مسرحية "المتّهم"..أحسن عرض متكامل    سفير مملكة ليسوتو يثمن مساعدة الجزائر لدعم جهود التنمية في بلاده    أبو عيطة وعقب استقباله من قبل رئيس الجمهورية،عبد المجيد تبون: فلسطين ستنال عضويتها الكاملة في الأمم المتحدة بفضل إصرار الجزائر    في عمليات عبر النواحي العسكرية من 18 إلى 23 أبريل الجاري: إحباط محاولات إدخال 78 كيلوغراما كيف قادمة من المغرب    أشرف عليه عبد الرشيد طبي: تدشين مجلس قضائي جديد في تبسة    الجزائر-تونس-ليبيا : التوقيع على اتفاقية إنشاء آلية تشاور لإدارة المياه الجوفية المشتركة    نقل جثامين الجزائريين المتوفين بالخارج.. توضيح وزارة الشؤون الخارجية    قسنطينة: تدشين مصنع لقطع غيار السيارات ووحدة لإنتاج البطاريات    بروتوكول تفاهم مع الشركة العمانية للطاقة    البنك الوطني الجزائري: أكثر من 12 مليار دج كتمويلات و35 مليار دج ودائع الصيرفة الإسلامية    الفريق أول السعيد شنقريحة يشرف على تنفيذ تمرين تكتيكي بالناحية العسكرية الثالثة    29 جريا خلال 24 ساعة الأخيرة نتيجة للسرعة والتهور    وهران.. ترحيل أزيد من 880 عائلة برأس العين    عنابة: مفتشون من وزارة الري يتابعون وضع بالقطاع    شركة طاسيلي للعمل الجوي: تسخير 12 طائرة تحسبا لحملة مكافحة الحرائق لسنة 2024    دراسة مشاريع نصوص قانونية والاستماع الى عروض عدة قطاعات    "عودة مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي تعكس الإرادة الجزائرية لبعث وتطوير السينما"    "العفو الدولية": إسرائيل ترتكب "جرائم حرب" في غزة بذخائر أمريكية    الصّهاينة يواصلون جرائمهم بالقطاع وعمليات إخلاء بالشمال    البوليساريو تدعو مجلس الامن مجددا الى اتخاذ إجراءات عاجلة لتمكين الشعب الصحراوي من حقه في تقرير المصير    الجزائر/تونس: الاتفاق على تنظيم يوم إعلامي حول الصيد البحري لفائدة المستثمرين من البلدين    فلسطين: ترحيب بقرار حكومتي جامايكا وباربادوس الاعتراف بالدولة الفلسطينية    فتح صناديق كتب الشيخ العلامة عبد الحميد بن باديس الموقوفة على جامع الجزائر    وزير التربية انتقل إلى عين المكان والعدالة فتحت تحقيقا: إصابة 6 تلاميذ في انهيار سقف بمدرسة في وهران    إهمال الأولياء يفشل 90 بالمائة من الأبناء    عطاف يستقبل رئيس مجلس العموم الكندي    غائب دون مُبرر: إدارة لاصام مستاءة من بلحضري    نصف نهائي كأس الجمهورية: اتحاد الجزائر – شباب بلوزداد ( اليوم سا 21.00 )    مدرب اتحاد الشاوية السعيد بلعريبي للنصر    فيما وضع حجز الأساس لإنجاز أخرى: وزير الطاقة يدشن مشاريع ببسكرة    وزير الداخلية يكشف: تخصيص أزيد من 130 مليار دينار لتهيئة المناطق الصناعية    برنامج استثماري لتفادي انقطاع الكهرباء خلال الصيف    وزير البريد في القمة الرقمية الإفريقية    وزير الإشارة العمومية يعطي إشارة الانطلاق: الشروع في توسعة ميناء عنابة و رصيف لتصدير الفوسفات    وزير الخارجية أحمد عطاف يصرح: الوضع المأساوي في غزة سيبقى على رأس أولويات الجزائر    فيما شدّد وزير الشؤون الدينية على ضرورة إنجاح الموسم    مجلس الأمة يشارك في مؤتمر بإسطنبول    اجتماع حول استراتيجية المركز الوطني للسجل التجاري    الجزائر تشارك في معرض تونس الدولي للكتاب    تأسيس جائزة وطنية في علوم اللغة العربية    مولودية الجزائر تقلب الطاولة على شباب قسنطينة وتبلغ نهائي كأس الجزائر