"خطيب جمعية العلماء (1)"، أن يفوز بهذا الوصف شخص من بين عشرات الأشخاص كلهم، أو أكثرهم، متكلم ماهر، ومتحدث تقوالة، فذلك هو التميز، بل الامتياز. وما نال هذا الوصف بهذه الصيغة- في ما نعلم- إلا الشيخ العباس بن الحسين- رحمه الله. وأن يأتي هذا الوصف في "جريدة البصائر"، الناطقة بالحق، المتحرية للصدق، فذلك هو الوسام الذي ليس له ثمن. وأرى الجريدة في إطلاقها هذا الوصف على الشيخ العباس مصيبة كبد الحقيقة. ولست في هذا الرأي راويا عن غيري، وإنما أنا عليه من الشاهدين، حيث خطت الأقدار في صحيفتي أن أعمل تحت قيادة الشيخ العباس في مسجد باريس حولين كاملين، حضرت في أثنائها كثيرا من مجالس الشيخ ولقاءاته وندواته الصحفية مع أناس ذوي مقام معلوم، من العرب والعجم، مسلمين وغير مسلمين، واستمعت إلى كثير من دروسه المسجدية وخطبه الجمعية، فكان كالمغناطيس، هذا يشد المعدن شدا، وذلك يجذب المستمع إليه جذبا، ويأسره أسرا لا فكاك له منه، سواء كان الحديث في أمور الدين، أم في قضايا الاجتماع، أم في شؤون السياسة، أم في عالم الأدب العربي، نثره ونظمه..عمدته في ذلك ذاكرة عجيبة، سمعت عن مثلها، ولكنني لم أر مثلها، متنقلة بالمستمع من آي الذكر الحكيم، إلى أحاديث الرسول الكريم، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، إلى أقوال العلماء وأشعار الشعراء. ولد الشيخ العباس في عام 1912، في بلدة سيدي خليفة- ولاية ميلة- وكانت أسرته مشهورة في تلك النواحي، لأنها أسرة علم ودين، وكانت ذات نزعة إصلاحية، رغم أن لها زاوية. بعد حفظه القرآن الكريم، تلقى مبادئ اللغة والعلوم الشرعية في زاوية أسرته، ومن الشيوخ الذين درس عليهم الشيخ بلقاسم منيع، وكان الشيخ العباس يكن للشيخ بلقاسم احتراما كبيرا. لما بلغ مبلغ الشباب توجه إلى تونس، وانتسب إلى جامع الزيتونة، ولكن مكثه فيه لم يطل، ولسنا ندري سبب ذلك، ثم انتقل إلى المغرب الأقصى، فانخرط-في بداية الثلاثينيات- في جامع القرويين. ومن زملائه في ذلك الجامع، أحمد بن سودة، الأستاذ المناضل المغربي، الذي صار مستشارا للملك المغربي، الحسن الثاني. لقد ترك لنا الأستاذ ابن سودة شهادة عن الشيخ العباس، وقد سجلها بمناسبة وفاة الشيخ العباس، ونشرها في جريدة "الشرق الأوسط" (2)، التي كانت تصدر في لندن. ومما جاء في هذه الشهادة القيمة، أن اسم الشيخ العباس "كان لامعا في القرويين، وكان من أنبغ التلاميذ… كما كان خطيبا بليغا". لم يكن الشيخ العباس من أولئك الطلاب الذين لا يهتمون بالنضال السياسي، ولذلك- كما شهد الأستاذ ابن سودة- "عمل معنا في الخلايا الوطنية، كأي مواطن مغربي، رغم أنه جزائري، وبخاصة داخل الجمعية، التي كانت تعمل لإصلاح نظام القرويين… وكان من أفصح الخطباء، ومن زعماء الطلبة، وظل بيته في مدرسة المصباحية هو مركز القيادة للإضراب"، حيث كان يمتاز ب"قوة الإيمان وفصاحة الحديث، ويعيش الأحداث الوطنية بأحاسيسه وقلبه". والشيخ العباس هو الذي سمّى الشاعر المغربي إدريس الجاي "عنترة القرويين"، الذي كان يلهب مشاعر الطلبة بأشعاره.. كما شهد ابن سودة. وذكر الشيخ العباس للشيخ عبد الرحمن بن العقون (3) أنه عمل لحساب "حزب نجم شمال إفريقيا"، منذ سنة 1931، وكان الواسطة بين الشيخ وهذا الحزب هو المناضل محمد قنانش، وهو مناضل من تلمسان، فكان هذا المناضل يرسل جريدة الأمة التي كان يصدرها النجم إلى الشيخ العباس الذي يتولى