انطلاق فعاليات الطبعة ال17 للمهرجان الثقافي الوطني للأهليل بتيميمون    سمير قايد يبرز دور وسائل الإعلام    وزير الصناعة يلتقي سفير قطر    19 ألف مشروع مصرّح به بقيمة 61 مليار دولار    مجلس المنافسة عالج 14 قضية    حلب تشتعل مجدّداً    الخضر يستهدفون دخول كأس إفريقيا بقوة    مستعدون لتقديم كل ما لدينا من أجل الفوز    ضبط أزيد من قنطار من الكيف    والي البليدة يتفقد مشاريع هامّة ببلدية مفتاح    جامعيون يقتحمون مجال الحرف    تثمين دور الجزائر في مجال الحماية الاجتماعية    بوغالي يترأس اجتماعا    محرز الأعلى أجراً    تمديد آجال الترشح لجائزة الرئيس    "دليل على أن صوت الطفل رقم أساسي في معادلة البناء الوطني"    قوات الاحتلال الصهيوني تعتقل 22 فلسطينيا    انهيار جزء من مسجد سيدي محمد الشريف بالقصبة    الذهب يرتفع إلى مستوى قياسي    غلق العديد من الطرقات بوسط البلاد    إطلاق منصة الإلكترونية "مرافقة" توفر خدمات شاملة    أم البواقي : شخص يلفظ أنفاسه بمستشفى عين مليلة    إطلاق بوابة رقمية لإدارة مختلف التظاهرات والفعاليات الشبابية    الوزير الأول، غريب، يترأس، اجتماعا للحكومة    وفد وزاري هام بولاية بشار تنفيذا لتعليمات رئيس الجمهورية    "الخضر" للدخول بقوة وطرد النحس    التنظيم الإقليمي الجديد.. الوجه الآخر لتقريب الإدارة من المواطن    تفكيك شبكة إجرامية وحجز نصف مليون قرص مهلوس    إنشاء نظام رقمي وطني فعّال وآمن ومتماسك    خدمات ومنتجات جديدة للجالية الجزائرية بالخارج    التحوّل الرقمي يؤكّد الرؤية الصائبة للجزائر الجديدة    توحيد المواقف والأصوات على المستوى الإفريقي    "جيبلي" ينتج 4 ملايين لتر من الحليب المبستر يوميا    اليمن: الاتفاق على تبادل نحو 3 آلاف أسير بينهم سعوديون وسودانيون    بتحريف مضمون قرار مجلس الأمن 2797..الاحتلال المغربي يحاول تضليل الدول الأعضاء في الأمم المتحدة    الرابطة الأولى موبيليس : الكشف عن برنامج الجولة ال14    تغلب ضيفه مستقبل الرويسات بثنائية نظيفة..اتحاد العاصمة يرتقي إلى الوصافة    حماس تعتبر تصريحات كاتس "خرق كبير" لاتفاق وقف إطلاق النار..قصف جوي ومدفعي على أنحاء متفرقة من قطاع غزة    بن دودة تفتتح المهرجان الوطني للمسرح المحترف وتؤكد:"المسرح رسالة ومسؤولية وطنية قبل أن يكون فرجة ممتعة"    انهيار جزء من مئذنة مسجد سيدي محمد الشريف بالقصبة دون تسجيل خسائر بشرية    حروب إسرائيل غير المنتهية    مئات الصهاينة يستبيحون الأقصى    صحيح البخاري بجامع الجزائر    فيلم الأمير عبد القادر أفضل ترويج للجزائر سينمائيًا    التقوى وحسن الخلق بينهما رباط وثيق    الرئيس تبون قدّم لي توجيهات سامية لترقية الأمازيغية بكل متغيراتها    الجزائر ماضية في ترسيخ المرجعية الدينية الوطنية    اتفاقيات لتصنيع أدوية لفائدة شركات إفريقية قريبا    التكفل بمخلفات المستحقات المالية للصيادلة الخواص المتعاقدين    الجزائر مستعدة لتصدير منتجاتها الصيدلانية لكازاخستان    الرائد في مهمة التدارك    بلايلي يتمنى تتويج الجزائر بكأس إفريقيا 2025    صحيح البخاري بمساجد الجزائر    صناعة صيدلانية: تسهيلات جديدة للمتعاملين    عهدة الجزائر بمجلس الأمن.. أداء ومكاسب ترفع الرأس    غرة رجب 1447ه هذا الأحد والشروع في قراءة صحيح البخاري بالمساجد ابتداءً من الاثنين    "عش رجبا تر عجبا".. فضل رجب وأهميته في الإسلام    انطلاق المرحلة الثانية للأيام الوطنية للتلقيح ضد شلل الأطفال    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بين الرواية والنقد
نشر في الخبر يوم 12 - 12 - 2014

الملاحظ في النقاش الدائر بين الروائي والناقد، وجود حلقة غائبة، أوّلا يبدو في جوهره أنه معركة مراكز، فكل طرف يريد أن يسحب المركز إليه، ويُموقع الآخر في حلقة أخرى، تقع في أطراف المركز، أو يقصيه منها.
