يربط الكاتب فؤاد بوخالفة إبداعه بالأسئلة الوجودية، وبعلاقته بمحيطه، ليحاور الذات والمعنى والروح والعالم بعمق، لتحمل نصوصه بعضا من الحيرة والدهشة، والتوثيق لمكان وزمان الذكريات، التي تنفجر في لحظة ما لتسرد ما حفظته من تفاصيل، ليطلق العنان للذات تتأمل بضميرها الحي، ولتستعين باللغة والإحساس لتقديم رؤية أكثر نضجا وعمقا ومعنى. التقت "المساء"، مؤخرا، الكاتب بوخالفة، الذي سينشط هذا السبت ندوة أدبية بفضاء مكتبة "الاجتهاد"، ليتحدث عن بعض طقوسه في الكتابة، وعن أمور أخرى متعلقة بنشاطه الأدبي والثقافي عموما. ويتناول كتابه "شيء من الكينونة" قضايا عديدة، كما إنه نص عميق وفريد من نوعه، يتساءل عن الحالة الإنسانية في صمتها، وانكساراتها، وومضاتها الشعرية. نظرة فلسفية للوجود يربط هذا المثقف بين الشعر الفلسفي والنظرة الواضحة للوجود، ليختار كلماته بعناية تتراوح بين الحدة والرقة؛ في تأمل حميمي وعميق للهوية، واللغة، والفراغ، والذاكرة. الكتابة، كما يؤكد بوخالفة، هي فعل حياة. تخضع للتأثيرات والهواجس، وتسرد الحال، وتصل إلى ما سيكون، حسبما يطرحه النص. وقال الأستاذ بوخالفة إن علاقته بالكتابة بدأت منذ السبعينيات. وقد شارك في العديد من اللقاءات والملتقيات. وكان أول نص نُشر له بعنوان "شاعر الأرض" . وهو قصيدة كتبها بالفرنسية، ونُشرت له بمجلة الوحدة (الطبعة الفرنسية). وتتحدث عن أهمية التكامل والوحدة بين أفراد الشعب لتحقيق التقدم وكذلك التكامل في أي مجال كان. ثم تَواصل نشاطه كمنشط في المجال الثقافي؛ كمهرجان مسرح الهواة. تجربة جيل كانت جميلة يمتد مشوار بوخالفة لأربعة عقود، مارس فيها عدة أنشطة، فكان أستاذا في العلوم الطبيعية، ومنشطا ثقافيا، ومراسلا صحفيا وغير ذلك. ولم يُخف بوخالفة حنينه لأيامه الخوالي مع تجربة العمل التطوعي إبان الثورة الزراعية، وما اكتسبه رفقة جيله، من تجارب، ومتعة، واحتكاك بالناس والطبيعة، والحياة عموما، زيادة على تجربة أخرى لا تقل أهمية، عاشها في نادي السينما؛ حيث نشّط ل 15 سنة متواصلة نادي "الشيخ حمادة" بمستغانم، وفي مسرح الهواة، وفي مجال حقوق الإنسان. وتناول الكاتب بعض قضايا العالم؛ منها قضية التمييز العنصري (الأبرتايد) بجنوب إفريقيا، وقضية فلسطين، متوقفا عند مشاركته في المهرجان العالمي للشباب بالعاصمة هافانا سنة 1978، حينها قرأ قصائده عن العنصرية. وعن كتابه "شيء من الكينونة" (به 37 نصا) قال إنه يحمل بعدا فلسفيا خاصا بالكتابة الأدبية متأثرا في ذلك بالفيلسوف ماتان إيديقار، موضحا بالمناسبة: "نكتب ما نشعر به". وبالنسبة له، الكتابة تنفجر في لحظة ما غير مخطط لها، يكون فيها الوعي، أو ينفجر ما بداخلنا من ماض، أو ذكريات، أو آلام، أو أحلام. اكتمال المعنى والرؤية وقال بوخالفة إنه يترك لكل سطر