الجزائر اعتمدت عدة استراتيجيات لتحقيق الامن الغذائي ومواجهة آثار تغير المناخ    العدوان الصهيوني على غزة: واحد من كل ثلاث فلسطينيين لم يأكل منذ أيام    الألعاب الإفريقية المدرسية /الجزائر2025/: دخول المصارعة الجزائرية ب 20 رياضيا وكرة السلة والملاكمة يواصلان السباق في اليوم الثاني بعنابة    ضبط أزيد من قنطار من الكيف المعالج بالبليدة وبشار مصدره المغرب    مكافحة التقليد والقرصنة: توقيع اتفاقية بين المديرية العامة للأمن الوطني والديوان الوطني لحقوق المؤلف    الألعاب الإفريقية المدرسية-2025: تألق منتخبات مصر، تونس، السودان ومدغشقر في كرة الطاولة فردي (ذكور وإناث)    اقتصاد المعرفة: السيد واضح يبرز بشنغهاي جهود الجزائر في مجال الرقمنة وتطوير الذكاء الاصطناعي    تواصل موجة الحر عبر عدة ولايات من جنوب البلاد    بطولة إفريقيا لكرة القدم للاعبين المحليين 2024 /المؤجلة الى 2025/: المنتخب الوطني يواصل تحضيراته بسيدي موسى    اختتام المهرجان المحلي للموسيقى والأغنية الوهرانية : تكريم الفائزين الثلاث الأوائل    جثمان الفقيد يوارى بمقبرة القطار.. بللو: سيد علي فتار ترك ارثا إبداعيا غنيا في مجال السينما والتلفزيون    تمتد إلى غاية 30 جويلية.. تظاهرة بانوراما مسرح بومرداس .. منصة للموهوبين والمبدعين    السيد حيداوي يستقبل مديرة قسم المرأة والجندر والشباب بمفوضية الاتحاد الإفريقي    المكتب الإعلامي الحكومي بغزة: 73 شاحنة فقط دخلت إلى القطاع رغم الوعود والمجاعة تزداد شراسة    الهواتف الذكية تهدّد الصحة النفسية للأطفال    غوارديولا.. من صناعة النجوم إلى المدربين    وفود إفريقية تعبر عن ارتياحها لظروف الإقامة والتنظيم الجيد    يوميات القهر العادي    هذا موعد صبّ المنحة المدرسية الخاصّة    الوكالة تشرع في الرد على طلبات المكتتبين    العملية "تضع أسسا للدفع بالمناولة في مجال إنتاج قطع الغيار    تحقيق صافي أرباح بقيمة مليار دج    إقامة شراكة اقتصادية جزائرية سعودية متينة    تدابير جديدة لتسوية نهائية لملف العقار الفلاحي    ضمان اجتماعي: لقاء جزائري-صيني لتعزيز التعاون الثنائي    إشادة بالحوار الاستراتيجي القائم بين الجزائر والولايات المتحدة    رئيس الجمهورية يعزي نظيره الروسي    وهران.. استقبال الفوج الثاني من أبناء الجالية الوطنية المقيمة بالخارج    خاصة بالموسم الدراسي المقبل..الشروع في صب المنحة المدرسية    الاتحاد البرلماني العربي : قرار ضم الضفة والأغوار الفلسطينية انتهاك صارخ للقانون الدولي    رغم الاقتراح الأمريكي لوقف إطلاق النار.. استمرار القتال بين كمبوديا وتايلاند    نيجيريا : الجيش يصد هجوماً شنته «بوكو حرام» و«داعش»    إستشهاد 12 فلسطينيا في قصف على خانيونس ودير البلح    الابتلاء.. رفعةٌ للدرجات وتبوُّؤ لمنازل الجنات    ثواب الاستغفار ومقدار مضاعفته    من أسماء الله الحسنى.. "الناصر، النصير"    عندما تجتمع السياحة بألوان الطبيعة    لا يوجد خاسر..الجميع فائزون ولنصنع معا تاريخا جديدا    تزويد 247 مدرسة ابتدائية بالألواح الرقمية    حملة لمكافحة الاستغلال غير القانوني لمواقف السيارات    المخزن يستخدم الهجرة للضّغط السياسي    عنابة تفتتح العرس بروح الوحدة والانتماء    بداري يهنئ الطالبة البطلة دحلب نريمان    هدفنا تكوين فريق تنافسي ومشروعنا واحد    إنجاز مشاريع تنموية هامة ببلديات بومرداس    "المادة" في إقامة لوكارنو السينمائية    تحذيرات تُهمَل ومآس تتكرّر    منصّة لصقل مواهب الشباب    جثمان المخرج سيد علي فطار يوارى الثرى بالجزائر العاصمة    الجزائر رافعة استراتيجية للاندماج الاقتصادي الإفريقي: معرض التجارة البينية 2025 فرصة لترسيخ الدور