دخل بيته وفي يده خبزا وشمعتين، فاستقبله ولده ذو الثلاث سنوات يتأرجح فرحا بمقدمه، وكلما اقترب الطفل من أبيه وإذا بثقل الابتهاج والسرور يتضاءل، فتحولت الشفتان إلى التدلي والتموج إيذانا بالبكاء، وانكمشت اليدان وبدأت تضرب الحائط... احتار الأب لهذا الانقلاب المفاجئ فصاح منزعجا: ماذا أصابك؟ فأجابت الأم من المطبخ: لقد أوصاك بقطعة من الجبن من الدكان. هل نسيت؟ وتركت ما في يدها وأتت إليه محملة بأثواب كثيفة تزيد من حجمها وحجم رأسها المغطى بقطعة قماش غليظ، فالموسم موسم شتاء، والبرد هو العدو في هذا المكان، فقد حول الناس إلى كائنات ثقيلة، ثقل الثياب وثقل هموم الحياة. قدم لها الخبز والشمعتين وهو يتأفف، لقد رأى في طريقه ملامح الغضب على وجه السماء، فالسحب قد تجمعت وزاد لونها قتامة إيذانا بتحولها إلى ماء أو صقيع وانقطاع الكهرباء والخبز وقارورات الغاز، فأثر استبدال الجبن بالشمعتين خوفا من الظلام، فهو يعرف جيدا أن خيوط الكهرباء قديمة قدم استقلال هذه البلاد. حمل ابنه وقبله قائلا: أعدك بقطعة جبن... هكذا دون تحديد للوقت، فالرجل بناء لا يقبض مالا إلا حين يحفر حفرة أو يبني جدارا، وهو خريج إصلاح المؤسسات وتفكيكها، وقد أخذ نصيبه فاشتراه مسكنا باليا أوى إليه كما يأوي الحيوان إلى غاره... زادت قبضة البرد على البيت كله، فسارعت الأم إلى إحكام غلق الباب والنافذة لعلها تصد هذا الزائر المزعج، وكأن سحب السماء كلها قد تجمعت فوق القرية وزاد البرد من سياطه على وجوه الراجلين وأيديهم، فما بقي من يخرج يدا أو يظهر أنفا، وترى الناس في الطريق مندسون داخل الثياب والجلابيب كالقنافذ، وأفرغت السماء ما بها بياضا، واختفت جميع الألوان من القرية وكشفت عن عوراتها. قدم الليل ليزيل بياض القرية، ويزيدها سكونا على سكونها في النهار، وأشعل قادة الشمعة الأولى فانقشع في ذهنه ذكرى أبيه المجاهد، فقد حكى له مآثر الثورة والثوار، وأوصاه بالوطن خيرا، ونهاه عن القول : " هذي مشي بلاد " فقد كان يقولها تحت وطأة الأزمة وشُحّ الأيام ، سماه أبوه عبد القادر وتشقق الاسم إلى قادة تحت ضربات الزمان وحصار المكان.