لقب بأسد جرجرة، وأحد القادة الثوريين الذين انهزمت المخابرات الفرنسية أمام حنكته ودهائه الخارقين، كان ضمن مجموعة الستة المحضرين للثورة وأحد مفجريها وقائد من قادة جبهة التحرير الوطني منذ النشأة، شارك في مؤتمر الصومام ليكون عضوا في لجنة التنسيق والتنفيذ بعده، شارك في اتفاقيات إيفيان كوزير للخارجية وكان ضمن الموقعين عليها، تقلد ثلاث حقائب وزارية بعد الاستقلال، قبل أن يغتال في إحدى فنادق مدينة فرونكفورت الألمانية بتاريخ18 أكتوبر 1970، بطريقة لا تزال تطرح الكثير من التساؤلات وحادثة تتجاهلها السلطات. إنه "كريم بلقاسم" الذي جندت فرنسا ترسانتها العسكرية ومخابراتها، لاختراق حصنه المنيع وإجهاض الثورة التي كان يقودها رفقة رجال لا يختلفون عنه في الذكاء والحنكة، فقاد الولاية التاريخية الثالثة وأشرف بمساعدة كل من "أعمر أوعمران" و"محمدي السعيد" في تأطير المجاهدين وهيكلة الجيش، نجح في المهمة المسندة إليه بشكل جعل المستعمر الفرنسي يركز اهتمامه وخططه على إجهاض الثورة انطلاقا من منطقة القبائل لخطورتها على التواجد الفرنسي بالجزائر، إلا أن الدهاء الذي تميز به "كريم بلقاسم" جعل الولاية التاريخية الثالثة مقبرة لأولى الخطط التي اعتبرتها فرنسا محكمة لإخماد لهيب الثورة وغنيمة كبرى للثوار خلال عملية "الطائر الأزرق" الكبيرة، والتي لا يزال التاريخ يتجاهلها. ولد"كريم بلقاسم" في ال14من شهر ديسمبر 1922 في منطقة أيت يحيى موسى بذراع الميزان جنوب ولاية تيزي وزو، انحدر من عائلة ميسورة الحال، حاولت فرنسا استمالة والده الثري الذي كان تاجرا حينها لتضمنه لصفها، عن طريق إسناد مهمة "القايد" إليه لكنه رفض، التحق بمدرسة "ساروي" بالعاصمة وتحصل على شهادة الدراسة منها، لم تمنعه الحياة الميسورة التي نشأ فيها، من الإحساس بالظلم والقهر والاستعداد للنضال ضد المستعمر، حيث انخرط في سن مبكرة في صفوف حزب الشعب، وأمن منذ البداية بكون العمل المسلح السبيل الوحيد لاستعادة الأرض المغتصبة. مطالب بنفض الغبار على عملية الطائر الأزرق يجمع الباحثون في التاريخ، أن عملية "الطائر الأزرق" من أكبر وأنجح العمليات العسكرية التي روّض بها "كريم بلقاسم" الفرنسيين، وأفشل مخابراتهم، حيث استدرجهم متظاهرا بابتلاعه للطعم، ليجهز في الأخير جيشه والثورة بالسلاح والمال في خطوة انقلب فيها السحر على الساحر، إلا أن هذه العملية لم تذكرها المنظومة التاريخية ولا يتعرف عليها جيل الاستقلال إلا من خلال كتابات المؤرخين ومذكرات المجاهدين، في حين تحتفظ بها فرنسا في أرشفيها، نظرا للهزيمة النكراء التي تلقتها في وقت تباهت فيه باختراقها للثورة بجيش موازي وإجهاضها في سنواتها الأولى. العملية جند لها المستعمر الفرنسي آليته العسكرية وخبرته في إخماد الثورات، حيث أوكلت المهمة لمصالح المخابرات السرية الفرنسية، فتم تعيين "جاك سوستيل" كحاكم عام للجزائر، واستعان هو بالخبير"سيرفيي" الذي اشتغل في الفيتنام، وأراد الاستفادة من تجربته فيها بالجزائر، فقاما بوضع خطة أرادوا بها ضرب الثورة بالثورة، من