كيف يمكن أن نفسّر هذه الظاهرة؟ هي في نظري شكل من أشكال التعامي المقصود أو الغباء الذي تمّ تنميته منذ عقود في بيئتنا الثقافية، وأقصد هنا التعامي عن “المشترك”.
لعبة المركز هي رهان خطير، تحرّكها نوازع الظفر بسلطة متعالية، المركز لا ينتج إلا وعيا متعاليا، وذواتا تعاني من فوبيا الآخر. بهذا المعنى، فإنّ المركز يمثل جاذبية استقطاب وتجاذب، لكنه أيضا في بيئتنا الثقافية هو أفق ضيق لا يتسع للجميع أو لنقل لا يتسع لاثنين، وفي ذلك تمثيل لضيق أفق الوعي لدى طرفي الصراع، قبل أن يكون ضيقا في معناه المجالي.
المشكلة أن منطق الصراع لا يقوم على مبدأ جدلي منتج، بل هو محض تنافر يفضي إلى تمزقات أكثر، بل ندرك كيف تتحول فكرة الصراع والتقاتل والتناحر إلى قيمة ثقافية بذاتها، أي إلى فعل شرعي من منظور الفاعل الثقافي. إذن، المشكلة تكمن في زاوية فهمنا للصراع، أي في تبدّل صيغة فهم أبعاد الصراع، فهو في فهمنا الجمعي يعني التناحر، تناحر إرادات يدفعها النبذ إلى ارتكاب كل الحماقات الثقافية الممكنة. كان يمكن أن يتحوّل الصراع إلى سيرورة للإنتاج، وللتشييد، والحفر، والبحث في الصيغ الجديدة لمقارعة شيخوختنا الثقافية.
العلّة هنا، أنّه لا أحد يملك إرادة التفكير في المشترك، أي في الذهاب إلى ذلك المكان الذي يمكن أن يستوعب كل اختلافاتنا وتنافراتنا، ويهذّبها بتعبير المفكر طه عبد الرحمان. ما يمثّل حالة ارتيابية في هذا الصراع بين الروائي والناقد هو بالذات عدم اتضاح تصور الطرفين لمفهوم التعايش، أي تعايش الفن والنقد.
لا أحد ينكر أن الرواية أو النقد شكلان من أشكال التعبير عن الحالة الإنسانية، والتنافر الحاصل بينهما ليس وليد طبع فيهما بل هو صراع ذوات. الأصل في الحكاية نجدها في مكان آخر أي بين الروائي والناقد، وليس بين الرواية والنقد.