للمرة العاشرة    مباراة اتحاد الجزائر- نهضة بركان : قرار الكاف منتظر غدا الاربعاء كأقصى تقدير    تكتل ثلاثي لاستقرار المنطقة ورفاه شعوبها    الرقمنة طريق للعدالة في الخدمات الصحية    سايحي يشرف على افتتاح اليوم التحسيسي والتوعوي    تمنطيط حاضرة للعلم والأعلام    الوقاية خير من العلاج ومخططات تسيير في القريب العاجل    رجل الإصلاح وأيقونة الأدب المحلي    بلومي هداف مجددا في الدوري البرتغالي    ماندريا يُعلّق على موسمه مع كون ويعترف بتراجع مستواه    إشادة ألمانية بأول تجربة لشايبي في "البوندسليغا"    حج 2024 : استئناف اليوم الثلاثاء عملية حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان الوطني للحج والعمرة    منصّة رقمية لتسيير الصيدليات الخاصة    حكم التسميع والتحميد    الدعاء سلاح المؤمن الواثق بربه    أعمال تجلب لك محبة الله تعالى    دروس من قصة نبي الله أيوب    صيام" الصابرين".. حرص على الأجر واستحضار أجواء رمضان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



منظور عبد الملك مرتاض نموذجاً
الشعريات وقضايا النص الأدبي

حظيت الشعريات في السنوات الأخيرة بعناية فائقة من قبل الباحثين والدارسين، فأفردت لها دراسات ورسائل جامعية، وأبحاثا ضمن دراسات الأدب القديم والحديث، ومفهوم "الشعرية أو الشعريات الذي لقي اهتماماً كبيراً في الفترة المتأخرة، سواء في النقد العربي أم النقد الأجنبي، له جذور تراثية قديمة وآفاق غربية معاصرة، وهذا الاستخدام بوصفه مصدراً صناعياً لا على صيغة النسب، هو ما يعطيه طرافته وطزاجته النقدية، وإلا فالكلمة مبتذَلة وشائعة. ومنذ أرسطو كان يتحدث عن جوهر الشعر الحقيقي وما يلتبس به من المحاكاة والتخييل، واستخدمه بهذا المعنى عدد من نقاد العرب بنفس الصيغة، مثل
حازم القرطاجني (ت 684ه)، وشراح أرسطو من فلاسفة الإسلام كالفارابي وابن سينا وابن رشد.
وظهر مصطلح (poetics) في النقد الغربي الحديث كوريث شرعي للبنيوية والأسلوبية، ليردها إلى الوظيفة الشعرية في الخطاب اللغوي بعد أن تعاظم الاهتمام في المناهج السابقة (بالشفرة) اللغوية وكيف انبثقت إلى الوجود؟ أي باللغة نفسها بوصفها دالاً، لا لما تحمله من مدلولات، وهناك عدد من المصطلحات العربية التي تُرجم إليها المصطلح، مثل (الإنشائية) و(الأدبية) وغيرهما...
وتبحث الشعرية عن قوانين الخطاب الأدبي، وعن الخصائص المجردة التي تصنع فرادة العمل الأدبي؛ أي بصورة أخرى: ما الذي يجعل من الرسالة اللغوية عملاً أدبياً (شعرياً)؟ ثم أخذت معنى أوسع، لتعني ذلك الإحساس الجمالي الخاص، الناتج عن القصيدة أو عن نص أدبي؛ أي بعبارة أخرى، قدرة العمل على إيقاظ المشاعر الجمالية، وإثارة الدهشة وخلق الحسن بالمفارقة، والانزياح عن المألوف... "(يُنظر د.إبراهيم عبد المنعم إبراهيم، بحوث في الشعرية وتطبيقاتها عند المتنبي، مكتبة الآداب، القاهرة،2008م،ص:2).
إنّ البحث في مفهوم "الشعرية" قد يبدو أمراً ميسوراً؛ "إذ الظاهر أن هذا المفهوم قد قُتل درساً، وقُضي منه الوطر عند كثير من نقاد الأدب، فالباحث سيجد لا محالة مقالات متنوعة في الموضوع، وكتباً هنا وهناك تناقش المفهوم وتتفنن في عرض أصوله وامتداداته، أو طرائق اشتغاله".
وقد يسارع البعض عندما يُسأل: "ما الشعرية؟ إلى القول إنها علم الأدب، أو قوانين الخطاب الأدبي، أو إنّها نظرية عامة للأشكال الأدبية".
