نهاية الصبر الاستراتيجي: بقلم: د. سراج منير محلل سياسي متخصص في شؤون الشرق الأوسط يبدو أن العالم الإسلامي أو ما تبقى منه يقترب من نقطة الانكسار، لا من باب المواجهة، ولكن من باب الغياب التام عن ساحات الفعل الاستراتيجي. المعادلات تتغيّر، والمسرح يتحول، وإسرائيل تتقدّم بثقة نحو مشروعها التاريخي، بينما تتعثر القوى الإقليمية المعارضة لها في حسابات باردة تُبقيها في خانة "ردود الأفعال المؤجلة"، لا المبادرات الحاسمة. في هذا السياق، يبرز تحذير المفكر الروسي ألكسندر دوغين كمحاولة نادرة لفهم تسلسل الأحداث خارج السردية الغربية: حرب عالمية ثالثة لا تنفجر دفعة واحدة، بل تزحف ببطء، وتُفرَض تدريجيًا، مستثمرة الانهيار الأخلاقي والذهني للنخب السياسية في الشرق والغرب. (إسرائيل): من استراتيجية الردع إلى استراتيجية التفكيك منذ اغتيال قاسم سليماني عام 2020، بدأت ( إسرائيل ) تنفّذ سياسة الضربات المتدرجة التي تستهدف البنية التحتية للمحور الإيراني: منشآت نووية، علماء، قادة ميدانيون، وحتى مراكز السيطرة الإلكترونية. هذه الضربات لا تُحدث ضجيجًا عالميًا كبيرًا، لكنها تُحدث تصدّعات هائلة في داخل النظام الإيراني وحلفائه. وقد استطاعت إسرائيل عبر تلك الضربات إلى جانب تحالفها المتين مع الولاياتالمتحدة أن تؤسس لمعركة صامتة، متواصلة، لا تعترف بحدود جغرافية، ولا تخضع لحسابات الردع الكلاسيكية. الرد الإيراني؟ كلمات في المحافل الدولية، أو عمليات هامشية لا تُغيّر قواعد اللعبة. المحور المقاوم: هل تأخّر كثيرًا؟ حين اندلعت الحرب على غزة في 7 أكتوبر، ظنّ كثيرون أن ساعة المواجهة الشاملة قد حانت. لكن سرعان ما استُهلكت أوراق غزة ولبنان وسوريا الواحدة تلو الأخرى، بينما التزمت إيران خطاب "الصبر الاستراتيجي"، دون أن تدرك أن هذا الصبر يتحوّل يومًا بعد يوم إلى "عجز استراتيجي".وحين تسمح إيران لإسرائيل أن تفرّغ الساحة من مقاومي غزة، ثم تستنزف حزب الله في اشتباكات حدودية، وتدمّر بنيته المدنية في الجنوب والبقاع، دون ردّ نوعي مباشر، فإنها عمليًا تُقدّم هدية استراتيجية مجانية للعدو: تفكيك المحور المقاوم من الأطراف دون الحاجة لحرب شاملة. السنّة: من تخلّي تاريخي إلى كارثة مرتقبة الدول السنية الكبرى وعلى رأسها السعودية، مصر، وتركيا اختارت منذ سنوات التخفف من "العبء الفلسطيني"، وتبنّت خطاب التطبيع الصامت أو العلني. وهي اليوم تتابع انهيار المنظومة المشرقية بهدوء لا يخلو من حسابات براغماتية، لكنها تغفل عن حقيقة بسيطة: بعد أن تفرغ إسرائيل من تطهير بيئتها الشمالية والجنوبية من "الخطر الشيعي"، ستلتفت إلى القدس والأقصى، وهناك لن ينفع الخطاب المعتدل، ولن تشفع موازنات الاستثمار في الخليج. التاريخ لا يرحم المتفرجين. (إسرائيل) الكبرى: خريطة تتحقق على نار باردة "إسرائيل الكبرى"، لم تعد مجرد حلم توراتي، بل مشروع استراتيجي مدعوم بغطاء أمريكي أوروبي، ومغطى بأدوات تكنولوجية وعسكرية خارقة. التحولات في الجغرافيا السياسية، وتفكك المجتمعات العربية من الداخل، جعل من هذا المشروع قابلًا للتحقيق بوتيرة ثابتة. متى يُهدَم المسجد الأقصى؟ ربما ليس اليوم. لكن سؤال التوقيت لم يعد متعلقًا بقدرة إسرائيل، بل بمدى استمرار العالم الإسلامي في غيبوبته السياسية. الجماهير: تنويم مغناطيسي على أطراف الجحيم بينما تُشن الحروب بالوكالة وتُرسم خرائط جديدة، ينشغل الجمهور العربي والإسلامي في عوالم وهمية من الترفيه الرقمي والفتن الداخلية. هذا "الوعي المشلول" لم يكن ممكنًا لولا تآمر النخب السياسية والإعلامية، التي وظّفت أدوات الحداثة لبناء جدران عزلة شعورية بين الناس ومصيرهم. دوغين كان دقيقًا: الزمن يُمدَّد، والحرب لا تندلع دفعة واحدة، حتى يُستنزف العالم نفسيًا ويصبح مستعدًا للقبول بالمجزرة كأمر واقع. خاتمة: هل ما زال الوقت صالحًا للتدارك؟ ربما لم يُغلق باب الفعل كليًا، لكن المؤشرات كلها تقول إننا نقترب من لحظة لن يكون فيها الصمت ترفًا، بل خيانة. المطلوب اليوم ليس فقط تحالفًا عسكريًا أو محور مقاوم، بل نهضة وعي استراتيجي على مستوى الشعوب والنخب، تعيد صياغة موقع الأمة في مشهد دولي يتّجه نحو إعادة تقسيم العالم، بالقوة لا بالمعاهدات. فهل نستفيق قبل أن نجد أنفسنا نحارب – أفرادًا – دفاعًا عن ما تبقى من التاريخ؟