يتساءل النّاسُ: أين ذهب الإنسانُ الجزائري، "الفحلُ"، المتسامحُ، الشَّهْمُ، الايجابيُّ، ولماذا بدأ يحلّ محلّه، المتخاذِل السلبيُّ والعنيفُ والانتهازيّ؟ والجواب يكمن في أننا يمكن أن نقتل كل الأشياء الجميلة في الانسان، إذا تركناه عُرضةً للعُنْف المادي والمعنوي، من المهد إلى اللحد، كما يلي: عنف العائلة التي كثيرا ما تحاول أن تُقَوْلِبَ الفردَ حتى لا يتميّز عن باقي أفرادها بشيء، ليتشابه الجميعُ كتشابه رؤوس البقر، وعنف الآباء الذين يطلبون من أولادهم أن يكونوا نسخة طبق الأصل منهم، ولا يعترفون لهم أنّهم خُلِقوا لجيل غير جيلهم، وأنّهم من حقهم أن يختلفوا عنهم في الأذواق والأفكار.. وعنف المدرسة التي لا تغرس في المتعلِّم قوّةَ الشخصيّة والقدرةَ على النّقد والتميّز، وتقدّم له الدروس عن طريق التّلقين والحشو، فلا يكون أكثر من وعاءٍ يُملأ، وليس عقلاً يُدرَّبُ على حرّيّة المبادرة والتفكير.. عنف الخطاب الدينيّ غير المُؤَطَّر، عن طريق تغييب روح العقلانيّة، وتضخيم الجوانب الانفعاليّة عند الجماهير، في كثير من الأحيان، ومن خلال التركيز على إثارة المشاعر والتّهييج العاطفي، وتقسيم المجتمع تبعا للاختلافات المذهبيّة والفكريّة، وتغييب ثقافة الاختلاف والحوار، التي قد تصل في بعض الأحيان إلى التراشق بتهم الانحلال أو الفسق، أو حتى الكفر والخروج عن الملّة!.. عنف الإعلام عن طريق التّلاعب بالرأي والاستخفاف بعقول المشاهدين وإجبار الناس على مشاهدة التّفاهات، ومنعهم من حقّهم في المعلومة والخبر الصادق في حينه.. عنف المثقّفين الذين لا يفارق بعضُهم الأبراجَ العاجيّة، ويتعالون على الشّعب معتبرين إياه قطعانا من الدّهماء، يكتبون له أفكارا ليست من اهتماماته، ولا تَخدِمُ واقعَه، ولا علاقة لها بتاريخه أو هويته، ثمّ يجبرونه على التفاعل معها حتى لا يتّهم بالتخلّف ومعاداة المثقّفين!.. عنف الأعلى رتبةً، والتراتبيّة العلميّة والثقافيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، حيث هناك طبقاتٌ صنعتْ لأنفسها أسماء، بعضُها بالحق وبعضُها بالباطل، ثم تريد أن تسحب من ورائها السُّلَّم على كلّ من يريد أن ينافسها الصعود، فلا تُتِيحُهُ إلا لمن يقدّم كلّ ضمانات الاتّباعيّة والولاء.. عنف الايديولوجيّات التي لا تسمح للإنسان غير المنتمي بالعيش الهادئ، فلا مجال للحياد والوسطيّة، إذ لا بدّ أن يحمل كلُّ فردٍ رايةَ قَبِيلةٍ ايديولوجيّةٍ ما، إذا لم تكن قوميّا عروبيّا، مثلاً، فأنت بربريست متطرّف، أو فرانكوفيلي متعصِّب، وإذا لم تكن حداثيّاً علمانيّا متطرِّفاً، فأنت إسلامويّ متطرّف بالضرورة!.. عنف الإدارة والبيروقراطيّة المتعسِّفة، والأجهزة السيّاسية المهترئة التي لا تنظر للفرد إلا باعتباره صوتاً انتخابياً.. عنف الجشع والابتزاز من أصحاب رؤوس الأموال، ومن قبل التّجار وعنف الاشهار والتّلاعب بالأذواق، وعنف أصحاب الحِرَف الذين يقدم لك أَحدُهم خِدْمةً رديئة جدا بثَمن باهض جدا، ثمّ يُنهي لك العمل الذي يتطلَّبُ يومين في مدّة شهر كاملٍ.. عنف العادات والتّقاليد والقيم والأعراف التي تُثْقِلُ كاهل الفرد في المناسبات المختلفة، وعنف الفراغ القاتل والبطالة.. عنف المحيط والشارع، حيث لا تستطيع أن تسير أنت وعائلتك بسلام، دون أن تسمع كلاما بذيئا أو يلحق بك الأذى.. دون أن ننسى عنف الملاعب. هل بعد كلّ هذا العنف المترامي الأطراف يمكن أن نبحث عن إنسان سويّ؟!..