ولكن عند التعمّق في البحث في هذا المفهوم، سيبدو أنّ الظاهر غير الباطن، وأنّ الرائي غير السامع؛ إذ البحث في قوانين الخطاب الأدبي من السهل الممتنع، فأن تسمع به أهون من أن تراه، أو تُكابد عناء البحث فيه، فالأدب كائن متجدّد يفرض دائماً تجدد قوانينه وتحيينها، مما يجعل تفسير تلك القوانين في كل مرحلة أدبية أو في كل جنس أدبي، أمراً بالغ الصعوبة وبعيد المنال"؛ (يُنظر د.حميد حماموشي، آليات الشعرية بين التأصيل والتحديث - مقاربة تشريحية لرسائل ابن خلدون، منشورات عالم الكتب الحديث، الأردن، 2013م، ص: 11).
من خلال هذه الورقة نسعى إلى الوقوف مع واحد من الكتب المتميزة في هذا المجال، وهو كتاب "قضايا الشعريات" للناقد الدكتور عبد الملك مرتاض، الذي يكتسي أهمية خاصة، حيث تتجلى أهميته في جمعه بين النظرية والتطبيق، وفي تحليله بعمق وشمولية للكثير من قضايا الشعر المعاصرة، وتقديمه مسحاً شاملاً لمفهوم الشعريات في الفكر النقدي العربي، والفكر النقدي الغربي، كما يبحث الكتاب باستفاضة وعمق في بنية اللغة الشعرية وحيزها، والصورة الشعرية وجمالية الإيقاع.
قسّم الدكتور عبد الملك مرتاض كتابه إلى ثمانية فصول، أضاء فيها بمنهجية سليمة، وأسلوب ممتع على الكثير من القضايا الهامة، فقد خصّص الفصل الأوّل للحديث عن "مفهوم الشعريات في الفكر النقدي العربي"، ومن أبرز ما نبّه إليه في هذا الصدد أنّ النقّاد العرب في العصر الحديث يُطلقون مصطلح "الشعرية" وهم يريدون به غالباً ما يريد به النقاد الغربيون من وراء إطلاقهم مفهوم "الشعريات" التي تتفرّع وظيفتها إلى حقلين اثنين: أ. فهي تأتي بمعنى دراسة جنس الشعر من حيث هو وحدَه، أو الدّلالة على الانتماء إليه. وقد كان الشعر بمعناه المحصور هو وحده المتَّخَذَ موضوعاً للشعريّات وعنايتها، وذلك ما يُفهم من شعريّات أرسطو منذ قريبٍ من خمسة وعشرين قرناً، وقد ظلّ ذلك قائماً إلى القرن التاسع عشر، بحكم المعنى الاشتقاقيّ للشعريّات المتفرّعة عن الشّعر نفسه.
ب. كما تأتي بمعنى "النّظريّة العامّة للأعمال الأدبيّة" بعامّة، وقد يستبين هذا المفهوم من خلال عنوان المجلّة الفرنسيّة الشهيرة المتخصّصة في النّقد، وهي "شعريّات، مجلّة النظريّة والتحليل الأدبيّ"
والشعريّات بالمعنى الثاني، ومنذ القرنِ التاسعَ عشرَ، تنصرف دلالتُها المفهوميّة إلى كلّ الأجناس الأدبيّة، فتتسلّط عليها بالمعالجة الإجرائيّة، فيقترب معناها من معنى "الأدب" بمفهومه العامّ"؛ (يُنظر د.عبد الملك مرتاض، قضايا الشعريات - متابعة وتحليل لأهم قضايا الشعر المعاصرة، منشورات دار القدس العربي للنشر والتوزيع، الجزائر، 2009م، ص:17).
ومنذ القرن التاسع عشر اتسعت دلالة الشعريات المفهومية، وانفتحت على جميع الأجناس الأدبية، فاقتربت من معنى "الأدب".
وبالنسبة للنقاد العرب القدامى، فقد توقف المؤلف مع مفهوم الشعريات باستفاضة عند كل من ابن سلاّم الجمحي، والجاحظ، وابن قتيبة، وابن طباطبا، وقُدامة بن جعفر، والجرجاني، وابن رشيق القيرواني، وحازم القرطاجني.