الريادي    دعوة مفتوحة للمساهمة في مؤلّف جماعي حول يوسف مراحي    شبكة ولائية متخصصة في معالجة القدم السكري    منظمة الصحة العالمية تحذر من انتشار فيروس شيكونغونيا عالميا    وهران: افتتاح معرض الحرمين الدولي للحج والعمرة والسياحة    النمّام الصادق خائن والنمّام الكاذب أشد شرًا    إجراءات إلكترونية جديدة لمتابعة ملفات الاستيراد    استكمال الإطار التنظيمي لتطبيق جهاز الدولة    رموز الاستجابة السريعة ب58 ولاية لجمع الزكاة عبر "بريدي موب"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تنكيل واغتصاب ونماذج من نار جهنم
المرأة الجزائرية في سجون الاحتلال
نشر في المساء يوم 31 - 10 - 2014

عانت المرأة الجزائرية من غياهب السجون الاستعمارية إبان الثورة، وتعرضت لشتى أنواع التنكيل والتعذيب، لكنها استطاعت أن تهزم جلاديها وتقض مضاجعهم، حتى بعد مرور عقود على هذه الجرائم التي أسست لانتهاكات لم تعرفها حروب البشرية من قبل .. فلكل نساء العالم رائحة العطر، وللجزائرية عطر الذكريات والانتصارات.
تناولت الكتابات التاريخية الجزائرية وغيرها، بطولات المرأة الجزائرية أثناء ثورة التحرير وتطرقت إلى تضحياتها التي قد تتجاوز إدراكنا كبشر، وسجلت هذه الكتابات الملاحم التي روتها من بَقَين على قيد الحياة، أو من بعض الذين شهدوا تلك الجرائم، بمن فيهم مرتكبوها أنفسهم.
التقت «المساء» بالمؤرخ الدكتور علي تابليت الذي تحدث عن هذه الذكريات الأليمة التي شهدها في سن ال17، وهو يعيش الثورة في قلب الأوراس الأشم، وكيف رأى أفرادا من عائلته، خاصة أعمامه، يستشهدون، حيث بلغ عددهم 13 فردا، وأمه تقتاد إلى السجن بمنطقة غسيرة دائرة أريس بباتنة، وكثير من النساء مثلها تعرضن للعقاب الجماعي نتيجة جهاد أزواجهن أو أقاربهن وانضمامهم إلى الثورة.
يقول الدكتور تابليت؛ «بعد اندلاع الثورة مباشرة، استقرت القوات الفرنسية بمنطقة تكوت وقامت بجمع النساء في دار كبيرة، تحولت إلى سجن لا تزال آثاره إلى اليوم، حيث عانت فيه والدته مباركة تابليت كغيرها من نساء المنطقة منذ سنة 1955، إذ تركت رفيقاتها من المعتقلات أولادهن وهدمت منازلهن»، ويتذكر المؤرخ حال جده الذي تجاوز ال80 سنة من العمر، تعرض للاعتقال بعدما استشهد أبناؤه الثلاثة، وعند إطلاق سراحه، عاد إلى زوجته التي كانت تعتني بإخوته أثناء اعتقال الأم.
تحدث المؤرخ عن دور أعمامه الشهداء الذين عملوا مع بن بولعيد، عميروش وسي الحواس وغيرهم، وأبلوا البلاء الحسن مثلهم مثل منطقة غسيرة التي أبيد الكثير من أبنائها في سبيل تحرير الوطن، يضيف قائلا؛ «التقيت غداة الاستقلال بوالدتي، فوجدتها منهارة عصبيا وصحيا وحدثتني عن استشهاد والدي وأعمامي، وكيف تزوجها ضابط فرنسي مسؤول عن سجن تفلفال (1955 - 1962)، غصبا وانتقاما من الثورة، وهي حاليا تعيش مع عائلتها بعدما تزوجت جزائريا وأنجبت منه، فالحال الذي عانته المرأة كان قاسيا وفظيعا.
وأشار الدكتور لزهر بديدة في حديثه ل"المساء"، إلى أن الثورة لم تفرق بين تضحية الرجل والمرأة، فكلاهما دفع ثمن الحرية، والأمر لا يقتصر على الجميلات الثلاث أو بعض الأسماء بعينها، بل هناك نساء تعرضن للتعذيب في السجون وبقين في ظلماتها لسنوات طويلة، سواء في الجزائر أو في فرنسا، وهناك من النساء من سجن مع بناتهن أو أمهاتهن أو مع أبنائهن، ومنهن من وضعن أطفالهن في غياهب السجون ولاقين تعذيبا مخزيا سيبقى وصمة عار على جبين الإنسانية؛ نساء لم يذقن حلاوة الحياة بل ولا الأكل والشرب، ونخر أجسامهن النحيفة والمعذبة البرد، حيث كن وسيلة للاستنطاق وإذلال الرجل الجزائري، بالتالي فلا فرق في التعذيب والتقتيل حينما يتعلق الأمر بالجزائريين، سواء كانوا رجالا أو نساء أو شيوخا أو أطفالا.
