بقلم: صبحي حديدي- الانتصار الصريح الذي حققه جيريمي كوربن في انتخابات حزب العمال البريطاني الأخيرة يستحق وقفة خاصة أكثر تفصيلاً وتعمقاً لا يتيحها مقام هذا العمود. أشير سريعاً إلى أنّ صعود الرجل قد يدشّن طوراً في التمايز الصريح بين حزبَيْ العمال والمحافظين على أصعدة الأيديولوجيا والاقتصاد الوطني والسياسة الخارجية بصفة خاصة لم تشهده بريطانيا منذ عقود طويلة. وفي الانتظار من الخير التوقف عند أحد كبار خصوم كوربن الذي يحدث أنه ابن حزب العمال أو (العمّال الجديد) على نحو أدقّ: توني بلير رئيس الوزراء البريطاني الأسبق. معارضته لانتخاب كوربن اتخذت وجهة تحريضية بغيضة وبعيدة عن روحية النقد بين رفاق الحزب الواحد بل يصحّ القول إنّ الخصوم في حزب المحافظين امتنعوا عن استخدام أساليب الهجوم التي اعتمدها بلير. ولقد بلغ الأمر ذروة قصوى في لجوء بلير إلى عبارات ساخرة من الطراز التالي على سبيل المثال: سياسة كوربن فانتازيا مثل أليس في بلاد العجائب أو: إذا كان قلبك هو الذي يحثّك على انتخاب كوربن فازرع قلباً آخر أو: حتى إذا كنتم تكرهونني أرجوكم ألا تأخذوا الحزب إلى حافة الهاوية أو أخيراً اعتبار ثورة كوربن محض فقاعة. أرباح بلير ليس خيار بلير غريباً مع ذلك بالنظر إلى منظومة أفكاره الإجمالية سواء بصدد الحزب أوّلاً أو حول مسائل السياسة والمجتمع والاقتصاد فضلاً عن البغضاء الشديدة التي حكمت مواقف بلير إزاء ما يسمّيه (اليسار التقليدي) في بريطانيا. لقد صعد من صفوف الحزب إلى هرم القيادة على أساس مناهضة سياسات مارغريت ثاتشر الاجتماعية الاقتصادية ومن منبر الدفاع الحارّ عن حقوق الضمان الصحي والنقابات واقتصاد السوق. لكنه سرعان ما خان معظم الوعود التي قطعها في مؤتمر الحزب سنة 1996 فأدرك الناخب البريطاني أنّ الفارق البرنامجي بين بلير وثاتشر أشدّ ضآلة من أن يحول دون انتخابه مرّة ثانية ثمّ ثالثة. وذات يوم قدّرت صحيفة ال(إندبندنت) أتعاب بلير بعد اعتزاله السياسة سنة 2007 بمليونَيْ جنيه سنوياً من مصرف بريطاني كبير ونصف مليون من شركة خدمات مالية سويسرية وأجور تتراوح بين 50 و170 ألف جنيه لقاء محاضرات متفرقة إلى جانب أرباح مؤسسة (بلير وشركاه) للاستشارات عبر البحار. كما تناقلت الصحف البريطانية خبراً يقول إنّ بلير تقاضى 200 ألف جنيه أسترليني لقاء محاضرة ألقاها أمام كوادر شركة مضاربات كانت قد استغلت متاعب المصارف البريطانية خلال الأزمة المالية الكونية وحققت عشرات الملايين من الأرباح. اللافت في الأمر أنّ تلك الشركة معروفة بتعاطفها مع حزب المحافظين وتتبرّع لحملاته بمئات آلاف الجنيهات مقابل عدائها الشديد للعمال أي الحزب الذي وضع بلير في رئاسة. وعلى نحو تقريبي بلغت حصيلة ما جناه الرجل في تلك السنة وحدها قرابة 15 مليون جنيه أسترليني! خلال الفترة ذاتها كان بلير على أعتاب المثول أمام (لجنة شيلكوت) البرلمانية البريطانية التي كُلّفت بالتحقيق في خلفيات التحاق بريطانيا بالولايات المتحدة في غزو العراق واحتلاله وسط إصرار بلير على أنه كان سيشارك واشنطن في الإطاحة بنظام صدّام حسين حتى من دون التأكد من وجود أسلحة الدمار الشامل. ولقد بلغ به الصلف حدّ التصريح علانية بأنّ عدم العثور على تلك الأسلحة كان تفصيلاً (فنّياً) محضاً وأمّا (الصورة الأهمّ) في المشروع بأسره أي الغزو والاحتلال وقلب النظام فإنها كانت ثقته المطلقة بصواب قراراته ومشروعيتها وأخلاقيتها. ومن المعروف أنّ بلير زاود على الأمريكيين أنفسهم في تصعيد الحرب النفسية خصوصاً حين نشرت حكومته ما أسمتها (تقارير سرية خطيرة) عن وجود ترسانة عراقية مرعبة خرجت بغتة من مغارة على بابا: صواريخ سكود سليمة مصانة وأطنان (نعم أطنان!) من المواد الكيميائية الجاهزة للتحوّل إلى أسلحة كفيلة بإبادة (سكان الأرض بأكملهم) كما جاء في النصّ الحرفي حينذاك. وليس الأمر أنّ هذا السجلّ الأسود يضع بلير في آخر لائحة الذين يحقّ لهم السخرية من خيارات أعضاء حزب العمال (خاصة أنّ معدّل انتخاب كوربن فاق معدّل انتخاب بلير سنة 1994 رغم تبديل نظام التصويت) بل هو في العمق محاولة يائسة عزلاء بقدر ما هي حاقدة لإغلاق بوّابات التاريخ المعاصر المشرعة أمام التغيّر الجذري والتمايز الملموس. وهذا هو التاريخ ذاته الذي برهن أنّ (فلسفة) بلير هي الفقاعة وفي باطنها الأجوف ثمة حنين جارف إلى ذلك الخطّ الرمادي الباهت الذي توجّب أن يأتي كوربن لتصحيح ألوانه وردّها إلى مدلولها الأصيل.