نشأت الرواية في عصر وُصف بأنه عصر النقد، وبذلك لا نتصوّر أن تنشأ بينهما العداوة التي يشرعن لها البعض. لقد انبثقت الرواية من داخل واقع متحوّل، كانت كل الظروف مهيأة في المجتمع الأوروبي لكي تمهّد لظهور هذا الفن، لاسيما تحرير العقل من ماضيه اللاهوتي، وتحرير أسئلة الإنسان معه. فالرواية سليلة عالم انتفت فيه المقدسات، لتستبدل بوجود مشروط دنيويا بوعي الإنسان بالتاريخ.
القراءة.. أو الهوية المنسية للرواية والنقد
ثمة تجارب مثيرة عن كتّاب رواية نطقوا نقدا، ولم يكتفوا بكتابة الرواية بل الكتابة عن الرواية، ستبدو وأنت تقرأ كتاباتهم أنّ الكتابة عندهم هي مجرد ممارسة مؤقتة، وأنّ الأصل هو “القراءة”، قراءة روايات، قراءة كتب الفكر والفلسفة والتاريخ، فتدرك أنّ الرواية– أي رواية– هي منظومة متكاملة من القراءات.
في غمرة الصراع الاصطناعي بين الروائي والناقد، ينسى الطرفان بأنّ ثمة منطقة مشتركة بينهما وهي منطقة “القراءة”، وهي منطقة حساسة، بقدر ما هي أيضا شكل يعلن عن هويته الفنية (فن القراءة/ الذوق/ الحدس الفني) وعن علميته (علم القراءة/ مناهج القراءة)، في غمرة كلّ هذا، تقذف القراءة بعيدا، كأنّها جسد غريب، يقع في مكان لا يطاله البصر. في حين إنّه لا الروائي ولا الناقد يمكن أن يتحددا ككينونتين ثم كوظيفتين إلاّ بالعودة إلى الكينونة المشتركة بينهما والتي هي (القراءة).
يساعد النقد الرواية على التفكير حول ذاتها، والوعي بمسارها وبأدواتها، وبتطوراتها؛ هي في آخر المطاف في حاجة إلى الآخر الذي هو النقد لترى بوضوح ماذا كانت وما هي عليه، بل إن وظيفة النقد هي أيضا التمهيد للرواية الممكنة القادمة من زمنية أخرى.
ولذا فإنّ في الرواية الكثير من ملامح النقد، بل هي نقد للعالم وللإنسان وللثقافة وللفن، بعد أن تخضع كل هذا إلى شكل فني وجمالي، وإلاّ لكانت مجرد إنشاءات تعبر على السطوح.
الرواية من الداخل..أي لما تكون الرواية موضوعا لنفسها
طريق الرواية إلى ذاتها يكون وفق مسلكين: المسلك الأوّل هو أن يكون الحديث عن الرواية ضمن أسئلة السرد التخييلي فيها، أي كخطاب واصف داخل الرواية، كأن يتحدث السارد أو شخصية من شخصيات الرواية عن فن الرواية، أو عن تاريخها أو عن بعض خصائصها، ويكون ذلك من داخل الرواية. يمكن أن نستدلّ ببعض الأمثلة، مثل رواية (لو أنّ مسافرا في ليلة شتاء) للروائي الايطالي (ايتالو كالفينو)، وفي الأدب الجزائري نذكر رواية ذاكرة الجسد لأحلام مستغانمي ورواية (هذيان نواقيس القيامة) لمحمد جعفر. في هذه الرواية نجد إشارات قوية إلى فلسفة الروائي وتصوره لفن الرواية، ولمفهوم الكتابة ووظيفتها.
فالرواية ليست فقط إبداعا تخييليا لعوالم ممكنة، تطرح من خلالها نظرتها إلى العالم وإلى الإنسان، بل هي أيضا خطاب تأمّلي ونظري حول الرواية، أو ما درج منظّرو السرديات الحديثة تسميته بالخطاب الواصف أو الشارح؛ إذ ثمة مصطلح يمسك بجوهر هذه العلاقة بين الرواية ونفسها هو مصطلح (Meta littérature) والمقصود منه كل الكتابات التي يفصح فيها المؤلف عن مخططاته ومشاريعه وكل انشغالاته المتعلقة بالكتاب الذي سيقوم بكتابته. إنّ الرواية تجعل نفسها موضوعا للحكي، فبذلك تربط نفسها بعلاقة تعليق أو تفسير أو نقد أو مساءلة، كنوع من العودة إلى النفس، ولهذا تسمي (ليندا هتشون) هذا النوع من السرد بالسرد النرجسي الذي يقوم على قصة القصة وعلى رواية الرواية.
