو مستعدّ أتمّ الاستعداد لسجن وذبح الأحرار وبيع أراضي الأمّة ومقدّساتها مقابل كلمة شكر أو امتنان من المشتري. صعقة نهاية القرن! قبل 124 سنة، في شهر جوان من العام 1896م، وقف الأب الرّوحيّ للصّهيونية العالمية “تيودور هرتزل” بين يدي سلطان المسلمين يومها الخليفة العثماني عبد الحميد الثّاني، ليعرض عليه صفقة نهاية القرن التاسع عشر.. بدأ الصّهيونيّ هرتزل يعرض طلبه قائلا: “إنّ الأمّة اليهودية ومنذ زمن طويل تتعرض لأبشع أنواع الذل والاحتقار والإقصاء، ومن أجل تخليصها من هذا، فإنّ كلّ ما نريده هو قبولكم هجرتنا إلى فلسطين لإنقاذنا من التمييز البشع الذي نتعرّض له في أوروبا وفي القيصرية الروسية، وأتعهد لكم في مقابل قبولكم هذا بسداد جميع ديون الدولة العثمانية وحتى تزويد الميزانية والخزينة العثمانية بفائض عن حاجتها”.. كانت فرصة من ذهب، توقّع “هرتزل” أن يسارع السّلطان إلى قبولها، خاصّة وأنّ الدّولة العثمانية أيامها كانت تعاني اضطرابات داخلية وتهديدات خارجية وكان كاهلها مثقلا بالديون، لكنّه صعق بردّ السّلطان عبد الحميد الذي قال بشدّة وحزم: “أنا لا أستطيع بيع شبر واحد من هذه الأرض، لأن هذه الأرض ليست ملكا لشخصي بل هي ملكٌ للمسلمين، نحن لم نحز هذه الأرض إلا بالدماء والقوة، ولن نسلمها لأحد إلا بالدماء والقوة.. والله لئن قطعتم جسدي قطعة قطعة، لن أتخلى عن شبرٍ واحد من فلسطين”. أُسقط في يد هرتزل، وخرج منكّس الرّأس، لكنّه لم ييأس، بل ظلّ يتردّد على عاصمة الخلافة العثمانية على مدار 4 سنوات بعدها، وبذل كلّ ما في وسعه للحصول على موافقة سلطانية تسمح لليهود بالهجرة إلى فلسطين، ولكن من دون جدوى، بل قد فوجئ بالسّلطان عبد الحميد يشدّد الحراسة على الأرض المباركة فلسطين، ويحوّل القدس إلى منطقة عسكرية لا يمكن اليهودَ الاقترابُ منها، ويؤكّد على المراسيم التي أصدرها قبل ذلك في سنة 1876م بعنوان “مذكرة الأراضي العثمانية” والتي تمنع منعا باتا بيع الأراضي الإسلاميّة وخاصة الفلسطينية لليهود، كما خصص السلطان أوقاتًا محددة وقصيرة لليهود الراغبين في زيارة فلسطين، مع دفع 50 ليرة تركية.. وهو ما جعل الصّهيونيّ هرتزل يقول كما في مذكّراته: “لن يستطيع اليهود دخول الأراضي الموعودة ما دام السلطان عبد الحميد قائما في الحكم”. تواصلت مؤامرات الصهاينة على الدّولة العثمانية، وبدأت رشاواهم تعرض على الحكام والملوك للانقضاض على الدّولة التي بدأ الضّعف يسري في أوصالها، وحرّضوا العرب على الانفصال عنها.. سعى السّلطان عبد الحميد بكلّ ما أوتي من حيلة للحيلولة دون بلوغ الصّهاينة مآربهم، لكنّ مؤامرة خبيثة أجّجت تمردا داخليا أدى إلى خلعه عن الحكم سنة 1909م. ماذا بعد السّلطان عبد الحميد؟ استطاع السلطان عبد الحميد –رحمه الله- بتوفيق الله أولا، ثمّ بفضل النّخوة التي كانت تسري في عروقه أن يحمي فلسطينوالقدس والمسجد الأقصى، وأمكنه أن ينسف “صفقة نهاية القرن” التي قدّمها الصّهاينة، ويردّها صعقة أربكت أولى خطواتهم.. لكنّ الصّهاينة تمكّنوا من بلوغ مآربهم وتحقيق بعض أحلامهم بعد ذلك، حينما أسقطوا عبد الحميد وتخلّصوا من كلّ حاكم تسري في عروقه النّخوة التي سرت في عروق السّلطان عبد الحميد، فافتكّوا من بريطانيا في 2 نوفمبر 1917م وعدا بإنشاء وطن قوميّ لليهود على أرض فلسطين المباركة ، سمّي “وعد بلفور”، ولم تمرّ سوى 31 سنة حتى دخل الصّهاينة الأرض المباركة واحتلّوها، وسعوا جاهدين إلى تهويد القدس واستهداف المسجد الأقصى المبارك، وها هم الآن يسيطرون على ما لا يقلّ عن 85% من أرض فلسطين المباركة، ويتلاعبون بحكّام وملوك المسلمين ويجرّونهم إلى مفاوضات تجرّم قتال المحتلّ وتتآمر على المقاومة وتتمخّض عن تزايد وتيرة الاستيطان والتوسّع. صفقة العار الفاضحة! بعد 72 سنة من الاحتلال، ها هي الأمّة تفجع يوم الاثنين الماضي بإعلان ما سمي “صفقة القرن” التي طبخها الصّهاينة وأوقدت عليها أمريكا راعية الإرهاب الصهيونيّ، بملح وتوابل عربية إسلامية مع كلّ أسف.. ليخرج الرئيس الأمريكيّ أمام العالم يعرض صفقة من طرف واحد ويدعو الطّرف الآخر للمسارعة إلى قبولها ويخوّفه من مغبّة رفضها لأنّها الفرصة الأخيرة حسبه! وينهي كلامه بشكر الدّول العربية التي حضرت الإعلان عن الصّفقة! خيانة عظمى سيسجّلها التاريخ على صفحاته بمداد الأسى والأسف، لتبقى وصمة عار في حقّ المتآمرين لن تمحوها بحار ومحيطات العالم.. صفقة يسيطر بموجبها الصّهاينة على مساحات جديدة من الأرض المباركة ويهجّر منها الفلسطينيون، وتعلن القدس عاصمة موحّدة لليهود بعد أن قسمتها الأمم المتّحدة إلى قدس شرقية للفلسطينيين وقدس غربية للصّهاينة.. صفقة تمنح الفلسطينيين شبه استقلال على بُقع مشتتة من الأرض المباركة لا تصل مساحتها 15% من مساحة فلسطين، وتَمنع أصحاب الأرض من إنشاء جيش أو امتلاك أسلحة ثقيلة، وتُجرّد المقاومة من سلاحها، ليتولّى الاحتلال حماية دويلة فلسطين المشتّتة، مقابل أموال يدفعها العرب! صفقة خائبة خاسرة.. لكنّها مع كلّ أسف وجدت من حكّام المسلمين من يؤيّدها ومن الأنظمة العربية من يروّج لها ويضغط لقبولها.. لقد انتشى الصّهاينة فرحا ببعض العرب الذين انطلقوا يتسابقون لكسب ودّ الكيان المحتلّ وأبانوا عن حرص منقطع النّظير على مصلحته، ولكنّ الصّهاينة يعلمون علم اليقين أنّ هؤلاء الحكّام لا يمثّلون الأمّة المسلمة ومواقفهم لا تمثّل أكثر من مليار ونصف المليار مسلم، ولذلك فهم -أي الصّهاينة- لن تكتمل لهم فرحة ولن يهدأ لهم بال وهم يرون المسلمين يتنادون لرفض صفقة العار ويتداعون لمواجهتها ويخوّنون كلّ من يقبلها. حملة افتراضية تحتاج إلى ترجمة في الواقع هذه الحملة الواسعة التي تداعى إليها المسلمون على مواقع التواصل الاجتماعي وفي المسيرات والسّاحات، لرفض صفقة القرن، هي حملة مطلوبة، وينبغي أن تتواصل وتتوسّع، لكنّها غير كافية، فمحنة فلسطين لن تحلّ على الإنترنت ولا بالكلمات وحدها، بل لا بدّ من العمل في الميدان، ولا بدّ من أن نبرهن في واقعنا على اهتمامنا بفلسطين.. إن عجزنا وحالت بيننا وبين قتال الصهاينة الحواجز، فلا أقلّ من أن نغرس في قلوبنا الولاء للأرض المباركة، ونربّي أبناءنا ونذكّرهم بأنّ هذه الأرض حقّ إسلاميّ خالص، ليس لاعتبارات التاريخ فحسب، بل لأنّ الله هو من ملّكها عباده المسلمين ملكا لا تبطله صفقات خاسرة يبيع فيها من لا يملك لمن لا يستحقّ. نعم، هي نكبة نعيشها وغصّة علقت في حلوقنا، ولكنْ لعلّ الله يجعل عاقبتها إلى خير، فالأمّة تعرّضت للتّنويم والتّخدير على مدار عقود متوالية، وهي في حاجة إلى صفعات قوية لتستفيق. في خضمّ هذه الجرأة التي أظهرها الصهاينة والصليبيون لابتلاع الأرض المباركة، وإزاء الخذلان الفاضح الذي أبداه بعض حكام المسلمين، سيدرك المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها أنّ فلسطين لن تتحرّر إلا على طريق “وعد الآخرة” ((فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا)). بمثل هذه الصّفعات سيوقن المسلمون أنّ أنفع وأجدر صفقة لإبطال صفقة القرن، هي الصّفقة الرّابحة التي أعلن عنها القرآن في قول الله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم)).. وصفقة القرآن الرّابحة لا بدّ على طريقها من أن يُخرج المسلمون الدنيا وكراهية الموت من قلوبهم وقلوب أبنائهم، ويتعالوا قليلا عن حظوظ أجسادهم الفانية، ويهتمّوا أكثر بديهم وقضايا أمّتهم، ويسأل كلٌّ منهم نفسه عمّا قدّمه لدينه وقضايا أمّته طوال السّنوات والعقود التي عاشها؟ لقد دلّنا النبيّ–صلّى الله عليه وآله وسلّم- على الدّاء الذي يكون سببا في هواننا وذلّنا في آخر الزّمان، حينما قال: “يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها”. قال قائل: ومِن قلة نحن يومئذ؟ قال: “بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنّكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعنّ الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفنّ في قلوبكم الوهن”. قال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: “حبّ الدنيا، وكراهية الموت”.. هذا هو الدّاء وما علينا إلا أن نبدأ العلاج. لقد غيّرْنا هواتفنا مرارا وتكرارا، وغيّرنا سياراتنا وأجهزة التلفاز في بيوتنا، وغيّرنا أثاث بيوتنا، وغيّرنا ثيابنا، وقد آن الأوان لأنْ نغيّر نفوسنا وقلوبنا ونخرج منها التعلّق بالدّنيا الفانية، وآن الأوان لأن نعيد النّظر في تربية أبنائنا.. أبناؤنا في خضمّ النّكبات والمحن التي تمرّ بها أمّة الإسلام في هذه السّنوات لا يجوز ولا يليق أبدا أن يتربّوا تربية القطط والخِراف.. أبناؤنا ينبغي أن يُعلَّموا ويذكّروا بأنّهم أبناء أسودٍ ضراغم، أبناء أبطال جابوا الأرض شرقا وغربا، وقدّموا الغالي والنّفيس لأجل أن تكون كلمة الله هي العليا.. أبناؤنا ينبغي ألا ينسوا أنّهم أحفاد الأسود الذين أسقط الله على أيدهم إمبراطوريتي فارس والروم، وأحفاد الفاتحين الأباة الذين أوصلوا الإسلام إلى الصّين والهند والسّند وإلى جنوبفرنسا.. إنّهم أحفاد عليّ بن أبي طالب فاتح خيبر، وأحفاد خالد بن الوليد مرعب الفرس والرّوم، وأحفاد صلاح الدّين الأيوبيّ محرّر الأقصى، وأحفاد سليمان القانوني مؤدّب الأوروبيين، وأحفاد عبد الحميد الثاني الذي رفض بيع فلسطين وحماها –بتوفيق الله- من الصّهاينة المتربّصين.