تستيقظ قسنطينة مع حلول كل فصل ربيع، على وقع رائحة الزهور التي تعبّق أرجاء المدينة، حيث تعود النسوة إلى طقوس قديمة توارثتها العائلات جيلًا بعد جيل، تتجلى في تقطير الزهر والورد. وهي الحرفة الأصيلة التي تعكس ارتباط سكان عاصمة الشرق بتراثهم العميق رغم تغير الزمن، وغلاء الأدوات المستعملة في هذه الحرفة. فماء الزهر وماء الورد المقطر لايزالان من ضروريات الحياة اليومية في البيوت القسنطينية، إذ يُستخدمان لتنكيه الحلويات التقليدية مثل البقلاوة، وطمينة اللوز، والقطايف، إضافة إلى الأطباق المحلية الفاخرة التي تُزيّن موائد المناسبات كالرفيس، وطاجين العين، والمشلوش، وغيرها من الأطباق التي تشتهر بها المدينة. كما يحتفظ ماء الزهر بمكانته في الطب الشعبي من القديم، إذ كانت ولاتزال الجدات يستخدمنه لعلاج الحمّى، وضربات الشمس، وتبليل رؤوس الأطفال به عند ارتفاع الحرارة، بينما يُستعمل أيضا في التجميل من خلال إضافته إلى أقنعة البشرة الطبيعية. أسواق الربيع تفوح بعبق التقاليد ومع بداية موسم الإزهار تتحول بعض أحياء المدينة القديمة وساحة "دنيا الطرائف"، إلى فضاءات مفعمة بالعطر والحياة، حيث يُعرض الزهر بأنواعه من البرتقال، والليمون، والتفاح، والسفرجل، في انتظار موسم القطف الذي لا يبدأ إلا بعد أن تذبل الزهور تدريجيا، لتحتفظ بمركزها العطري. وقد أصبح مشهد النسوة وهنّ يحملن باقات الزهور وأدوات التقطير التقليدية المصنوعة من النحاس، مشهدًا مألوفًا في كل ربيع رغم ارتفاع أسعارها، وهي الحال بالنسبة للأدوات المستخدمة في عملية التقطير، إذ لاتزال نساء قسنطينة يقصدن منطقة باردو لصيانة أو شراء ما يلزمهن من طناجر، وقطارات، وكسكاسات لضمان جودة عملية التقطير. تقاليد ضاربة في أعماق التاريخ هذا الطقس الذي تتحول فيه العملية إلى فن تمارسه النسوة بخبرة بالغة، يُعد في الأصل إرثا ضاربا في عمق التاريخ؛ إذ تعود جذور حرفة التقطير بقسنطينة، حسب بعض الدارسين، إلى الحقبة البيزنطية، حيث كانت تُستعمل لعلاج الأمراض بالأعشاب. ثم تطورت خلال الفتح الإسلامي ووصول الأندلسيين، الذين أضافوا تقطير النباتات العطرية لاستخدامها كعطور، وهي أيضا النباتات التي عرفت السنوات الأخيرة رواجا كبيرا على غرار نبتة العطرشة وغيرها. أما العثمانيون فقد نقلوا الحرفة إلى قصر الباي، حيث كانت النسوة يقدِمن على تقطير "المخبل"، وهو مزيج مع الزهور؛ لأغراض التجميل. بين الأسطورة والتاريخ الشعبي تُرجع بعض الروايات الأخرى أصل التقطير إلى تقليد نشأ في الأندلس، وجاء إلى بلاد المغرب مع من دخلوها من الأندلسيين، بدليل أن العادة معروفة في العديد من الدول المجاورة؛ كتونس والمغرب، بالإضافة إلى الجزائر، بينما تشير رواية أخرى إلى أن أول شجرة زهر زُرعت في قسنطينة كانت هدية من صيني إلى أحد أبناء عائلة "كوتشو كالي" عثمانية الأصول. وقد حدث ذلك سنة 1620 ميلادية، حيث زرعها في حديقة أسرته بمنطقة حامة بوزيان، التي تشتهر اليوم بكثرة وجودة زهورها ووردها، ما يجعلها مصدر تمويل رئيس للحرفيين خلال موسم التقطير. خطوات دقيقة وطقوس متوارَثة في التقطير أما عن كيفية التقطير، والتي باتت من العادات الأصلية التي تحرص عليها العائلات القسنطينية، فتُستخدم فيها العديد من الوسائل التقليدية، وأولها ما يسمى بالقطار، والطنجرة، والكسكاس، وقارورة غاز البوتان، والطابونة. وتبدأ العملية بتحضير الموقد والطنجرة التي تحتوي على حبات السكر، ثم تُضاف النباتات المراد تقطيرها. وتتفنن النسوة في اختيار الزهور العطرية، فبعضهن يُفضلن تقطير الزهر، وأخريات يفضلن الورد، أو المزج بينهما. والشائع عند القسنطينيين هو "تقطير الزهر". ويتم بتحضير مكيال يُسمى الغربال بسمك 1 سم. وتُملأ الطنجرة بالماء إلى مستوى المقبض. تُغلق الأواني بإحكام. وتوضع على نار هادئة، مع مراقبة الماء العلوي باستمرار لضمان بقائه بارداً. وتستمر العملية حتى الوصول إلى ما يُعرف ب"الكبة"، ثم "الغمة"، وأخيرًا "الجر"، وهي مراحل التقطير المتتابعة. أما القارورة التي يوضع فيها ماء الزهر بعد التقطير فتُسمى "المغلفة". ويُفضل أن تكون من زجاج، ومحكمة الإغلاق حتى لا يتبخر التركيز العطري. تقاليد مفعمة بالإيمان والبركة في حديثنا مع السيدة حنيفة شلغوم التي تزاول حرفة التقطير منذ 40 سنة، كشفت عن تفاصيل مراسم "التقطير" التي تُعد حدثا محوريا في الثقافة المحلية. وأكدت المتحدثة أن عملية التقطير التي ورثتها عن أمها وجدتها، تُحاط بطقوس دقيقة، تبدأ بإعداد القِدر النحاسي الذي يُغطى بقطعة قماش عند إخراجه من المنزل؛ تماشياً مع اعتقاد قديم بضرورة إتمامها في الخفاء. وتُلقى قطعة سكر في قاع الإناء ل"التفاؤل بيوم مُشرق"، وحفنة ملح تحت الموقد ل"درء الحسد"، مع استخدام البخور كحاجز وقائي. كما أشارت إلى أن العملية يجب ان تترافق مع إعداد "طمينة المغرف" أو الطمينة البيضاء. وهي حلوى تقليدية تُصنع من نوع من السميد الذي يُعرف "بالفرخ"، ويُضاف إليه العسل وزبدة البقرة. ثم تُوزع على أركان المنزل قبل ليلة التقطير. وتُرش الأركان بماء الزهر أو الورد بعد الانتهاء، وتحديداً برأس القطار. التقطير بين التراث والعائد الماليّ على الصعيد العملي، أوضحت شلغوم أن "السيار" (الغربال) هو مقياس الكيل، حيث تنتج كل "كبة" من الزهور مغلفتين (لترين)، ليصل سعر اللتر الواحد من الزهر الى 2700 دج. أما المورد فما بين 2000 و2500 دينار للورد، في طقس يتحول من تراث عطري إلى اقتصاد منزلي فريد. تقطير الورد.. نفس الخطوات بطقوس مختلفة ولا تختلف عملية تقطير الورد حسبها كثيرا عن تقطير الزهر، حيث يُملأ الغربال بنبتة الورد. وتوضع كمية الماء نفسها المستخدمة في تقطير الزهر، إلا أن "القطارات" (النسوة اللائي يقمن بعملية التقطير) لا