لعل من أهم اللواتي قدمن هذه الشهادات أيضا؛ المجاهدة أنيسة بركات درّار التي وثقت تلك الجرائم في كتاب "نضال المرأة الجزائرية خلال الثورة التحريرية"، إذ تعتبر هذه المجاهدة وغيرها من رفيقات الكفاح أن مشاركة المرأة الجزائرية في ميدان الكفاح المسلح جنبا إلى جنب مع الرجل، أحدث انقلابا جذريا في المفاهيم والأفكار، فجيش التحرير الوطني استقبل المرأة المجاهدة بفخر واعتزاز ونظر المجاهد إليها نظرة الأخ لأخته، وعاملها باحترام وتقدير لأن هذه المجاهدة أتت مثله لتحمل مشعل الثورة والمجد وكل واحد منهما وهب نفسه في سبيل تحرير الوطن.
وهكذا فإن كلمة «امرأة» أو «فتاة» لم تبق مستعملة وحلّت محلها كلمات «أخ» و«أخت» و«مجاهدة» و«مناضلة»، كلها تتضمن معاني الإخاء والصداقة الثورية وتعتبر المجاهدة ابنة الجبهة والجيش، فأدركت بين إخوانها المجاهدين قيما إنسانية نبيلة، ولم تكن تشعر بهذا العمق وأدركت أيضا أنها تغيرت وأصبحت إنسانا جديدا، ورأت مولد شعب عظيم باسل، ومن الواضح أن هذه المجاهدة التي مارست مختلف الأعمال وتحملت أصعب المسؤوليات، قد أثبتت وجودها في كفاح بلادها وشكلت قوة سياسية فعالة، وفي ذلك يقول ميثاق مؤتمر الصومام في الوثيقة السياسية الأولى للثورة الجزائرية عام 1956؛ «توجد في الحركة النسائية إمكانيات واسعة تزداد وتكثر بإطراد، وإنا لنحيي بإعجاب وتقدير، ذلك المثل الباهر الذي ضربته في الشجاعة الثورية الفتيات والنساء والزوجات والأمهات، ذلك المثل الذي تضربه جميع أخواتنا المجاهدات اللائي يشاركن بنشاط كبير وبالسلاح أحيانا في الكفاح المقدس من أجل تحرير الوطن».
وتتجلى من خلال التاريخ وشواهده ومن خلال البحوث، كتلك التي قام بها الباحث والقانوني والمجاهد الدكتور محمد قنطاري (كرّم من طرف رئيس الجمهورية) والخاصة بجرائم الاحتلال ضد المرأة الجزائرية إبان الثورة، وغيرها من المصادر التي اطلعت عليها "المساء"، مختلف الصور البشعة التي لن تمحى من ذاكرة الأجيال وستظل تطارد الذاكرة الاستعمارية قصر الزمن أو طال.
للإشارة، فقد كتب رئيس الجمهورية مقدمة طويلة لأحد الأبحاث العلمية التاريخية التي أصدرها قنطاري، والتي من ضمن ما جاء فيها أن «المرأة الجزائرية، صانعة المعجزات، تصدت للغزاة عبر الأزمنة والعصور ولعبت دورا كبيرا، لا يقل أهمية عن دور أخيها الرجل، في مقاومة الاحتلال الفرنسي طيلة ليله الذي ناء بكلكله على ربوع الجزائر، منذ الأمير عبد القادر إلى الشيخ بوعمامة، والمقراني، إلى الشيخ الحداد، وفاطمة نسومر إلى انتفاضات الواحات، والساورة، والتوارق بالصحراء، تعرضت لشتى أساليب التعذيب، والإهانات، وزج بها في السجون، وحشرت في المعتقلات والمحتشدات، وجربت عليها أنواع من التجارب البيولوجية والحيوانية، قاست وتحملت وصبرت على كل الشدائد والمحن، إنها المرأة الجزائرية المخلصة المؤمنة بربها ووطنها وعقيدتها الإسلامية المعتزة بوطنيتها وشخصيتها وكرامتها».