توزيعها على الطلبة الجزائريين.. ولعل هذا من أسباب حكم الإدارة الفرنسية على الشيخ العباس بالإبعاد من فاس، إضافة إلى نشاطه مع "الكتلة الوطنية المغربية" ثم مع "حزب بالاستقلال" المغربي، الذي انشق عن "الكتلة الوطنية"، وقد تم نفي الشيخ العباس، أو إبعاده، في سنة 1938. استقر الشيخ العباس في بلدة "بني صاف"، القريبة من تلمسان، ولسنا ندري إن كان في ذلك مختارا أم مجبرا، كما لا نعلم إن كان الشيخ العباس اتصل في هذه الفترة بالإمام الإبراهيمي، المقيم بتلمسان ممثلا لجمعية العلماء، والراجح أنه اتصل به، إذا عرفنا أنه أسست شعبة للجمعية في بني صاف وأن رئيس هذه الشعبة هو الشيخ العباس (جريدة البصائر. ع 107 في 8-4-1938 ص3). وفي بني صاف، أسس الشيخ العباس ناديا إسلاميا باسم الحركة الإصلاحية، وقد عثرنا للشيخ على أثرين في جريدة البصائر، يعودان إلى هذه الفترة. أولهما، عبارة عن قصيدة تحت عنوان "يا فلسطين الشهيدة"، وهي منشورة في العدد 157 بتاريخ 17-3-1939، وثانيهما،مقال تحت عنوان "كلمة صريحة"، (البصائر 5-12-1939). لم يطل المقام بالشيخ العباس في بني صاف، وقد انزعج من نشاطه الفرنسيون والطرقيون، لما كان ينشره من الفكر الإصلاحي، ومحاربة البدع، فأخرج من مدينة بني صاف، فتوجه إلى مدينة قسنطينة، واتصل بالإمام عبد الحميد ابن باديس، الذي بعثه إلى مدينة عنابة ليشرف بها على الحركة الإصلاحية، بالإضافة إلى نشاطه ضمن "حزب الشعب الجزائري"، الذي خلف "حزب نجم شمال إفريقيا" بعد حله من طرف السلطات الفرنسية. وفي منتصف سنة 1940، قبض عليه من قبل السلطات الفرنسية فسجن، وغرم، ثم برئت ساحته ولا ذنب له إلا أنه كان يعلم اللغة العربية، وينشر الدين الإسلامي الصحيح والفكر الإسلامي السليم.. ثم حاول الاستقرار بمدينة عزابة، فمنعته السلطات الفرنسية من العمل، سواء بمدرستها أم بمسجدها، فعاد إلى قسنطينة. في سنة 1943، خفف الضغط عن الجزائريين بعد نزول الأمريكيين في الجزائر، استعدادا للهجوم على جنوبإيطاليا، فذهب الشيخ العباس إلى بلدة سيدي مزغيش، للإشراف على الحركة الإصلاحية بها، والتعليم بمدرستها. وفي هذه الفترة، نشط الشيخ مع حركة "أحباب البيان والحرية"، وهو تجمع سياسي لأهم الحركات الجزائرية بقيادة كل من الإمام الإبراهيمي، وميصالي الحاج، وفرحات عباس. بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، سجن الشيخ العباس في من سجنوا، وتنقل بين سجون سكيكدة، وقسنطينة، والحراش، والأصنام- الشلف- وأخيرا،بوسوي في جنوبوهران.. وفي أثناء وجوده في هذا السجن، احتك ببعض مسؤولي "حزب الشعب"، فأنكر كثيرا من سلوكهم مما يتنافى- كما قال- "مع المبادئ الوطنية، التي ندعو لها في الحزب (4)". ولما أسس الإمام الإبراهيمي معهد الإمام ابن باديس، اصطفى له خيرة أساتذة الجمعية، وكان الشيخ العباس أحدهم. وقد شهد طلبته بعلمه الواسع، وشخصيته القوية، وشجاعته.