وفي الفصل الثاني من الكتاب قدّم المؤلف متابعة شاملة ل "مفهوم الشعريات في الفكر النقدي الغربي"، وقسّمها في متابعته لها إلى منظورين: أصحاب الرؤية التقليدية الذين ينظرون إلى الشعر على أنه أنواع ثلاثة؛ ملحمي وغنائي ودرامي، وهم ينتمون إلى القرون الأولى من عصر النهضة، وتضاف إلى هذا الأمر مجموعة من الشروط الأدبية التي تتسم بالقسوة، والتي كانوا يشترطون مثولها في النسج الشعري الذي يعترفون بجماليته ورقيه. ومن أبرز هذه الشروط: رفعة اللغة وجمالها وأناقتها، والاستعانة بأضرب الاستعارة والمجاز لتحسين النسج الشعري.
أما أصحاب الرؤية الحداثية، وهم النقاد الجدد الذين برزوا مع انطلاقة منتصف القرن التاسع عشر، فهم يذهبون في تقييمهم للرؤى المقدمة من قبل النقاد القدامى، إلى أنها غير لائقة بتقاليد العصر التكنولوجي، ومن بين الذين ناقشوا هذا الأمر: أندري جيد (1869-1951م)، الذي تساءل: أ تريدون تعريفاً جيداً للشعر؟ إني لا أرى تعريفاً سليماً غير الذي يأتي: وهو أن الشعر يعمل على المضيّ نحو السطر قبل نهاية الجملة.
ويُعتبر جان كوهن من أفضل النقاد الفرنسيين الذين تناولوا الشعريات في أدق تفاصيلها، مركّزاً على الجوانب الإيقاعية والدلالية، ومن ثم الجمالية، التي تتجلى في وضوح الرؤية، ودقة التعبير، وصرامة المنهج.
كما أرجع جان كوهن التحولات الكبرى التي عرفتها الشعريات، إلى الرومانسية؛ كونها نقلت مسار الشعر من العلة التي كانت الكلاسيكية تعلل بها الأشياء التي تُخضعها لمنطق العقل، إلى فعل التلقي والآثار الجمالية في النفس على الوجه الطبيعي بعيداً عن العقل، فالوجدان والعاطفة هما الأساس بعد إلغاء سلطان العقل على الشاعر والقارئ.
ووفق منظور جان كوهن فاللغة الشعرية تحلَّل في مستويين اثنين: مستوى صوتي، ومستوى دلالي، والشعر يتعارض مع النثر بسبب الخصائص الماثلة في المستويين المذكورين، ويتضح من عرض جان كوهن:
1. "إن الشعر أولاً يأتي مناقضاً للنثر، وهذا المفهوم متداوَل بين الناس منذ الأزل، وفي جميع الآداب الإنسانية، ذلك بأن الاختلاف بين النثر والشعر طبيعة لسانياتية؛ أي شكلية.
2. إنّ من أهم ما يميز بين الشعر والنثر هو المستوى الصوتي، بحيث يتميز الشعر بالقعقعة الصوتية المتجسدة في تماثل الميزان العروضي، وفي القافية، وفي استثمار كل الخصائص الصوتية الأخرى.
3. إنّ الجمهور بحكم أنه تعوّد على شكل من النسج اللغوي موروث، قد فتح عينيه عليه منذ العصور الموغلة في القدم، بحكم بشعرية هذا النسج، أو عدم شعريته، انطلاقاً من هذا المعيار المأثور الذي يقوم على مستويين اثنين، ولا يحاول أن يجاوز ذلك إلى ما خلفهما من الآفاق والحدود، فإنّما البحث في ذلك لا يعني إلاّ النقّاد المتخصّصين والشعراء المبدعين" (د.عبد الملك مرتاض: قضايا الشعريات، ص:74).
أما سارتر (1905-1980م) فقد كان يرى أنه لا أحد أجمل قولاً من مالارمي، وفي نظره أن الشعر هو محاولة سحرية لتكوّنه، ولكن عن طريق التلاشي المرتعش للفظ، وذلك بمزايدة الشاعر على عجزه التعبيري حينما يجعل الألفاظ مجنونة، فالغاية الكبرى - كما يرى سارتر - منذ مالارمي إلى السرياليين هي التدمير الذاتي الذي يتسلط على اللغة.
ومن أبرز الذين ركزوا على اللغة الشعرية "ميكائيل ريفاتير"، الذي ذهب في تحديده لها إلى أنها تختلف كل الاختلاف عن الاستعمال اللساني المشترك، وهو ما يعرفه عامة القراء إلماماً بالفطرة، وقد ركز تركيزاً منهجياً على مفهوم اللغة الشعرية، وأشار إلى أن الشعر الرفيع في مختلف الأزمنة والأمكنة وفي جميع الآداب الإنسانية، لا يرغب في البوح بما يريد أن يقول، وعلى القارئ أن يبحث عن الدلالة الحقيقية بعيداً عن المقاصد القريبة.