ملاحم بتوقيعات بطولية
لا يستطيع التاريخ أو أي باحث، كان من كان، أن يتجاهل مثلا قصة المجاهدة البطلة فاطمة خليف التي تكنى ب«الشهيدة الحية»، وهي واحدة من البطلات الخالدات، اعتقلت وتلقت كل صنوف التعذيب الوحشي على أيدي الجنود الفرنسيين، فقطعوا يديها، وهي تنظر وأودعوها سجنا معلقا بين السماء والأرض، ووضعت حملها فيه، ويداها مقطوعتان، وثدياها مشوهان بوسائل التعذيب الجهنمية، قد يتخيل البعض أن هذه القصة لا تعدو أن تكون شبحا خياليا جامعا، لكن الذين عايشوا أحداث الثورة وذاقوا مرارة المعاناة واكتووا بنارها، لا شك أنهم يقرّون حقيقتها.
فاطمة من بلدية الألف شهيد «بني سنوس»، تلك البلدية الخالدة في تاريخ الكفاح الجزائري، فبعد أن كان عدد سكانها في بداية الثورة الجزائرية سنة 1954م؛ 3 آلاف نسمة، استشهد منها على يد قوات الاستدمار الفرنسي 1070 شهيد، وفي هذا الصدد، يشير الباحث قنطاري إلى أنه بالنسبة لنضال فاطمة خليف السياسي، فقد فتحت عينيها على بطش المستعمر الفرنسي الذي سفك دم والدها، وقال بأنها لم تكن تفهم، وهي صغيرة، لماذا يقتلون الرجال والنساء والأطفال الأبرياء؟ ولماذا يلجأون إلى الإبادة الجماعية للشعب الجزائري؟ ولماذا يحرقون الأحياء بالبنزين والنابالم؟ ولماذا تغتصب الفتاة أمام والديها وعمها وأخيها؟ ولماذا يجبر أفراد الأسرة على ممارسة الفحشاء مع بعضهم البعض؟، ومن امتنع منهم كان مصيره الموت، ولم تكن تعي لماذا يدفن الأحياء جماعياً في حفرة واحدة؟ ولماذا تبقر بطون الحوامل، ويراهن الجندي الفرنسي على ما في بطنها إذا كان ولدا أم بنتا؟
ويشير الدكتور قنطاري إلى أن هذه الأسئلة أرهقت فاطمة وحيرتها، ومع مرور الأيام تنامى حسها السياسي وكونتها عائلتها المنخرطة في الثورة.
روت فاطمة للدكتور قنطاري أنه «في بداية نوفمبر 1956م، ألقت القوات الفرنسية القبض عليها وهي مصابة بجروح بليغة، إثر معركة دامية دامت يوما كاملا. وأخذت مقيدة بالأغلال، وملابسها ممزقة، حافية القدمين تمشي والدماء تنزف من قدميها نزفا، ورغم حالتها المرثية، فقد سلط عليها جنود الاحتلال وزبانيته أبشع أنواع التعذيب والإهانة والضرب وشرب (ماء أومو) ومختلف الوسائل الكيمياوية والأوساخ والكي بالنار والكهرباء، وجرح مختلف مواقع جسمها، خاصة الحساسة منه، ودهنها وطلائها بالأملاح، واستمرت العملية عدة أيام».
بقيت فاطمة ثلاثة أشهر تحت التعذيب للحصول على معلومات تتعلق بمخازن الأسلحة وذخيرتها الحربية ومراكز التموين، لكنها لم تقدم أية معلومات وتحملت كل أنواع التعذيب، وفي شهر مارس1957، ألقت بها القوات الفرنسية في دشرتها، وأخذها بعض أفراد عائلتها ممن بقوا على قيد الحياة، وقدموا لها علاجا بسيطا جدا، وعلى الرغم من جراحها الخطيرة والمتعفنة، فقد أجبرتها مصالح الأمن العسكرية الفرنسية على القدوم يوميا إلى مركز مخصص للإمضاء والتنقيط، ونظرا للظروف الصحية الصعبة التي كانت تمر بها فاطمة، فقد قررت القيادة الثورية لجبهة التحرير الوطني الجزائري تهريبها ليلا إلى أحد مراكز العلاج السرية، وفي يوم الغد، بعد أن تغيبت عن الذهاب إلى مركز المراقبة الفرنسية، جاءت وحدات من الجيش للبحث عنها، واستنطقوا سكان القرية والمحتشد لعلهم يعثرون على أخبار عنها، ولكونهم لم يحصلوا على أية معلومة، فقد أخذوا أختها (عائشة) التي كانت تبلغ من العمر 15 سنة رهينة، وبعد أن استنطقت، وعذبت أرسلت إلى سجن الحراش.