ومن ذلك، أنه عندما ضاق المعهد بالطلاب طلبت إدارة المعهد من السلطات الفرنسية السماح باستعمال "الجامع الكبير"، القريب من المعهد- فرفضت السلطات الفرنسية، فما كان من الشيخ العباس إلا أن اتفق مع الطلبة على "احتلال المسجد" بالبقاء فيه عقب صلاة الفجر.. وتقديرا من الإمام الإبراهيمي لعلم الشيخ العباس وتجربته عيّنه في "لجنة التعليم العليا"، التي أنشئت في سنة 1948، وهي كما سماها الشيخ عبد الرحمن شيبان "وزارة تربية شعبية (5)"، حيث عهد إليها بالإشراف على شؤون التعليم، من وضع البرامج، وإصدار اللوائح، وتعيين المعلمين، ووضع الدرجات لهم، واختيار المفتشين، وتنظيم ملتقيات تربوية دورية لمناقشة مشكلات التعليم. في أكتوبر من عام 1951، عقدت الجمعية مؤتمرها العام، وكان مؤتمرا متميزا، حيث جاء بعد الحرب العالمية الثانية، وجرائم 8 ماي 1945، وسجن قيادة الجمعية عقب تلك الحوادث الإجرامية، وكانت الفترة من 1946، فما بعدها عرفت توسعا في نشاط الجمعية، وتعددا في مدارسها، وتعميما لشعبها في أنحاء الوطن، وفتحا لمكتبين لها في خارج الوطن، هما مكتب القاهرة ومكتب باريس، وكان على الجمعية أن تراعي ذلك كله، فكان انتخاب نائبين للرئيس، (الشيخين العربي التبسي ومحمد خير الدين) بدل نائب واحد، وانتخاب ثلاثة نواب للكاتب العام (أحمد سحنون، وحمام حماني، وعبد الوهاب بن منصور) بدل نائب واحد. وفي هذا المؤتمر، انتخب الشيخ العباس عضوا في المكتب الإداري للجمعية، وهو مكتب يشبه المكتب السياسي في الأحزاب السياسية، فهو الذي يدير شؤون الجمعية بين مؤتمريها. وفي بداية عام 1951، استحدثت في الجمعية مهمة هامة هي مهمة "ملحق بمكتب الرئيس"، يقوم من تسند إليه ببعض ما كان يقوم به الرئيس من الأعمال التي كثرت فأكلت أوقاته كلها، وقد وقع الاختيار على الشيخ العباس "لكفاءته"، واقتداره، ونشاطه، فأعفي من التدريس بالمعهد،وألحق بمكتب الرئيس ليستعين به على تصريف الأمور، وليكون نائبه في كل ما يوجهه إليه من شؤون المدارس، والجمعيات، والشعب، والمعملين، والجمهور (6)". ويدل هذا الاختيار على مكانة الشيخ العباس وقيمته، وعلى ثقة الإمام الإبراهيمي فيه.. وقد مكّنت هذه المهمة الشيخ العباس من التنقل في جميع أنحاء الجزائر، ومعرفة عادات سكان كل منطقة، وظروف المعلمين فيها، واقتراح الحلول لما يستجد فيها من أمور تعليمية أو إرشادية، أو اجتماعية، فكوّن بهذه المهمة شبكة كبيرة من المعارف. وفي نهاية 1951، عقدت الجمعية العامة للأمم المتحدة دورتها العادية في مدينة باريس، وذلك قبل بناء مقرها في مدينة نيويورك. اهتبل الإمام الإبراهيمي هذه المناسبة، وعرض الأمر على مكتب الجمعية للذهاب إلى باريس للاتصال بمندوبي الدول العربية والإسلامية وشرح القضية الجزائرية لهم، وطلب عرضها على الأممالمتحدة، فوافق المكتب على ذلك، واختار الإمام لمرافقته في هذه المهمة كلا من نائبه الثاني الشيخ محمد خير الدين، وممثله الشيخ العباس، وانضاف إليهم الزعيم فرحات عباس وبعض معاونيه. لقد دل هذا الاختيار- مرة أخرى- على ثقة الإمام الإبراهيمي في الشيخ العباس.. وقد نشط هذا الوفد على هامش تلك الدورة نشاطا هاما، ومنه إنجاز ما عرف باسم "ميثاق أحزاب شمال إفريقيا" لتنسيق العمل بين هذه الأحزاب لتحقيق الهدف الأكبر، وهو تحرير شمال إفريقيا.. وقد "أسند الرئيس الشيخ الإبراهيمي إلى الشيخ محمد خير الدين والشيخ العباس ابن الشيخ الحسين… ومعهما وفد من أحزاب شمال إفريقيا تسليم هذه الوثيقة إلى السيد ترفيلي، الكاتب العام لجمعية الأمم (7)". يتبع بإذن الله… 1) البصائر في 22-5-1953. 2) جريدة الشرق الأوسط في 20-5-1989 ص5. 3) عبد الرحمن بن العثون: الكفاح القومي والسياسي، ج2 ص 2018-2019. 4) المرجع نفسه، ج2 ص 220. 5) شيبان عبد الرحمن: جريدة الشرق الأوسط في 21-5-1989. 6) البصائر في 8-1-1951. 7) محمد خير الدين: مذكرات، ج2. ص 51، مؤسسة الضحى.