يصعد الطابق الأول لابسا مئزرا أبيض يشع منه عنوان شخصيته وعلامة مهنته، وهو يحمل محفظة ثقيلة بيد نحيفة واليد الأخرى تحمل علبة طباشير، يبدو عليه الانضباط حين يمشي في خط كأنه مرسوم إذ يخترق أمواج التلاميذ في الرواق بكبرياء. الوجه شاحب والعينان بعيدتان وراء زجاجات نظارات مزعجة، تزيد من قلقه وهي تنزلق على أنفه، يحاول أن يعيدها إلى مكانها الطبيعي،ولكن دون جدوى، يفعل هذا أكثر من مرة قبل الوصول إلى قاعة الدرس. النظارات كالتلاميذ ترفض الانصياع لأمره، ومع ذلك فإنه يحشد كل ما لديه من أدوات منهجية وطرق بيداغوجية لضبط التلاميذ والتخفيف من شقاوتهم وضجيحهم، المهم أن تمر الحصة بسلام، فجيل الألفية الثالثة مختلف كلية عن نظيره في السبعينات أو الثمانينات، مظاهر العولمة والانفجار المعرفي الهائل والتطور المثير في وسائل التواصل أنتج تلميذ مختلف ومتمرد على السائد، وخبرة التمرد وتجربة إثبات الشخصية يدفع ثمنها الأستاذ في حجرة درسه. قرأ يوما لأحد البيداغوجيين الأجانب أن التلميذ كالماء في الخرطوم إذا وجد ثقب أو فجوة خرج منهL'élève est comme l'eau dans un tuyau. ومنذ ذلك الوقت استجمع كل قواه لكي لا يترك الضوء يمر بزيادة منسوب الصرامة والحرص على جعل لغة التواصل داخل الحصة هي لغة المادة فقط، ولا وجود لأي كلمة أو عبارة خارجة تلك الدائرة، حتى غابت الابتسامة في وجوه الأولاد والبنات ووصفوا معلمهم بمختلف الأوصاف أقلها أنه شخص معقد، فقد خاطبهم يوما قائلا: أنا ربُّ القسم، لا تغيب عني شاردة ولا واردة، ولا تخرج معلومة ولا تستوي ولا تُدوّن إلا بإذني..". وصل إلى باب القاعة وفي ذهنه صور بعض التلاميذ المشاغبين وقد شغلوا تفكيره حتى في بيته، لاحظت زوجته ذلك في توتره الزائد مع أولاده لأبسط الأسباب.غالبا ما كان يشعر بالتوتر وبالانهزام النفسي وهو في الطريق قبل مباشرة عمله، وهذا ما كان يؤرقه كثيرا، فالطاقة تستنفذ قبل الاستعمال، وهي قضية يفقهها جيدا وهو أستاذ الفيزياء،وهذا ما زاد الطينة بلة، التفكير العلمي الدقيق والبحث عن التوازن في كل شيء، المستقر منه والقلق.. الاضطراب يغزو الفكر والشعور في نفس الوقت، وهو يخشى أن ينسحب ذلك إلى السلوك وينكشف أمره ويسقط منه قناع الانضباط والوقار.. دخل مُسلما ووضع المحفظة على مكتب مملوء بغبار الطباشير وأخرج وثائقه ووقف متفقدا بعينيه الحضور صامتا بضع دقائق، وجه نظراته إلى كل التلاميذ متفحصا ومتظاهرا بسيطرته على الوضع، وبذلك ينقل الارتباك والتوجس إلى الآخرين وتسمح له بالانغماس في الدرس.. كتب التاريخ على السبورة، ثم العنوان: التحولات النووية... لست أدري ما سبب هجومه على أرسطو، كان يوجه له وابل من الانتقادات، في حديثه عن الاستدلال العلمي، قال الأستاذ أن صاحب المنطق كما سماه الجاحظ في حيوانه تحدث عن أجزاء جسم الإنسان بالتفصيل وأخطأ في تقديم عدد الأسنان وهو لم يصرف بضع دقائق من وقته لفتح فم زوجته ليجد النتيجة.. مؤسس المنطق كان ينقصه المنطق التجريبي.. تعرفت على مدرس مادة الفيزياء لأول مرة في السنة الأولى ثانوي وكانت أول حصة حول أسس الميكانيك، تطرقنا لدراسة وتحليل نص لألبير أينشتاين يتحدث فيه عن تطور فكرة حركة الأجسام وعلاقتها بالقوة والسرعة.. وأتذكر استنكار الأستاذ وتعجبه من سيطرة عقل أرسطو على العقل الغربي لقرون عديدة وكيف لتصور خاطئ ومعلومة فاسدة أن تعمر طويلا هكذا.." إن الجسم المتحرك يتوقف عندما تتوقف القوة المؤثرة عليه عن دفعه..". سقطت هذه الخرافة على يد " غاليليو غاليلي " عن طريق التجربة والاستدلال العلمي والتأسيس لمبدأ العطالة.. ليس هذا فحسب فقد شاءت الأقدار أن ألتقي بأستاذي في السنة النهائية، وكان الموعد مع درس طالما أثار الصخب بين أصدقائي في حواراتنا حيث أضفيت عليه هالة من الغموض.. كان التمهيد كالعادة وهو دأب الأستاذ وطريقته المملة ونحن في عجلة من أمرنا للمرور إلى الصّح.. أمامنا امتحان بكالوريا وما أدراك. عرض لتاريخ الذرة من " رذفورد" إلى " نيلز بور "، وصولا إلى شرودينجر، ثم انتقل إلى التعريف بالتحولات النووية وقال أنها تختلف عن التفاعلات الكيميائية المعروفة والتي تحافظ على وجود العنصر الكيميائي من المتفاعلات إلى النواتج، أما التفاعلات النووية فتخرق هذه القاعدة، نبدأ بعنصر وننتهي بعنصر مختلف تماما.. يكون عبد القادر ثم يتحول إلى محمد في النهاية. وأردف : وهذا مخالف لمبدأ الهوية لدى أرسطو، لذلك أجبر التطور العلمي الفلاسفة إلى إعادة النظر في قوانين المنطق الأرسطي.. وهنا نفذ صبري ورفعت يدي طالبا الكلمة وقلت متحديا: «..أستاذ! واش بينك وبين أرسطو؟».