أما الأول، فهو باروخ سبينوزا، (1632-1677)، ذلك الفيلسوف الذي لم يرض عن فلسفته أحد في عصره لأنه خرج بها عن الطوق والتقاليد المتّبعة. وقد اضطر لكي يعمل في صقل العدسات وتنعيمها من أجل نيل قوته، فكان ماهرا في عمله ذاك. ويبدو أن طبيعته الوثّابة هي التي أقامت الدنيا حواليه ولم تقعدها. في سن الرابعة والعشرين، تلفّظ بكلام لم يفهمه أهل الدين، ولا أهل الفكر في نفس الوقت، فكان أن طرد من الكنيسة بالرغم من أنه كان يهوديا من أصول برتغالية عريقة، تماما مثلما طرد أجداده اليهود من أرض إسبانيا بعد عام 1492، بالرغم من أنهم تحولوا إلى المسيحية، ولو عن طريق القوة تفاديا للتحريق. إلا أن اعتداد سبينوزا، برأيه الفلسفي لم يشفع له في شيء. وذات يوم، جاء أحد المتطرفين في مدينة ”أمستردام” التي يقيم بها مع أهله، فوجّه له طعنات لم تنل من حياته. ولما كان متمردا على الأعراف الفكرية، فإنه ازداد تفردا برأيه أيضا، وقرر أن يحتفظ، بقية حياته، بمعطفه الذي نالت منه الطعنات على سبيل التشكيك في مسألة الثنائية بين العقل والجسد، وتأكيد وحدة الطبيعة، أي وحدة الوجود كله. واستمر، منذ ذلك الحين، في صياغة رؤيته الفلسفية التي كانت فريدة من نوعها بالمقارنة مع ما استجد من فلسفات في زمنه، خاصة منها فلسفة روني ديكارت، القائمة على ثنائية الروح والجسد. والمؤرخون المهتمون بسيرة حياته يقولون عنه إن تلك الطعنات كانت أشبه بنوافذ يطل منها على الكائن البشري دون أن يثق بهذا الكائن، بل إنها هي القاعدة التي بنى عليها فلسفته كلها، ووضع على أساسها نظريته في تهذيب الأخلاق. وأما الثاني، فهو الأديب الإيرلندي، صموئيل بيكيت، (1906-1989)، الحائز على جائزة نوبل للآداب. في عام 1938، جاء من يوجه له طعنة بخنجر وهو خارج من أحد أنفاق المترو. ومنذ ذلك الحين، قرر، بينه وبين نفسه، أن الحياة عبث، وينبغي أن ينظر إليها من زاوية اللاعقل. وعليه، كانت تلك الطعنة وراء جميع ما وضعه من روايات ومسرحيات ابتعدت مضامينها عما هو عقلاني في هذه الحياة. وبات ينتظر أن يحدث شيء جديد في هذه الدنيا بالرغم من أن مثل هذا الشيء ما كان ليحدث إلا في فكره هو. وقد أبرز فكرته هذه في مسرحيته الشهيرة، ”في انتظار جودو”، أي في انتظار الشيء الذي لا يأتي أبدا تماما مثلما نجد ذلك في بعض العقائد المشرقية القديمة، أو في بعض الكتابات الروائية والمنظومات الشعرية الحديثة بدءا من قسطنطين كافافيس اليوناني- الإسكندراني، وجوليان جراك، الروائي الفرنسي. فهل يعني ذلك أن بعض الأدب، وبعض الفلسفة لا بد لهما من منطلق بعيد عن أرض المنطق؟ وهل يعني ذلك أن كلا من باروخ سبينوزا وصموئيل بيكيت ما كانا ليطلعا على هذه الدنيا بفلسفة ولا بأدب روائي لو لم يعترض سبيليهما من أحداث مؤسية؟ لكن، يجب الاعتراف بأن كلا من هذين المبدعين تركا بصمات عميقة في محيط أهل الفلسفة وأهل الأدب معا. عندما نقرأ بعض ما كتبه الفلاسفة الوجوديون، على سبيل المثال، وعلى رأسهم، ألبير كامو، ندرك مدى التأثير الذي مارسه هذان المبدعان، مع فارق واحد، وهو أن المتأثرين بهما حاولوا أن يضعوا بعض المنطق في ما أبدعوه. وعليه، قد يقترب ألبير كامو وجان بول سارتر منهما، غير أن كلا من هذين الفيلسوفين يحرصان على عقلنة ما يكتبانه. جان بول سارتر في روايته الأولى ”الغثيان” يصوّر لنا بطله وقد عقد العزم على أن يقرأ جميع الكتب التي تضمها مكتبة بلدته وفقا للحروف الأبجدية، وهذا أمر غير معقول. وألبير كامو، في بحثه الفلسفي ”أسطورة سيزيف”، يفعل نفس الشيء مع أنه يدرك في قرارة نفسه أنه يستحيل على الإنسان المنبوذ أن يظل حاملا صخرة من قعر الوادي وصاعدا بها إلى قمة الجبل، وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية له. ثم ماذا لو أن ألبير كامو وجان بول سارتر تلقيا طعنات في يوم من الأيام، أتراهما كانا سيقدمان لقرّائهما صورة أخرى عن عبثية الحياة؟ وهل العيب في باروخ سبينوزا، وصموئيل بيكيت، أم العيب في من سار وراءهما؟