بعد معركة ضارية، أُلقي القبض على فاطمة مع بعض الجرحى، وأرسلوا إلى مركز التعذيب ببرج (سد بني بحتل)، وقيدت بالسلاسل في يدها وعنقها ورجليها، وتم اقتيادها إلى الساحات العمومية، وطلب منها أن تشتم المجاهدين، وتصفهم بالذئاب الذين يسكنون الغيران، وتؤكد أنه تم القضاء عليهم، وفرنسا هي الأم الحنون، وأن تطلب ممن يمتلكون الأسلحة بتسليمها، وإعلان توبتهم، وستصفح فرنسا عنهم.
لكنها فاجأت السلطات العسكرية بعد أن أعطوها مكبر الصوت بالقول؛ «إن المجاهدين ليس لهم أية أكواخ من الأشجار والأعشاب في الغابة، بل لهم قصور في الجنة، وهم أبطال شجعان، يجاهدون في سبيل الله والوطن، وإن كل من يرتد عن ثورته وجهاده، فهو كافر، مصيره جهنم، فلنمت شهداء على شهادة -لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فالمجد والخلود للشهداء».
وأثناء تكلمها، تعرضت فاطمة للضرب والشتم داخل السيارة العسكرية من قبل الضابط الفرنسي (تيسو)، وأكدت فاطمة بأنها ستموت مجاهدة، فتعرضت للضرب المبرح إلى أن أغمي عليها، وأخذت إلى مستشفى تلمسان، وعوض أن تُقدم لها الإسعافات الإستعجالية لجراحها، فقد كان الطبيب الفرنسي يزيدها تعذيبا جسديا ومعنويا.
فتم قطع يديها (بالمزبرة) وألقي بها في دشرتها، وأخذت من قبل جيش التحرير الوطني لتلقي العلاج في (جبل جرف النحل) بالقرب من (بوعبدوس) على حافة الوادي، وتكفلت صديقتها (الزهراء) بمساعدتها في الأكل والملبس وقضاء حاجياتها الصحية.
لم تتراجع فاطمة وواصلت في الثورة، وفي إحدى المعارك أصيبت مرة أخرى بجروح بالغة، فألقي عليها القبض وهي تئن من شدة الألم، ومما زاد من معاناتها أنها في الشهر الثامن من حملها، وعوض أن تُقدم لها الإسعافات الأولية، كما تقتضي الأعراف الدولية، زادتها المصالح المختصة الفرنسية (لصاص) تعذيبا في محاولة لإرغامها على البوح بسر مشاركتها في المعركة، رغم الإعاقة التي لا تؤهلها لذلك، ومن شدة التعذيب أغمي عليها حتى أوشكت على الإجهاض، وبين الفينة والأخرى، تتعرض للضرب المبرح، والشتم والتهديد ببقر بطنها وإخراج الجنين وقتله.
في 02 نوفمبر1961م، تم نقلها مع قافلة إلى محتشد سبدو، وتم عزل النساء عن الرجال، تحت الضرب والشتم ونهش الكلاب، وتم بعد ذلك الزج بها ورفيقاتها في السجن المعلق ببرج خزان الماء، في الطابق الثاني، في يوم شديد البرد والرياح والعواصف والثلوج، وكانت ظروف السجينات مأساوية، لا توجد لا ألبسة ولا أغطية ولا أكل، وفي منتصف 11 ديسمبر 1961، وبمساعدة المجاهدة الكبيرة فاطمة قاسمي التي تفطنت لآلامها وأوجاعها، وضعت مولودها «نصر الدين».
ويذكر الدكتور محمد قنطاري أنه «عندما بلغ أمر الصبي مسامع القيادة العسكرية الاستعمارية، احتاروا في أمره، وتساءلوا هل يبقى الصبي وأمه في السجن؟ أم يتم التخلص منه؟»
وفعلا، فقد حاولت إدارة السجن أن تكيد للسيدة المجاهدة فاطمة خليف، لكنها تفطنت لذلك، وكان إحساسها الفطري دليلها، إنها عاطفة الأمومة المقدسة. كان موقف أخواتها السجينات بطوليا، وكان عددهن 109، دخلن في إضراب مفتوح عن الطعام إلى أن يترك نصر الدين مع أمه في السجن، أو يفرج عنهما. وأمام هذا الوضع المحرج الذي وقعت فيه السلطات الاستعمارية، أرسل القائد العسكري لولاية تلمسان مبعوثا خاصا لتهدئة الأوضاع، وطمأن فاطمة على مصير ولدها، وهكذا عمت الفرحة داخل السجن، ووجدت السجينات في الصبي أنيسا بين جدران السجن المظلم البارد شتاء، والحار صيفا.
