صدر مؤخرا عن دار «ذاكرة الأمة» للنشر والتوزيع الجزائرية، كتاب للباحث الأكاديمي بومدين بوزيد، عنوانه «التصوف والسلطة: جدل المقاومة والسّلم ورمزية صاحب الوقت». الكتاب يضم أربعة فصول تعالج الاهتمام العلمي الأكاديمي للعلاقة الجدلية بين السلطة والتصوف. يرى المؤلف أن اشتغاله على قضايا التأويل والقراءة في البحث والكتابة جعله يعود إلى نصوص جزائرية مخطوطة محقّقة، وإلى تاريخ الحركات الصوفية وتشكّلها في الجزائر بالخصوص، وقد تزامن ذلك مع اهتمام رسمي بالتصوف والطرقية كحماية من التطرف الديني والعنف من جهة، ومطلبية العودة لإحياء الخصوصية الصوفية المميزة لهويتنا وقيمنا الثقافية والاجتماعية. ويشير المؤلف إلى أنّ «الحديث عن المرجعية الدينية والوطنية للمغاربة والجزائريين أمام العولمة الجارفة، تتطلب العودة إلى الخصوصية الصوفية المميّزة لهويتنا وقيمنا الثقافية والاجتماعية، بغض النظر عن الدوافع السياسية والإستراتيجية»، معتبرا أن التصوف والطرقية كتراث ديني وثقافي وأنثروبولوجي يمكن أن يشكّل وقاية من التطرف عند الشباب، وهو ما تحوّل في بعض البلدان العربية إلى جزء من رهان سياسي في زمن ما أصبح يعرف ب «الربيع العربي». ويسعى المؤلف ضمن كتابه إلى فهم العلاقة بين التصوف -كمؤسسة ثقافية واجتماعية - والسلطة، سواء تمثلت في أنظمة سياسية، مثل المرحلة الكولونيالية الاحتلالية للجزائر، أو من خلال علاقتها بالآخر (أي المسيحي الغازي)، ويوضح أن التجربة الصوفية الطرقية تجربة دينية تاريخية اجتماعية معقدة، وأنها ظاهرة تاريخية لا تخضع للمقاسات العادية وللفهم السريع، كما أن الارتباط بالسياسية والسلطة والمال ظاهرة تحتاج إلى معاودة القراءة، التاريخ والتأويل، أما التوظيف لها اليوم، فهو يتوقف على طبيعة هذا التوظيف الذي قد يكون سافرا أحيانا ويخضع لموازين تتعلق بالانتخابات، النفوذ والقوة. الفصل الأول من هذا الكتاب عبارة عن دراسة منهجية عن واقع الدراسات التاريخية الثقافية في الجزائر، حاول فيه الباحث ملامسة منهجية تحليل الخطاب واستثمار النقد الثقافي المستثمِر للأبحاث الأنثربولوجية وفلسفة التاريخ التي تطرح قضايا الفهم والتأويل، وتلتها ثلاث دراسات تطبيقية؛ منها واحدة خصّصها لنص منقبي حول حياة صوفي صاحب مؤسّسة دينية وعلمية بمجاجة بولاية الشلف، غرب الجزائر، والباقيان بحثا العلاقة بين التصوف والسّلطة مع التركيز على «المقاومة والموقف من الآخر». ويتناول في الفصل الثاني جدلية الرفض والخضوع في العلاقة بين التصوف والسلطة، يشير فيه إلى أن جدل القرب والبعد من السلطة القائمة، ظل عامل تقوية وإضعاف للطريقة الصوفية، واعتبر القرن 19 في الجزائر على سبيل المثال قرن استثناء في ارتباط التصوف الطرقي بالجهاد والمقاومة، كما أنه في فترات الأزمات في تاريخ المغرب العربي أصبح جزءا من التبرير الديني للتسلط السياسي أو الاقتصادي. ويتحدث الدكتور بوزيد في الفصل الثالث من مؤلفه «جدلية الرفض بين الصوفية والاحتلال»، ويستعرض رمزية «صاحب الوقت» من خلال انتظار مجيء المخلص كعقيدة وثقافة وقيم، «أنها مهدوية يشترك فيها الجميع، ولكنها تتحول إلى مهدوية شريّة بقيامها على الظلم أو تحولها فيما بعد عن مسارها الحقيقي»... لقد سبق لشعوبنا في القرنين 19 و20 أن اعتقدت كاملة وكقوة إيمانية بالمهدي المخلص، وقد سمته المقاومة في الجزائر «صاحب الوقت» أو «مولى الساعة»، وجرى التبشير به في المساجد والزوايا وحلقات الأسواق... وقد كتب بعض المشايخ والفقهاء كراسات وكتبا ما يزال بعضها مخطوطا لم يحقق لليوم فيه حديث عن المهدي المنتظر وعلامات الساعة، لقد ارتبطت المهداوية في ثقافتنا المغاربية بالتصورات الشعبية وازدادت أكثر في فترات القهر، الجوع والظلم، فكانت متنفسا للأمل والرجاء». أما آخر فصل في المؤلَف، فقد تناول فيه الكاتب السلطة الروحية والجهادية، وتحدث عن سيرة الأمير عبد القادر الجزائري الذي تعلم الطريقة الصوفية القادرية، مشيرا إلى أن مفاصل سيرة الأمير تتقاطع مع سيرة الرسول الكريم في مواقع كثيرة، فالمرتدون زمن الخلافة الراشدية الأولى والخوارج الذين حاربوا عليا بن أبي طالب، هم أنفسهم هنا القبائل الذين نقضوا البيعة وتحالفوا مع المحتل المسيحي الفرنسي. كما تحدث المؤلف في الجزء الأخير عن لغة الحرب والانتصار، وجدلية عودة الغائب والبحث عن الشرعية. ويكون الدكتور بومدين بوزيد قد قدم بمؤلفه «التصوف والسلطة» إصدارا جادا يمكن أن يعتمد عليه الطلبة والباحثون في كل الأمور المتعلقة بهذا الجانب.