وتطرّق المؤلف في الفصل الثالث من الكتاب إلى الكثير من القضايا الفكرية والفلسفية التي ترتبط ب"الوظيفة الاجتماعية والجمالية للشعر"، فتوقّف مع وظيفة اللغة الشعرية، التي تتميّز بتعددية وظائفها الدلالية، وعرض مجموعة من المفاهيم المتنوعة التي ترتبط بالوظيفة الشعرية، وتساءل في هذا الصدد: "هل نعود بالشعر إلى نظرية الفن للفن، فلا يكون له أي نفع في المجتمعات الراقية من وجهة، وإلى النظرية الفلسفية الأمريكية المادية، التي لا ترى الحقيقة إلا في الشيء النافع للناس نفعاً مادياً فعلاً، من وجهة أخرى؟"، وكيف يكون الشعر الجميل كذلك وهو يعبّر عن آمال الناس، ويصوّر آمالهم، ويصف شقاءهم في صدق وجمال؟ وهل يكون من حق أيّ أحد من الناس أن يحرم الشعر من أداء وظيفته الجمالية والثقافية والاجتماعية معاً؟".
يذهب المؤلف إلى أن تيوفيل كويتي فشل في تكريس نظرية الفن للفن فشلاً ذريعاً. وقد أكّد السرياليون على أنّ وظيفة الشعر ليست على شيء، وأنّها مثل الفن في تفاهتها، وفي نظرهم أنّ الوظيفة الشعرية محدودة التأثير، وهي أعجز من أن تُفضي إلى ثورة اجتماعية حقيقية.
ووفق منظور جان ريكاردو فاللغة الشعرية لم تعد مجرد وسيلة جميلة وأنيقة لتدبيج الشعر، كما كان هذا الأمر في أذهان النقاد القدامى، بل أصبحت غاية في نفسها، وهذا ما جعله يقترح ضرورة التمييز بين ميدانين اثنين مختلفين: ميدان الكتابيب الذي هو مجرد النهوض بالإعلام من خلال الكتابات العادية التي لا إبداع فيها ولا خيال، وميدان الكُتّاب، الذي هو الكتابات الأدبية الراقية.
يستمر المؤلّف في الفصل الرابع من الكتاب في تفكيك قضايا الشعريات، حيث نلفيه يسلّط الضوء على "بنية اللغة الشعرية"، ويتوقّف بالتحليل والنقاش مع شعرية اللغة، وانحرافية اللغة الشعرية وانزياحها الذي له عدة أنواع، أهمها: الانزياح البلاغي، والانزياح النحوي، والانزياح الوصفي، والانزياح الأسلوبي، فالانزياح كما يعرّفه المؤلف هو الصفة الأسلوبية التي تجعل لغة كاتب من الكتّاب ذات خصوصية في إطار النظام العام للسان الذي تنتمي إليه اللغة، فقد جاء الانزياح ليكرس ثقافة التغيير الأسلوبي، وما يحدث فيه من انحراف مفاجئ لم يكن المتلقي ينتظر وقوعه.
في الفصل الخامس من الكتاب، تحدّث المؤلف عن "حيز اللغة الشعرية" الذي مايزال الإشكال قائماً بشأنه، نظراً لعدم الإجماع عليه في الاستعمال السيميائي العربي المعاصر. ومن بين المصطلحات التي يستعملها النقاد العرب الجدد مصطلح "الفضاء"، الذي يرى الدكتور عبد الملك مرتاض أنّه غير دقيق، وهو يتّخذ في اللغة العربية مفهوم الجو الخارجي. أما معنى "الحيز" فيشمل الخلاء والامتلاء مع بعضهما، كما أن مصطلح "الفضاء" لا يستطيع أن يؤدي كل ما ينصرف إليه في الدراسات التحليلية التي تتعلق بالأعمال السردية والشعرية.