يستخدمن "الكبة" ولا "الغمة" ولا "الجر" في مرحلة تقطير الورد، كما في تقطير الزهر. ماء الزهر.. توقيع المطبخ القسنطيني كشفت الحرفية الشاف منزر رشا المختصة في صنع الحلويات التقليدية وتقطير الأعشاب، عن سر ارتباط المطبخ القسنطيني بتقليد تقطير ماء الزهر والورد، الذي يُعد مكونا أساسيا في حلوياته الشهيرة مثل القطايف، والبقلاوة، و"شباح السفرة"، حيث قالت إن ماء الورد يُضفي نكهةً مميزة، بينما يُخصّص ماء الزهر لوصفات ك"مقروض المقلة". وأضافت أن لضمان جودة المستخلصات تخضع عملية التقطير لشروط صارمة، أولها تغطية الأواني النحاسية وزجاجات التخزين الأولى بعناية، في إجراء يشبه تعتيق الخمور. كما تُعزل القوارير الزجاجية الخضراء الداكنة عن الضوء والهواء للحفاظ على العطر. أما علامة الجودة الأبرز فتظهر عبر الزجاج الشفاف، إذ يكتسي المستخلص الفاخر لون وردي ناصع ك"بطاقة هوية"، تُعلن عن رقيّ المنتج. موسم الإزهار.. فرحة جماعية وولائم بعد الانتهاء من عملية التقطير التي تُقام غالبا في فناء المنزل أو ما يُعرف ب"وسط الدار"، تجتمع النسوة حول طنجرة التقطير ويتبادلن أطراف الحديث. كما يتبادلن ماء الزهر والورد المقطر بينهن. وقد اعتدن في قسنطينة على إقامة الولائم احتفالًا بموسم الربيع وتفتُّح الأزهار، حيث يُحضّرن الحلويات التقليدية كالبقلاوة، وطمينة اللوز، والمقروط، ويُقدمنها مع قهوة قسنطينية منكّهة بماء الزهر. تقليد مهدَّد بغلاء الأسعار في الآونة الأخيرة، أصبحت حرفة تقطير ماء الزهر مقتصرة على بعض العائلات الميسورة أو الوفية لهذا التقليد فقط، بسبب الارتفاع الملفت في أسعار الورد والزهر هذه السنة. ورغم ذلك لم يقف الغلاء حاجزا أمام استمرار هذه العادة العريقة التي ارتبطت بتاريخ قسنطينة، إذ إن زائر معرض نباتات الزينة في ساحة "لابريش" بدنيا الطرائف، يلاحظ تضاعف أسعار الورد بنحو ثلاث مرات مقارنة بالسنتين الماضيتين، حيث تراوح سعر "كبة الزهر من 2300 دج للكبة الصغيرة الى 4500 للكبة الكبيرة، فيما تراوح سعر الورد من 2300 الى 2500 دج للكبة. وأرجع بعض العارضين هذا الارتفاع إلى سوء الأحوال الجوية التي شهدتها الولاية. كما تعرف أدوات التقطير المعروضة بسوق النحاس في حي باردو هي الأخرى، ارتفاعا في الأسعار.... واليوم، ومع كل ربيع، تتجدد هذه العادة المتجذرة في ذاكرة المدينة. وتحتفي بها الولاية من خلال تنظيم مهرجان سنوي للتقطير يُقام في قصر أحمد باي. يتخلله كرنفال تقليدي تعزفه فرق العيساوة والهدوة، بينما تُعرض فيه أدوات النحاس، والحلويات المحلية، ومراحل التقطير التقليدية وسط أجواء بهيجة، تعكس حب القسنطينيين لتراثهم. وبينما تحاول الحداثة طمس ملامح الحرف القديمة تصرّ نساء قسنطينة على أن تقطير الزهر والورد ليس مجرد تقليد موسمي، بل هو فعل مقاومة ناعم، يعيد للمدينة عبقها كلما غلّفتها رائحة الزهر.