فراغا، ولكل كلمة مكانا محددا، وهو نوع من التأمل والتفلسف. كما تكتمل النصوص وتكمل بعضها في المعنى والرؤية، لتجتمع في كتاب يصلح حسبه للنشر، ويستحق القراءة. وعن هذا الكتاب قال إنه طُبع في المرة الأولى في صيغته "الخام" بفرنسا، وبطبعة محدودة في 2014. ثم نشره اتحاد الكتّاب الأوروبي على اعتباره بحثا أكاديميا، في 2019. لكن ثمنه كان مرتفعا حينها، ما جعل الأستاذ بوخالفة يقترحه على وزارة الثقافة لطبعه، ويكون في متناول القراء، خاصة منهم الطلبة. وهو يحمل مجموعة نصوص، كتب أغلبها منذ زمن، توحدت في طريقة الكتابة، وفي معنى الكلمة والمضمون. وهنا توقف ليقول : هناك نصوص منتهية المضمون "جاءتني فكرة النشر بعدما رأيت الراحل كاتب ياسين وهو يحضر عرض فيلم "الحب والثورة" . وتأثرت بامتداد الفكرة والمضمون لما بعد النشر أو العرض، ورأيت ذلك نوعا من المراجعة المستمرة للعمل حتى يصل إلى نقطة النهاية، التي لا بد لها أن تكون، علما أن نصوصا أخرى تكون نصوصا منتهية المضمون، ولا تحتاج للمراجعة أو الإثراء. وكل تلك النصوص التي أكتبها بعفوية ووعي، أستهلُّها بمقاطع شعرية". لكل نص إيقاعه الموسيقيُّ وأداؤه المسرحي كما أوضح الكاتب أنه يلتزم بإيقاع النص، وبالقراءة الموسيقية له، وهذا ما يتطلب حسبه قراءة موسيقية خاصة، تتمثل في الفراغات، وحجم الحروف، وتقطيع الفقرات، لتبدو القراءة في الأخير وكأنها عرض موسيقي أو أداء مسرحي، فيما قد يكتب كلمة ما برسمها مباشرة مثل رسم كرسي بشكله الحقيقي، أو آلة الموندولين وغيرها. وعند قراءة مقطع من الكتاب يحافظ على هذا الإيقاع بالصوت الرخم أو الحاد؛ فلكل نص موسيقاه الخاصة، تكتمل عند اكتمال النص والأداء. ويبقى القاسم المشترك بين نصوصه هو الشعور بالحب، والبحث عن كينونة الذات، وغالبا ما كان يؤكد الكاتب في هذا اللقاء، ل "المساء" ، على أن المضمون مستمَد من تجارب الحياة، ومن الممارسة الأدبية، التي قال إنها تشبه الوشم. هذا الأخير الذي هو انعكاس لما هو بداخل الإنسان ، موضحا أن الكتابة هي بحث، حتى وضع اليد على الجرح، لتنعكس في مضمون يتجلى في نص مكتوب، ممثلا بتأثره في أيام العشرية السوداء، باغتيال 10 معلمين؛ إذ بقي الألم في داخله، ليتحول بعد سنين إلى نص. ومن جهة أخرى، أشار إلى أنه يستعمل، أحيانا، أسلوب السرد على لسان القوال، أو متصوف حكيم. وباختصار، فبمجرد أن تصبح الفكرة واضحة وبمجرد ظهور موضوع من النص الذي يتم تشكيله، يحدث انفجار من الاحتمالات المختلفة لمسارات القراءة التفسيرية، ليستمتع القارئ بما يقرأه من معاني الحياة والوجود. ومن النصوص التي عرضها الكاتب على "المساء"، نص ""وفاء رحل"، يثير فيه التفاوت في المعايير الإنسانية بين الشرق والغرب، وكذلك نص "الربيع"، و"ألم الحب"، و"العشرية السوداء"، و"المرأة" وغيرها.