ويذكر المؤلف أن الصبي (نصر الدين) قضى وأمه 12 يوما بين الاستنطاق والتعذيب النفسي والجسدي، وكثيرا ما تعرض لمحاولات اغتيال، واختطاف من قبل رجال المنظمة العسكرية السرية.
أشار المجاهد قنطاري في متابعته لوقائع محاكمة الصبي وأمه إلى أن رد (جون) رئيس المحكمة كان غريبا، حينما سُئل عن ذنب ذلك الصبي الذي لم يتجاوز 15 يوما من عمره، حيث أجابهم بوقاحة: «الحكم بخمس سنوات سجنا نافذا على نصر الدين عقوبة على مشاركته في المعركة ضد القوات الفرنسية التي تكبدت خسائر فادحة في الأرواح والعتاد، وهو في بطن أمه في الشهر الثامن... فيعتبر فلاقي وعوض أن ينفذ حكم الإعدام في أمه، فإننا اكتفينا بخمس سنوات أيضا معه... وفي حالة فرار أمه كالمعتاد من السجن بمساعدة (الفلاقة)، فإننا سننفذ فيها حكم الإعدام رفقة ابنها الصغير». وبعد سماع فاطمة منطوق الحكم، أطلقت زغرودة دوت أنغامها قاعة المحكمة، وهو ما جعل الحاضرين يتعجبون من أمرها، ثم سألها رئيس المحكمة، لماذا تزغردين؟ فأجابت وهي رافعة يديها المقطوعتين أمام رئيس المحكمة... أزغرد على إنسانية وعدالة الدولة الفرنسية، وأفرح لأنكم لم تكتفوا بقطع يدي، بل إن رحمتكم أدت بكم إلى إدانة طفل لم ير النور سوى أياما معدودات، ثم رفعت يديها إلى السماء داعية (اللهم اجعل لنا من كل ضيق مخرج ومن كل حرج فرجا وأنعم علينا بالاستقلال والحرية). ورغم الدفاع، فقد نفذ الحكم، وأعيدت فاطمة وولدها إلى سجن تلمسان ليمكثا فيه حتى استقلال الجزائر.
للإشارة، كتب الشاعر شحاتة عبد الغني الصباغ قصيدة للمجاهدة الزاهدة، قال في مطلعها:
«أعندي ملاحم حق ونور وأبحث عند سواي الأثر
وبنت تلمسان الأوراس تصدت بنبل وأعطت مثالا صدوق الخبر
وكانت جدارا لقبر فرنسا ومن يلعقون دماء البشر
ومن يغصبون حياء العذارى قذفنا عليهم شواظ المطر
ومن يقطعون أيادي النساء بعثنا عليهم عذاب سقر
ومن حاكموا طفل روض ندي أتاهم جواب يصب الشرر»
من جهة أخرى، استعان الضباط البسيكولوجيون لإجبار المعتقل على الاعتراف أو التخلي عن مبادئه لاستخدامه في فرقة الحركة، كدليل أثناء عمليات التمشيط. كما تلجأ إلى بعض الوسائل الأكثر تحطيما لنفسية الإنسان الجزائري، وهي الإتيان بزوجة المعتقل أو إحدى بناته، ليتم اغتصابها حتى يؤدي ذلك إلى انهياره وتلجأ القوات الفرنسية أمام عدد من المواطنين في المعتقلات أو المحتشدات إلى تحطيم معنويات الشخص، وقد أدى ذلك إلى وقوع آلاف حالات الاغتصاب.
وجاء في اعترافات أحد أفراد الجيش الفرنسي أنه «ألقي القبض على طفلة لا يتجاوز عمرها تسع سنوات يوم 26 جانفي 1956م بأحد ضواحي الجزائر العاصمة، وتم حجزها من طرف الاستعلامات، وفي ليلة 28 جانفي وأثناء استكانتي للنوم، سمعت صوتا يشبه عواء الذئب بطريقة مفزعة، فدفعني ذلك إلى الخروج للتأكد من مصدر الصوت، وأمام تواصل إصداره، توجهت إلى الغرفة التي تحتجز فيها الطفلة، فوجدتها ترتطم بجدار الحائط، لأن الجنود فقعوا عينها، لماذا؟ لا نعلم».
قصة أخرى عن المناضلة بوباشا التي ألقي عليها القبض في 21 فيفري1957م بالقصبة، ليتم تحويلها إلى مركز الأبيار، أين تعرضت لتعذيب بشع من طرف الكتيبة الثانية للمظليين، وبعد إلقاء القبض على المجاهدة جميلة بوحيرد، أرغمت على تعاطي المخدرات بهدف إرغامها على الاعتراف بمساعدة هذه المجاهدة في وضع القنابل بالتجمعات السكنية الأوروبية، لأخذها كحجة قضائية ضدها، بعد أن أصبح لقضيتها أبعاد دولية، غير أنها أمام المحكمة أكدت أن اعترافها جاء نتيجة تعرضها للتعذيب والاغتصاب وتعاطيها للمخدرات من طرف ضباط فرقة المظليين، وهذا ما يؤكد لجوء الجيش الفرنسي إلى الوسائل القذرة ضد المجاهدات.