خلال تجهيز جيش موازي، يستقر ويعمل في إقليم الولاية الثالثة التي كانت حصنا منيعا للثورة التحريرية. انطلقت عملية الطائر الأزرق في منتصف سنة 1955وطيلة سنة 1956، حيث وقع الاختيار على منطقة تكون متشعبة التضاريس، ليسهل توغل الجيش الموازي فيها ويصعب اكتشاف أمره، شريطة أن يكون مكوّنا من أبناء المنطقة، وأطلقت على هذا الجيش تسمية "القوة ك"، مهمة تشكيل هذا الجيش أسندت لأحد العملاء المدعو"حاشيش"، والذي مثل في حقيقة الأمر الحلقة الأساسية في هذه العملية بين المستعمر، وما اعتبره جيشا مواليا له، حيث قدمت فرنسا عرضا مغريا للمنخرطين في هذا الجيش. وكلفت العملية الخزينة الفرنسية ما لا يقل عن 9ملايين فرنك شهريا، وهي قيمة لا يستهان بها حينها، فقام"حاشيش" بعرض الأمر على صاحب مطعم في عزازڤة، وهو المدعو"زيداد أحمد" الذي لم يبد رفضا للطلب، حيث رغب في إيصال المعلومة إلى"كريم بلقاسم" الذي كان على معرفة ببعض مقربيه، فرد عليه "كريم بلقاسم" بالإيجاب شريطة أن يعين هو العناصر المشاركة في هذا الجيش وكان المدعوون "مهلل سعيد"، "عمر تومي"،"مخلوف سعيد" من أبرز وأول المجندين فيها بتوجيه من "كريم بلقاسم" ونجحوا في أداء المهمة رغم خطورتها، فبلغ مع الوقت عدد "القوة ك" إلى 1500جندي، كانوا يمثلون إيقاع المجاهدين في اشتباكات وهمية، مخلفين وراءهم جثثا للحركى، وهي العمليات التي كانوا يتلقون عليها أجرة قدرت ب 300 فرنك، كان 40 فرنكا منها توجه لعائلاتهم و260 فرنك المتبقية لصالح خزينة الثورة استعدادا لانعقاد مؤتمر الصومام في سنة 1956 الذي تقرر من خلاله انضمام هذه القوة إلى جبهة التحرير الوطني، خاصة بعدما تفطن المستعمر لهذه الخدعة، وكان ذلك بعد إمداد الثورة بالمال والسلاح ورجال مدربين على أعلى المستويات. وأرسل "كريم بلقاسم" رسالة للحاكم العام جاء فيها:"ظننتم بأن خلق وتسريب "القوة ك" هو عبارة عن حصان طروادة في كنف المقاومة الجزائرية، أنتم مخدوعون....الذين كنتم تظنونهم خونة للوطن الجزائري، هم في حقيقتهم مناضلون أوفياء لوطنهم، لم ولن يتوقف نضالهم من أجل استقلال بلادهم، وهم ضد الإستعمار، نحن نشكركم على دعمنا بالسلاح الذي نستخدمه لتحرير بلدنا". مطالب بالكشف عن حقيقة التصفية السياسية لكريم بلقاسم تقلد كما ذكرنا القائد الثوري "كريم بلقاسم" ثلاث حقائب وزارية بعد الاستقلال وهي وزارة القوات المسلحة، الشؤون الداخلية والشؤون الخارجية، وعرف بمواقفه الثابتة وأرائه الواضحة، ما جعله في خلاف مع رئيس الجمهورية حينها وابتعد عن الحياة السياسية، ليغادر نهائيا سنة 1965بعد تولي "هواري بومدين" لرئاسة الجمهورية، واتسع شرخ الخلاف مع النظام، ليكون حسب شهادات البعض ضمن القادة الثوريين المغضوب عليهم والمحكوم عليهم بالاعدام، حيث لم يستبعد كونه ضمن الرموز الثورية التي طالتها الاغتيالات السياسية بعد الاستقلال، وهي الحقيقة التي يطالب بها الجميع اليوم احتراما للتاريخ، حيث تحل مناسبة الفاتح نوفمبر لتجدد ضرورة كشف الحقائق التاريخية وحفظها للأمانة والأجيال المقبلة.