ويمكن أن نذكر نماذج لروايات عربية مثّلت هذا التيار الروائي، مثل “عالم بلا خرائط” لجبرا إبراهيم جبرا و«شرق المتوسط” لعبد الرحمان منيف و«لعبة النسيان” لمحمد برّادة و«قصة حب مجوسية” لعبد الرحمان منيف و«فوضى الحواس” و«عابر سرير” لأحلام مستغانمي وسفيان زدادقة في “كواليس القداسة”.
تكشف هذه الروايات انتباه الرواية إلى ذاتها، أي إلى أدواتها وتكويناتها ومنجزاتها من خلال المساءلة والنقاش، حيث تدخل في حوار ذاتي لتتحول إلى موضوع لذاتها المتأملة، بغرض محاسبة الذات، أو لأجل وضع وعي الروائي موضع مساءلة.
كما أنّها تطرح تصورات عن مفهوم الكتابة والقراءة كما فهِمها الروائيون أنفسهم، والاحتفاء بالقارئ الذي نجده مثلا في رواية كالفينو بمثابة بطل الرواية الحقيقي، لأنّ القارئ يكون محرّك العملية السردية، وجزءا من بنائها التخييلي والجمالي، له دور لا يقل أهمية عن دور السارد أو أي شخصية في الرواية، فتخلق طقوسا خاصة للقراءة داخل العمل الروائي، وهناك من يطلق على هذا النوع برواية الأريكة.
أما المسلك الثاني هو أن يتقمص الروائي دور الكاتب– القارئ، فيسجّل قراءات عن روايات قرأها وأثارت إعجابه أو شكّلت نصوصا مفصلية ومرجعية في تكوينه الروائي، في هذه الحالة ينتقل الروائي إلى منطقة أخرى، منطقة المُبصر للرواية من الخارج، كموضوع للقراءة لا للكتابة، للتأمل النقدي لا للإبداع، إنه نوع من التأريخ لسيرورة القراءة من الداخل.
السؤال المطروح: بأي أفق قرائي ينتج الروائي قراءاته للرواية؟ وما هي كيفيات القراءة التي يُنتجها الروائي لنصوص غيره؟
أظن أنّ ما يكتبه الروائي عن الرواية من موقع القارئ لا المبدع هو حلقة من سيرورته الإبداعية، لأن الاحتفاء بنص الآخر هو في جزء منه تشييد لصورة الذات المبدعة، وهو نوع من الاعتراف بصنيع كل هؤلاء الذين مروا في حياته فتركوا آثارهم العظيمة عليه.
الكتب التي يقرأها الروائي هي مرايا عاكسة لذاته، فالقراءة ليست اكتشافا للآخر الذي في الكتب، بل اكتشاف لذات القارئ أيضا، حينها يمكن أن يرى نفسه من خلال حيوات وتجارب أخرى.
الإبداع لا ينشأ من فراغ وهذه هي القاعدة البديهية، ووحده من يعتقد أن الإبداع صنو للعزلة والعشق المطلق للذات هو الذي من حيث لا يدري يئد الإبداع ذاته، ويحتفي بخرائبه.
جميل أن ننصت إلى الروائي وهو يتحدث عن روايات غيره، من زاوية الاعتراف، الأدب هو تقبل الآخر، بل الاعتراف بالإبداع كسيرورة من القراءات. هذا ما يسميه هنري ميلر بتفحّص الذات. الكاتب في حاجة إلى أن يتفحّص ذاته المبدعة حتى لا تقع فريسة للانغلاق، الذي صار من بين أسباب أمراضنا الثقافية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.