منذ البدء ينبغي الاعتراف بأن الربيع العربي لم يكن أكبر أكذوبة و لا أصغرها , و إنما هو واقع مازالت الدول العربية تعيش تبعاته , بعضها بالتعايش معها و البعض الآخر بمحاولة الحد من آثارها و البعض الثالث بالسعي للاستفادة منها بل و توظيفها ضد خصومه ,و لكن ما من دولة عربية عملت على الاعتبار بها و إصلاح أوضاعها بما يحصنها من مثل هذه التجارب المأساوية . فبينما استطاعت تونس التي انطلقت منها شرارة الربيع العربي , في ربح المعارك الأولى للمخاض الديمقراطي , بتنظيم انتخابات برلمانية و رئاسية ضمن مسار انتخابي لقي ترحيبا واسعا من طرف العديد من الدول و المنظمات الدولية على غرار الجزائر ومصر والولايات المتحدة والجامعة العربية والاتحاد الأوروبي. فإن بقية التجارب قد خيبت الآمال لتحولها إلى حروب أهلية , في بعض الدول العربية , رغم أن كل العالم العربي أصابته بحلول سنة 2011 عدوى الاحتجاجات الشعبية التي تشابهت شكلا و اختلفت ظروفا, و كأنها تتبع خططا معدة مسبقا على عجل , كالأكلات السريعة التي تملأ البطن و لا تشبع من جوع . و بالفعل فقد ظهرت دراسات و تقارير موثقة حول صانعي الثورات و شعاراتها المختلفة و تسمياتها الملونة منها أو الوردية و الرقمية , و كشفت مخططيها و مموليها , و اساليبهم في إرشاد الشعوب إلى إسقاط الأنظمة , دون تدريبهم على إعادة بنائها, و كيف تحكم هؤلاء في و يستمر السير في دروب الكارثة العوامل الكابحة لغضب الجماهير , و تلك المؤججة لها . فالعامل الحاسم في إشعال الثورات الدامية , هو أن تلقى هوى لدى مؤججيها من قوى البغي الغربية و أتباعها العربية تمويلا و تحريضا وتسليحا و تجنيدا و تسخيرا للترسانة الإعلامية و الأبواق الدعائية و تحريشا للمنظمات الأممية و الإقليمية و الغير حكومية , ففي غياب هذه العوامل الحاسمة تبقى كل الثورات الغاضبة مجرد احتجاجات سلمية مسالمة . و لا نعتقد أننا في حاجة إلى خبراء في العلوم السياسية و العلاقات الدولية ليرسموا لنا التغيرات التي أفرزتها «ثورات الربيع « في العالم العربي الذي استمرت دماء أبنائه تنزف في أكثر من منطقة عربية و سرى مزيد من التفكك في أوصاله بانضمام دول أخرى إلى قائمة الدول الفاشلة كسورياوالعراق وليبيا واليمن لضعف سلطة مركزية ناجعة قادرة على بسط نفوذها على كامل الأراضي الوطنية . و هو التفكك الذي استغله تنظيم داعش ليملأ الفراغ و يبسط نفوذه بمعية أطياف كثيرة من التشكيلات الإسلاماوية المتطرفة على مناطق واسعة بالعراق و سوريا و ليبيا و تتحول في ظرف وجيز إلى أكبر تهديد إرهابي في التاريخ الحديث للمنطقة قبل أن يتراجع انتشارها هي الأخرى بفعل تحالف حوالي 93 دولة ضدها و تجفيف منابع تمويلها و تسليحها خشية أن ينقلب السحر على الساحر. كما اشتد خلال هذه الثورات الصراع السني الشيعي على امتداد المشرق العربي ووصل إلى اليمن حيث قرر الحوثيون بناء اليمن الجديد على طريقتهم غير أن التحالف العربي كان لهم بالمرصاد ليشقى اليمن و سكانه بمآسي أكثر الحروب عبثية في منطقة الشرق الأوسط . و يبدو أن نبوءة المفكر المصري, الدكتور زكي نجيب محمود, بخصوص المجتمعات العربية قد تحققت , أو هي قيد التجسد . فبالعودة إلى مقال كتبه في سبعينيات القرن الماضي بعنوان « مجتمع جديد..