العفّة، كلمة تشنّف بها الأسماع وتأنس بها الأرواح المؤمنة، والعفاف باب في الدّنيا يوصل إلى الجنّة؛ يدخل منه كلّ عبد مؤمن جعل شعارا له: ((معاذ الله إنّه ربّي)) في مواجهة كلّ فتنة تعرض له؛ أمام كلّ صورة محرّمة تلمحها عينه في الشّارع أو التلفاز أو الهاتف، وفي مقابل كلّ دعوة تحرّضه على مقارفة الحرام.. باب يدخل منه كلّ شابّ جعل قول الله تعالى: ((وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ))، دستورا لحياته.. وتدخل منه كلّ مؤمنة جعلت قول الحقّ سبحانه: ((وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنّ))، منهاجا لحياتها. إنّه لا أروع ولا أسعد ولا أهنأ من أن يخاطب الشابّ المؤمن نفسه كلّما حدّثته بالنّظر إلى الحرام في الهاتف أو التلفاز أو في الشارع، كلّما دلاّه الشّيطان ليكسر الحواجز بينه وبين فتاة غافلة عبر مواقع التواصل، كلّما زيّن له الشّباب العابثون إقامة العلاقات ومخالطة الفتيات؛ يخاطب نفسه بقول الله تعالى: ((وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى))، وبقوله سبحانه: ((قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا)).. ويسأل: أ هذه النظرة الآثمة الفانية خير أم ما في الجنّة من نعيم لا يخطر على بال؟.. أ هؤلاء الفتيات العابثات خير أم ما أعده الله لعباده المتقين من زوجات طاهرات قاصرات مقصورات، لم يخطر على بال بشر حسنهنّ ولم يُر في دنيا النّاس مثلهنّ، في وفائهنّ لأزواجهنّ وقصور طرفهنّ عليهم، وفي تودّدهنّ لهم؟ أ تلك الصّور المغرية الخادعة خير أم ما أعدّه الله في الجنّة لعباده من نعيم لم تره عين ولم تسمع به أذن ولا خطر على قلب بشر؟ العبد المؤمن لا تفتّ من عزيمته كثرة الشّهوات، ولا تغريه كثرة الواقعين في المحرّمات.. لأنّه يعلم أنّ عاقبة اتّباع الهوى والانغماس في الشّهوات حسرة وندامة وضيق في الرّزق وسواد في الوجه وذهاب للبركة من العمر والمال، ويعلم أنّ لذّة العفاف ومتعة غضّ البصر وتحصين الفرج، لا تعدلها لذّة أخرى في هذه الدّنيا؛ انشراح في الصّدر ولين في القلب ونور في الوجه وبركة في العمر والرّزق.. الشابّ العفيف صاحب نفس أبية، لا يتعلّل بفساد الواقع وكثرة المغريات، لأنّه يعلم أنّه كلّما كان الوصول إلى الحرام أسهل وأسرع، كان أجر الصّبر عنه أعظم وأكثر. يقول الله تعالى: ((أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ * أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُون))، ويقول سبحانه: ((أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)).. لا والله، لا يجعل الله حياة من أطلق العنان لبصره بالنّظر إلى العورات في الشّوارع وعلى الشّاشات، وأمضى عقودا من عمره يلهث خلف الشّهوات، كحياة من صبر وغضّ البصر ونهى النّفس عن الهوى وعفّ عن الحرام.. ولا والله، لا يجعل الله ممات من اجترح السيئات كممات من عمل الصّالحات. شتّان بين شابّ مؤمن أحاطت به الفتن والمغريات؛ في الثانوية والجامعة وفي مكان العمل، فخرج منها من دون أن يقيم أيّ علاقة محرمة أو يقع في فاحشة آثمة.. هنيئا لهذا الشابّ وأكرم بنفسه في الدنيا وأسعد بها عند الممات! يوم تُختم صحيفته ولم يتلطّخ بفاحشة ولم يكشف ستره ولا ستر امرأة غير زوجته.. ما أعزّ الشابّ العفيف في الدّنيا بأنّه ألجم نفسه وأعزّها ولم يهنها باللّهث خلف شهواتها! وما أسعده يوم القيامة؛ يوم يسأل عن شبابه فيما أبلاه، فيجيب بملء فيه أنّه أبلى شبابه في الصّلاة وتلاوة القرآن وغضّ البصر وتحصين الفرج، وينظر في صحيفته فيجد قناطير مقنطرة من الحسنات كسبها من غضّ بصره وتحصين فرجه وصبره عن الحرام في زمن تتدفّق فيه الشّهوات من كلّ حدب صوب. شتّان بين هذا الشابّ، وبين شابّ آخر، رضخ لنفسه وأطاع شيطانه وركن إلى رفقاء السّوء، وأقام العلاقات مع الزميلات وعبث بالغافلات، وأطلق العنان لبصره بالنّظرات، وضحك ملء شدقيه مع المستهترات، وربّما انجرّ إلى الخلوات، وقارف الموبقات، ثمّ في النّهاية حينما قرّر الزّواج بعد سنوات من العبث والضّياع، استيقظت غيرته فجأة، وبدأ يَعدّ الشّروط التي يريدها في زوجته؛ يريدها محجّبة وعفيفة وحيية، لم تقم علاقة مع أحد قبله، وربّما تسمعه يشكو أنّ الصّالحات لم يعد لهنّ وجود في هذا الزّمان، ويتحسّر أنّه لم يجد الزّوجة المناسبة، وينسى أنّه هو وأمثالَه كانوا من أسباب ضياع كثير من بنات المسلمين. العبد المؤمن يعلم أنّ الصّبر على العفاف وغضّ البصر هو لسنوات معدودة في هذه الدنيا، تمضي سريعا، ليكون الجزاء الأوفى عند الله.. ((وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)).. "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله"، وذكر منهم: "وشابٌ نشأ في عبادة الله، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين"، لذلك فالعبد المؤمن لا يستكثر صبر سنوات معدودات، لأجل نعيم يدوم إلى أبد الآبدين: ((وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا)). نعم.. الزّمان صعب والفتن كثيرة، لكنّ الجنّة تستحقّ المجاهدة والمصابرة.. وجنّة العفاف ليست كلّها مؤجّلة في الآخرة، فمنها ما هو معجّل في الدّنيا؛ سلامة في البدن ونور في القلب وانشراح في الصّدر وعزّة في النّفس ومحبّة في قلوب الخلق، وبركة في المال والوقت والعمر، وظفر بالزّوجة الصّالحة ورزق هنيء من الذرية الصّالحة. لأجل هذا، الزم العفاف أخي الشابّ، ولا تتّبع خطوات الشّيطان، ولا تخضع للإغراءات، ولا تنظر إلى فساد الواقع، بل انظر إلى الزّرع الذي تريد حصاده في الدّنيا والآخرة.. من عفّ عن الحرام أسعده الله بالحلال، وحفظه في نفسه وأهله وأبنائه وبناته مستقبلا، ومن لها وعبث مع بنات النّاس، عوقب بالشّكوك والهواجس وابتلي في أهله وأبنائه وبناته مستقبلا.. أكثر أخي الشّاب من الاستغفار والصّلاة على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ فهما من أعظم مفاتيح الخير والبركة، وأكثر من الدّعاء أن يثبّت الله قدميك ويعصمك من الفتن ويرزقك الهدى والتقى والعفاف والغنى، هذه الكلمات التي كان كثيرا ما يدعو بها الحبيب المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، فيقول: "اللهمّ إنّي أسألك الهدى والتّقَى، والعفاف والغنى" (رواه مسلم).