مع استمرار ضخ مئات مليارات الدولارات في شركات التكنولوجيا الكبرى التي تقود تطوير الذكاء الاصطناعي بدأ الاقتصاديون والمحللون يتحدثون عن سيناريوهات تأثير تطور هذه التكنولوجيا في الاقتصاد العالمي ككل.وإذا صحت توقعات مطوري الذكاء الاصطناعي فإن الاقتصاد العالمي لن يشهد "تغييراً" وإنما ربما "انفجار" في غضون أعوام قليلة. "على رغم أن معظم التحليلات والدراسات التي تضع سيناريوهات لتوقع ما يمكن أن يحدث تأخذ في الاعتبار كل المشكلات المحيطة بتطور الذكاء الاصطناعي، فإن هناك شبه إجماع على أن البشرية على أعتاب تغير جذري في غضون أعوام"، هذا ما خلص إليه ملف كامل وموسع نشرته مجلة "إيكونوميست" في عددها الأخير. لا تقتصر المشكلات المتوقعة على الجانب الأخلاقي أو معايير السلامة أو احتمالات الخطأ البشري أو التقني ولا حتى على التغييرات الاجتماعية الجذرية مثل أن تحل برامج الكمبيوتر محل البشر، وإنما أيضاً على الأخطار الاقتصادية المتعلقة بالنمو الهائل، وما سيصحبه من ارتفاع أسعار الفائدة باستمرار وتراجع الدخول والأجور، حتى دور الدولة والحكومات في ظل عالم يهيمن عليه الذكاء الاصطناعي سيشهد تغييراً أقرب إلى الانفجار أيضاً. صحيح، أن ملف المجلة يركز على التسارع الهائل في النمو الاقتصادي العالمي ما إن يتطور الذكاء الاصطناعي إلى الحد الذي يمكنه فيه أن "يطور نفسه ذاتياً"، وهو ما يوصف بالانفجار أي النمو بنسب غير مسبوقة وغير متوقعة وفي فترات قصيرة جداً مقارنة بالسابق، إلا أن الملف يغطي أيضاً الجوانب الأخرى المتعلقة بصناعة الذكاء الاصطناعي بقدر ما أيضاً. ..ما حجم النمو؟ منذ بدأت طفرة الاستثمارات في الذكاء الاصطناعي قبل نحو 10 أعوام، يخطط القائمون على الصناعة لأن يصبح الذكاء الاصطناعي متفوقاً على الذكاء البشري في غضون أعوام بالوصول إلى ما يسمونه "الذكاء السوبر". وقد تكون البشرية بالفعل على عتبة هذا التطور الهائل قريباً، ففي الأولمبياد العالمية للرياضيات هذا العام وصلت نماذج اللغة من "أوبن أي آي" و"غوغل ديب مايند" إلى مستوى الحصول على ميداليات ذهبية، وذلك في وقت أسرع بنحو 18 عاماً عن توقعات المتخصصين عام 2021. وبحلول عام 2027 ستكون تلك الصناعة طورت نماذج تستخدم طاقة موارد كمبيوترية أعلى ألف مرة عن تلك التي استخدمت في "جي بي تي-4" الذي يعد أساساً لأغلب تطبيقات الذكاء الاصطناعي الشائعة حالياً. ويحتدم التنافس بين الولاياتالمتحدة والصين في تطوير الذكاء الاصطناعي وفقاً لقاعدة أن "من يفز يكن كل شيء من نصيبه"، وخشية أن تخسر أميركا هذا التنافس كانت قرارات الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترمب الأخيرة المتعلقة بتركيز الحكومة في واشنطن على هذا القطاع. وعند مطلع القرن ال18 في عام 1700 تحديداً، كان الاقتصاد العالمي ينمو بمعدل ثمانية في المئة كل قرن (100 عام)، وقبل ذلك على مدى 17 قرناً لم يكن يحقق الاقتصاد العالمي أي نمو يذكر تقريباً، بل كان شبه ثابت بمعدل توسع سنوي لا يتجاوز نسبة 0.1 في المئة، أي إن الاقتصاد العالمي كان في حاجة إلى مدة 1000 عام كي يتضاعف حجمه. أما في الفترة من 1700 إلى 1820 تضاعف معدل نمو الاقتصاد العالمي خمس مرات، ليصبح عند 0.5 في المئة سنوياً في المتوسط، وبنهاية القرن ال19 وصلت نسبة نمو الاقتصادي العالمي في المتوسط إلى 1.9 في المئة سنوياً، قبل أن تتسارع نسبة النمو في القرن ال20 إلى 2.8 في المئة سنوياً، أي إن الاقتصاد العالمي أصبح يتضاعف في غضون 25 عاماً. ..ما دور الذكاء الاصطناعي في النمو الاقتصادي؟ أصبحت سرعة نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي أمراً عادياً على مدى القرون الثلاثة الأخيرة، منذ بدأت الثورة الصناعية، وفي المتوسط أصبح معدل النمو الاقتصادي العالمي عند 325 في المئة كل 100 عام، مما أدى إلى ارتفاع معدلات الخصوبة (التكاثر) وانخفاض معدلات الوفيات، ومع زيادة عدد السكان تزيد الأفكار والابتكارات ويتسارع النمو الاقتصادي أكثر. ومع أن زيادة الثروة جعلت الأغنياء يفكرون في إنجاب عدد أقل، إلا أن ذلك رفع مستويات المعيشة التي أصبحت تتحسن سنوياً بمعدل اثنين في المئة تقريباً في المتوسط. في النهاية كان تسارع النمو الاقتصادي يعتمد على إضافة مهارات ومواهب بشرية جديدة تزيد مع نمو السكان، لكن الذكاء الاصطناعي ليس مقيداً بتلك العوامل الديموغرافية، لذا فسرعة الاكتشافات ستزيد بوتيرة أعلى مما شهدته البشرية من قبل، إذ يتوقع بحلول عام 2028 أن تبدأ برامج الذكاء الاصطناعي بتطوير نفسها بنفسها من دون حاجة إلى البشر. ما إن يحدث ذلك، وتتطور قدرات الكمبيوتر ذاتياً من دون حاجة إلى مهارات وابتكارات البشر ستزيد سرعة النمو الاقتصادي بصورة غير مسبوقة، ومع إعادة استثمار العائدات من ذلك التطور التكنولوجي في بناء أنظمة كمبيوترية أكبر وأكثر تطوراً سيزيد معدل تراكم الثروة بصورة هائلة. وبحسب دراسة لشركة الاستشارات "ايبوك أي آي" فإنه بمجرد أن يصل الذكاء الاصطناعي إلى القيام بنسبة 30 في المئة من مهمات البشر سيزيد معدل نمو الاقتصاد العالمي سنوياً على نسبة 20 في المئة. ومع تلك الزيادة في النمو ستزيد وتيرة رفع أسعار الفائدة بسبب ارتفاع العائدات بصورة هائلة، وقد يتحول الصراع بين الذكاء الاصطناعي والبشر على أمرين أساسيين، هما الطاقة والأرض ومواردها، وهنا سيصبح دور الحكومات أكثر تعقيداً، ولن تكون التشريعات كافية لضبط مسيرة النمو. وسيصبح كل منتج يقوم به الذكاء الاصطناعي أقل كلفة مع تطور برامجه والتوسع في استخدامه، وهكذا ستنهار أسعار كثيرة، لكن في المقابل سترتفع أسعار أخرى بصورة كبيرة، فعلى سبيل المثال مع ارتفاع أسعار الفائدة لن يكون سهلاً الحصول على قروض رهن عقاري. نتيجة أخرى مهمة تخلص إليها تحليلات ملف "إيكونوميست" وهي تراجع الادخار، أو حتى انعدامه تقريباً، فمن يدخر هو من لديه مال يفيض عن الحاجة، أو يقتطع من حاجة اليوم لتلبية حاجة الغد، لكن الانفجار الاقتصادي نتيجة تطور الذكاء الاصطناعي سيعني أن مصدر الثروة الأهم هو الاستثمار في الذكاء الاصطناعي، ومع العائدات الكبيرة لن تكون هناك حاجة إلى الادخار. ..تغيرات وأخطار بالنسبة إلى منطق أن الفائز في سباق الذكاء الاصطناعي هو من يفوز بكل شيء، فإن ذلك سيعني أن الدول التي تتخلف عن ركب هذا التطور التكنولوجي ستزيد معاناتها بصورة رهيبة، ليس فقط لأنها ستكون محرومة من تراكم الثروة وضعف معدلات النمو، ولكنها لن تستطيع تلبية حاجات شعوبها بسهولة. ومن النتائج المهمة أيضاً أن الأجور يمكن أن تنهار بسرعة، فمع توفر أيدي عاملة بمعدلات غير مسبوقة نتيجة تسريح العمالة التي يحل محلها الذكاء الاصطناعي لن يكون هناك تنافس على التوظيف، كذلك فإن تلك الأعمال التي لا يؤديها الذكاء الاصطناعي ستتوفر لها عمالة أكثر مما تحتاج مما يعني عدم الحاجة إلى زيادة الأجور والمرتبات. حتى لو لم ينفجر الاقتصاد العالمي، بمعنى النمو بمعدلات هائلة في فترات قصيرة، فإن شكل الاقتصاد سيتغير تماماً مع تطور الذكاء الاصطناعي، إذ ستصبح الثروة الأكبر والأهم لدى من يستثمرون في الذكاء الاصطناعي، وليس لدى من يعملون في بقية القطاعات، وسيكون من يملك المال للإسهام في هذا القطاع الجديد، أو الأرض والطاقة التي يحتاج إليها، وحدهم من يستفيدون، وسيزيد ذلك من فجوة توزيع الثروة عالمياً. ناهيك طبعاً بالأخطار الأخرى المتوقعة، من قبيل قدرة إرهابيين يستخدمون الذكاء الاصطناعي على تطوير سلاح بيولوجي يقضي على ملايين من سكان الأرض، أو حدوث أخطاء في برامج الذكاء الاصطناعي تؤدي إلى خروجها عن سياقها وتدمير البشرية. صحيح، أن ذلك كان ضرباً من الخيال العلمي قبل أعوام كما شاهدنا في أفلام هوليوود، لكنه أصبح أمراً ممكناً جداً في غضون أعوام قليلة. في الأخير، قد تحدث الأخطار ليس نتيجة خطأ بشري غير مقصود أو متعمد ولا نتيجة خطأ الآلة وبرنامج الكمبيوتر أو أخطاء المبرمجين الذين يكتبون برامج الذكاء الاصطناعي، بل يمكن أن تحدث الكارثة نتيجة خطأ أكبر لا يتحمله أي طرف، فعلى سبيل المثال أن يطور الذكاء الاصطناعي برامجه بطريقة تقضي على بعض موارد الكوكب من طاقة أو مياه مسبباً كارثة بيئية ماحقة. أندبندنت عربية