أو الكارثة» و تضمنه كتاب له بنفس العنوان , نجد أن الكارثة بدأت تكرث العالم العربي حتى و صاحب المقال حي يرزق (توفي عام 1993عن عمر ناهز88سنة), حيث عاصر الكاتب نكبة الفلسطينيين عام 1948 ,و ما تلاها من نكبات و نكسات وهزائم في الحروب العربية ضد الكيان الصهيوني , و ما حصدته الحروب الأهلية من أرواح و ما خلفته من خراب في أرجاء الوطن العربي , في السودان منذ استقلاله في 1956 و في لبنان في 1958 ثم 1975, وهو العام لا يمكن للفوضى أن تنجح في جميع الحالات . الذي اندلع خلاله نزاع الصحراء الغربية , و حرب الخليج الأولى بين العراق و إيران ثم الحرب الأهلية في الصومال منذ 1991 و المستمرة إلى اليوم , كما دخلت الجزائر في دوامة العشرية السوداء ابتداء من 1992 , و حرب الخليج الثانية لتحرير الكويت من غزو العراق عام 1991 , و الثالثة لغزو العراق و تحريره من أسلحة الدمار الشامل في 2003 , لتهب بعد ذلك عواصف الثورات و الانتفاضات و الاحتجاجات على كافة دول العالم العربي تحت تسمية الربيع العربي و التي مازالت تصنع المآسي و تفرخ الإرهاب الهمجي حيثما حلت في طول و عرض جغرافية الوطن العربي. و لسنا في حاجة إلى رسم المشهد الأخير لهذه الكارثة , لأنه مستمر بتحالف 10 دول عربية لمواجهة ميليشيا الحوثي اليمنية التي تعد حوالي 10آلاف مقاتل من أصل نصف مليون نسمة ينتمون إلى مذهب الحوثيين في اليمن ؟لكن هناك أكثر من 14 مليون يمنيا يدفعون ثمن الصراع موتا تحت القصف وجوعا بالحصار و مرضا بالأوبئة ,و قلة من اليمنيين يعيشون في الفنادق الفخمة على نفقة مشعلي الحروب . ولا شك أن هذه الكوارث العابرة للأقطار العربية تحتاج إلى جيش من المفكرين من أمثال الدكتور زكي نجيب محمود , للبحث عن مخرج من هذا الوضع المزري بل المخزي الذي يعيشه الوطن العربي , و أقول :«جيشا من المفكرين» , لأن مفكرا واحدا لم يمنع المجتمع العربي من بلوغ قاع الكارثة على كافة الأصعدة , رغم ما بذله طيلة حياته لرسم معالم الفكر الراقي الأصيل الذي « يتعقب ما هو مباشر إلى ما هو أصول له , لعله يقع على جذور العلة في مكامنها ليقتلعها , فإذا المجتمع قد برئ مما هو فيه « كما قال المرحوم زكي نجيب محمود نفسه , الذي لا شك أنه رحل عن هذا العالم و هو يتحسر لأن المجتمع العربي فضل سبيل الكارثة و اتخذ منه خياره الاستراتيجي عوض طريق بناء المجتمع الجديد الذي لطالما أرشد المرحوم العرب إلى عناوينه التي تحصنه من كل أنواع الثورات الهدامة التي تفتقر إلى قيادات رصينة تتمتع بشعبية و قبول لدى الجماهير , و إلى مرجعية فكرية متكاملة و إلى مشروع سياسي و اجتماعي مناسب ...إذ لا يمكن للفوضى أن تنجح في جميع الحالات .