وقصة المجاهدة مليكة قريش التي ألقي عليها القبض في منتصف نهار 07 أوت 1957م (وعمرها 27 سنة) من طرف وحدة مظلية في الجزائر العاصمة، تم تحويلها إلى مدرسة (ساروي) الواقعة شرق حي القصبة، والمتخصصة في التعذيب بتهمة الاتصال بالمجاهدين ونقل الأسلحة، وتم تجريدها من الملابس لتبدأ فصول تعذيبها التي تستمر لمدة 15 يوما، وأسند تعذيبها لنقيب يدعى سميثو وكانت بداية استنطاقها بتكليف ثلاثة جنود بربطها فوق طاولة حديدية لتعذيبها بالكهرباء، وأمام صمتهاو تم إدخال قضيب حديدي في جهازها التناسلي، مما أحدث لها أضرارا جسيمة، وتعرضت أيضا للتعذيب بالنار، ثم حولت إلى المحكمة، حيث حكم عليها بالمؤبد وقضت 5 سنوات بين سجني طولون وتولوز، ورقي الضابط سميث الذي كان ضمن كتيبة الصاعقة لبيجار إلى جنرال سنة 1985م، وقائد أركان الجيش الفرنسي من سنة 1987م إلى 1991م، مكافأة من فرنسا على أعماله البطولية!!!
سياسة العقاب الجماعي
تتشابه القصص، خاصة عند السجينات اللواتي تعرضن للاغتصاب، إضافة إلى اعترافات القادة العسكريين والجنود الفرنسيين والحركى العملاء، فإن التفتيشات العسكرية الفرنسية، وأجهزتها الأمنية كانت تتم على المشبوه في انتمائهم إلى جبهة وجيش التحرير الوطنيين، فيقومون بتفتيش منازلهم، وحينما لا يجدون الرجال، كانت تؤخذ البنت البكر أو الزوجة أو الأم من طرف العساكر إلى المراكز العسكرية كرهينة لتسليم الأخ، أو الزوج، أو الأب نفسه إلى القوات الفرنسية، فتتعرض للتعذيب والاغتصاب، كما كان يتم أيضا خطف الفتيات بمختلف الطرق والوسائل، حيث كان يتراوح عددهن من 20 إلى 100، وإرسالهن إلى المراكز العسكرية في المدن والقرى والمداشر، وفي الجبال والصحاري لاغتصابهن وحجزهن لعدة أيام للتمتع بهن.
وفي النهاية، يتم التخلص منهن بالقتل الجماعي، ومن تتمكن من الفرار تذهب إلى منزلها الأسري أو الأبوي فتنتحر، أو تقوم بعمليات استشهادية ضد القوات الفرنسية، أما في البوادي، فكانت القوات الفرنسية تقوم بعمليات التمشيط وإلقاء القبض على عدد كبير من النساء والفتيات ونقلهن إلى المراكز والثكنات العسكرية والمحتشدات والمعتقلات لتعذيبهن واستغلالهن، وبعد ذلك يتم التخلص منهن جسديا.
قصص أخرى لمجاهدات، منهن فاطمة قاسمي وزميلتها في السجن حليمة التي خافت على ابنتها في الغابة من الذئاب إثر تمشيط دام 20 يوما، ومن شدة البرد، دفنتها لتحميها، لكن الصغيرة ماتت.
هكذا كان الحال في كل الجزائر، منها منطقة الأوراس، ففيها عندما يخسر العساكر الفرنسيون المعركة، ينقلبون للثأر من المدنيين، يهتكون حرمة النساء اللواتي يفضلن الموت، يلقين بأنفسهن من قمم الجبال حفاظا على شرفهن من التدنيس قائلات؛ "في التراب ولا في أولاد الكلاب".
لقد كان موضوع تعذيب النساء واغتصابهن في السجون من تابوهات الثورة، لكن في السنوات الأخيرة، بادرت العديد من المناضلات والمجاهدات إلى الإدلاء بشهاداتهن خدمة للذاكرة، وكن كثيرات من مناطق تيارت والبيض ومنطقة القبائل والعاصمة والشرق الجزائري وغيرها من المناطق والولايات التاريخية.