وفي الفصل السادس حلّل المؤلف باستفاضة، جملة من الإشكاليات التي تتصل ب "جمالية الإيقاع وأثرها في تذوق الشعر"، وطرح مجموعة من التساؤلات المنهجية مثل: "أليس الذوق هو مجرد معنى منعزل إذا لم يتم له معنى التذوق الذي يبعث فيه التوهج والفعل والحياء؟". وقد ذكّر المؤلف بأفكار رومان ياكبسون التي قدمها في دراسته لقضايا الشعريات، فقد لاحظ أن النص الأدبي يختلف عن غيره من النصوص بمقدار ما يشتمل عليه، أو ما لا يشتمل عليه من أدبية، وتساءل المؤلف عن كيفية تذوّق الشعر".
وذهب في إجابته على هذا السؤال إلى أنّ اللغة التي يتذوق بها المتلقي الشعر لا ينبغي أن تكون من اللغة المصطنعة في الجرائد، وإنّما المقصود بها اللغة الأدبية الرفيعة التي ترد في نسج الشعراء الكبار، فلا مناص من أن يرتفع محصول اللغة الأدبية للقارئ، فامتلاك المحصول اللغوي والأدبي يُعد من الشروط المركزية في عمليتي الفهم والتذوق معاً، فالإلمام باللغة هو مكون مركزي من مكونات الذوق، والشعر هو لعبة لغوية قبل كل شيء، والذي لا يعرف قواعد هذه اللعبة يعسر عليه فهمه، ومن ثم تذوّقه.
في الفصل السابع من الكتاب تحدّث الدكتور عبد الملك مرتاض عن "الصورة الشعرية" التي أخذت عدداً كبيراً من المعاني في الثقافة الفكرية المعاصرة، وهي خلاصة الإبداع وأنقى وأرقى ما تجود به القريحة عطاءً أدبياً رفيعاً، وهي المفهوم الذي يتجلى في أروع أدبية الأدب وشعرية شعره، وهي لا تمثّل سوى الحقيقة الشعرية، وهي ليست تشبيهاً أو استعارة أو كناية أو مجازاً على وجه الضرورة، بل كثيراً ما تظهر في انزياحات اللغة الشعرية المعاصرة، فهي ثمرة التصوير الفني لفكرة أو عاطفة بوساطة اللغة الشعرية. وكما يرى المؤلف، "فالصورة الفنية أو الشعرية ليست نظرية مفهومية يتأسس عليها مذهب فني، ولكنها إجراء تذوقي؛ بحيث تتمثل في كل النصوص الأدبية المزدانة بالتصوير البديع، فكما أن الذوق هو ملكة تحصل للمتلقي في تذوق جمال الكلام، فإنّ الصورة الفنية تقع في الذهن المتلقي، والمتصور للنص المتلقي، فيقع تمثل أطوارها التي تتجلى في شبكة النص الشعري الرفيع، فتوسّع من دائرة التذوق، وتصقل ملكة التفهم".
أمّا الفصل الأخير من الكتاب فقد جعله المؤلف للحديث عن "قصيدة النثر أو اللاشعر بين إشكالية الماهية والبحث عن التجنيس"، وقد عبّر عن رأيه في هذا النوع من الكتابة، بأنّها ليست عبارة عن تطوير للقصيدة العربية، كما أنّها ليست شعراً، بل هي وفق منظوره "محاولة نثرية بدائية، وربما ساذجة للتعلق بالشعرية الضائعة، من خلال العمل باللغة والاشتغال بالتصوير".
وفي الختام بقي أن نقول إن كتاب "قضايا الشعريات" يُعدّ واحداً من أهم الكتب التي جمعت في دراستها للشعريات بين الأصالة والمعاصرة، حيث ناقش المؤلف باستفاضة قضايا الشعريات في الفكر النقدي القديم والحديث، فالشعريات موضوع شديد البروز، وقد تناثرت إشكالياته وأسئلته في بطون المصادر والمراجع، ووقف عدد كبير من الدارسين أمامه. واختيار الدكتور عبد الملك مرتاض لدراسة قضايا الشعريات بأبعادها المتشعبة، يُعدّ خطوة جريئة وشجاعة، بذل من خلالها جهداً كبيراً، وتطلّبت منه الدأب والصبر والروية. وقد انتهت تلك الجهود إلى تقديم خدمة جليلة للباحثين في ميدان الشعريات وقضاياها المعرفية؛ فهذا الكتاب يُعتبر فتحاً جديداً في هذا المجال؛ فقد جاءت دراسة الدكتور مرتاض غنية في أفكارها، وسلسة في أسلوبها، وجديدة في مضامينها، فالمسائل التي أجلت عنها الغموض جعلتها دعامة لأبحاث لاحقة، وفيها يلفي الباحث ما يُشبع فضوله.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.