لم تكن السجون في الجزائر وخارجها مخصصة للرجال فقط، إنما شملت النساء كذلك، ومع ذلك فإن السجون الخاصة بالمرأة الجزائرية خطيرة، إلى درجة رهيبة من الصعب على المرأة احتمال أعمال زبانيته، والملاحظ أن عدد السجينات الجزائريات اللواتي تم اعتقالهن وصل إلى نسبة 16 بالمائة عام 1956، لتبقى هذه النسبة في ارتفاع.
لقد نتج عن معاناة المرأة الجزائرية من القمع والسجن جملة من الآثار السلبية العميقة، بالتالي لا يمكن في أي حال من الأحوال تقدير الوضعية المأساوية التي ألمت بها، فقد قاست المرأة الجزائرية من عمليات التمشيط في الجبال والقرى والمداشر وحتى المدن، مما كوّن لها هاجسا وكابوسا مرعبا، ماتزال أثاره إلى اليوم، ومنهن من اعتقلت وعذبت وحبست، لذلك ترسخت في ذهن الأحياء هذه الذكريات الأليمة التي انعكست سلبا على حياتهن اليومية بعد الاستقلال.
وطالما روت المناضلة إيفلين لافالات ذات الأصول الأوربية التي قدمت الكثير لثورة التحرير المجيدة، ولم تندم حتى عندما زج بها في السجن لمدة ثلاث سنوات، وظلت مطاردة من طرف اليد الحمراء بفرنسا، ولم تتخل عن مناصرة الأفكار الثورية التحررية للجزائريين إلى غاية نجاحهم في إبعاد المستعمر ظروف سجن الأخوات وما كن يلاقينه من تعذيب وتجاوزات.
وعلى الرغم من أن مبدأ المعاملة بالمثل والرد على أعمال الطرف الآخر بنفس المستوى وأشد، هي التي كانت تتوقعها دوائر الملاحظين والمراقبين لما هو دائر في الجزائر لما كانوا يدركونه من نفوذ جبهة التحرير الوطني وقدرتها على الرد، فإن النزوع إلى التهدئة ودعوة المنظمة الدولية لتحمل مسؤوليتها، كان هو الموقف الغالب في سياسة الجبهة التي لم تدخر جهدا في تحذير الرأي العام العالمي من ممارسات القوات الفرنسية واعتمادها على التعذيب والقتل الجماعي ونتائج ذلك، إذ جاء في تصريح للمجلس الوطني للثورة الجزائرية بتاريخ 19 جانفي 1960 النص على أنه «يشجب استعمال التعذيب الذي وصل إلى درجة من الإتقان، بحيث أصبح موضوع دراسة في المدارس المتخصصة للجيش الفرنسي ويدين «التجميع» في المراكز التي سميت بمراكز الإيواء لملايين الرجال والنساء والأطفال الذين أصبحوا بذلك عرضة للمجاعة والمرض والموت».
الثورة احترمت الاتفاقيات الدولية في معاملة المدنيين والأسرى
وبالرغم من أن الجزائر لم تكن تتمتع بالشخصية الدولية التي تلزمها احترام الاتفاقيات الدولية في معاملة المدنيين والأسرى خلال الحرب، فإن الجبهة وضعت اتفاقيات جنيف لحقوق الإنسان المبرمة في 12 أوت 1949، المتعلقة بحماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة وحماية المدنيين، وضعتها موضع التطبيق منذ اندلاع العمليات العسكرية بسبب ما تتسم به أحكامها من طابع إنساني سام يندرج نضال الشعب الجزائري في إطاره.
النساء النزيلات في السجون لم يسلمن، وقعن ضحية هذه المعاملات، سواء بالضرب أو بزجهن في الزنزانات، ففي سجن الحراش الذي كان يضم نحو 50 امرأة مناضلة، شهد إضرابا عن الطعام بتاريخ 31 مارس 1961، قامت به النساء، بعد تصرفات لا أخلاقية من حراس السجن على إحدى النزيلات. فحضر مدير السجن مع نحو 40 من الحراس، وهاجموا النساء كالوحوش الضارية ضربا بالهراوات، تصوروا (6 رجال على امرأة) فتعرضن جميعا للضرب المبرح الذي ترك آثاره على أجسادهن النحيفة، بعدها زج بهن في القاعة وألقي بقنبلة مسيلة للدموع عليهن، مما أفقدهن الوعي، ومنهن من تقيأن الدم.
كذلك حوادث سجن عين الطير بسطيف التي شهدت فظاعة السجان وغيره من السجون، وتذكر «المساء» في هذا المقام شهادات بعض المجاهدين، خاصة في منطقة الأوراس التي غصت بعض السجون بالنساء، فكان يطلق سراحهن نهارا للعمل في الحقول، ثم ينقلن إلى السجن عند نهاية اليوم، وحالات أخرى في سجون أخرى، منها مثلا سجن سركاجي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.