بقلم: سعيد الشهابي بين عالم يسوده السلام وآخر يعمّه الاضطراب والخوف تتباين مواقف الدول إزاء العمل المشترك الذي يتطلب توافقات لا تتحقق إلا بالمرونة والتنازلات. فمن يدعو للسلام قد لا يمارس سياسات تحققه خصوصا أنه لا ينسجم مع أطماع تجّار السلاح وعشاق التوسع والهيمنة. فهذا السلام يحتاج لقوّة السلاح لدعمه ومنع الاختراقات التي تهدده. وهناك أبعاد لسياسات الدول التي تتعارض مصالحها مع انتشار السلم العالمي في مقدمتها المصالح الاقتصادية التي تتحقق بصناعة السلاح وتصديره. ولطالما انتشرت المنظمات التي ترفع شعار السلام وتسعى لمنع انتشار السلاح خصوصا النووي منه. وفي مقدمة هذه المنظمات حملة مكافحة انتشار السلاح النووي . وما أكثر الأفراد الذين رسموا لأنفسهم طريق التصدي لانتشار السلاح وبذلوا جهودا لمنع انتشاره وما أكثر المجموعات التي اقتحمت مصانع السلاح في الدول الغربية ضمن محاولات منع إنتاج السلاح والاتّجار به. ولكن يبقى صوت السلاح أرفع من دعوات السلام. فمن يملك السلاح يسعى لفرض رؤيته الخاصة للسلام الذي يريده. ومن أخطر السيناريوهات أن يتمتع مالكو السلاح بحقوق سياسية متميزة على الصعيد العالمي وأن تتوفر لهم الفرص لمنع فرص السلام. ويُعتبر حق النقض المعمول به في مجلس الأمن الدولي من أخطر تلك الميزات. وقد اتضح هذا الخطر الأسبوع الماضي عندما هرعت الولاياتالمتحدةالأمريكية لاستخدام ذلك الحق لمنع صدور قرار عن مجلس الأمن الدولي يدعو لوقف فوري وغير مشروط ودائم لوقف إطلاق النار في غزة وإطلاق سراح الرهائن المحتجزين لدى المجموعات المسلّحة. إنه استخدام سيئ لحقّ أعطي للدول الخمس الدائمة العضوية بمجلس الأمن الدولي في مرحلة سياسية مضطربة أعقبت انتهاء الحرب العالمية الثانية. السلام كما هي الحرب يحتاج لقوّة عسكرية لتحقيقه. وبدون تلك القوّة يصبح السلام أداة يستخدمها القويّ كما يشاء بعيدا عن الضوابط السياسية والأخلاقية والعسكرية. وما أكثر الدعوات التي تنطلق في كل زوايا العالم لنشر السلام. بل أن الجائزة الكبرى الدولية خصصت لمروّجي السلام. ولم يعد سرّا أن الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب يتلهّف للحصول على تلك الجائزة التي منحت للرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما في العام 2009 تقديرا لجهوده في الحد من ظروف الحرب وتشجيع فرص السلام. فقد أعلن عزمه قطع دائرة التدخلات العسكرية التي أطلقها سلفه جورج دبليو بوش في أفغانستان عام 2001 وفي العراق عام 2003. ويعتبر ترامب العدوان الإسرائيلي المتواصل على غزّة فرصة لإثبات قدرته على ممارسة دوره لإحلال السلام في تلك المنطقة. ولكنه يتجاهل أنه مارس عدوانا على بلدان آمنة في الشرق الأوسط وسمح لأجهزته باغتيال عناصر بارزة كان وجودها ضرورة لترويج السلام. فإذا لم تحدث مراجعة لملف منح جوائز السلام فسيبدو المشروع خطوة طائشة لا تنتمي لشجرة راسخة من المشاعر الحاضنة للسلام. فهو مشروع ذو شكلين: فإمّا أن يكون صادقا ونابعا من نفوس الفرقاء الراغبين في كسر الجمود بينهم برغبة أكيدة أو أن يكون مفروضا من أطراف خارجية إما بدوافع إنسانية أو سياسية. أيا كان الأمر فلكي ينمو هذا المشروع في نفوس المشاركين فيه فإنه يحتاج لرعاية خاصة بتحاشي ما يتناقض مع أطروحة السلام وترويج ما يدعمها. فإذا كان هذا السلام مفروضا فإنه لا يختلف عن الحرب المفروضة بقوة السلاح ونوازع الشر والغلبة. إن العالم في حاجة لتكريس ما يروّج التعايش والتآخي بين البشر بعيدا عن أجندات الحكّام والأنظمة والسياسات الهادفة لصناعة الأزمات وتكريس التوتر وقطع الأواصر والعلاقات بين البشر. * مفهوم الجائزة إن من الخطأ الشنيع أن تتحول مقولة السلام إلى سلعة يتم التعاطي معها كطريق لتحقيق رغبات القادة السياسيين الذين لا تدفعهم المبادئ والقيم للدفاع عن السلام وترويج قيمه ومنع نشوب الحرب بل يندفع بعضهم لذلك بدافع من الرغبة في الحصول على جائزة نوبل للسلام. إن من المؤكد أن ترويج السلام هدف نبيل وان تخصيص جائزة لمروّجيه خطوة إيجابية تساهم في تقليص مساحات الحرب وترويج التوجه لإحلال السلام. ولكن هل القادة السياسيون للدول المعروفة بتوجهاتها للحرب يمثّلون توجها حقيقيا نحو السلام؟ هل يعكس تاريخهم السياسي نزعات حقيقية بهذا الاتجاه؟ أم أن الظروف هي التي جعلتهم في مواقعهم التي استغلوها لترويج أنفسهم كدعاة للسلام؟ هل كان منح مناحيم بيغين في العام 1978 جائزة نوبل للسلام قرارا صائبا أو أنه خدم مشروع السلام؟ لذلك تحمل هذه الجوائز تناقضات بنيوية كبيرة. ففي الوقت الذي تبدو ترويجا للسلام فإنها تبدو كذلك مكافأة لأشخاص كرّسوا الشطر الأكبر من حياتهم للعنف وإرهاب الآخرين ثم ارتدوا عباءة السلام عندما رجحت كفته في لحظة تاريخية خاصة. ولذلك يقتضي المنطق أن تكون الجائزة مشروعا لترسيخ قيم السلام في نفوس البشر من خلال برامج ولقاءات ومؤتمرات تعمّق شعور الانتماء لمشروع السلام بعيدا عن الانطباعات في لحظة زمنية قصيرة لا تعكس مدى انسجام حياة الأفراد مع السلام كثقافة ومشروع وهدف. يقول الرمز الأمريكي من أصل هندي جون شناندوا: لا يكفي أن تنادي بالسلام بل أن تمارس السلام تعيش السلام وتحيا في سلام . وهذا يصدق على الدعوات التي تنطلق عن السلام في ظروف الحرب والاختلاف. صحيح أن مجلس الأمن الدولي أقرّ مشروع السلام في غزّة بدءا بوقف إطلاق النار ولكن في غياب النوايا الصادقة لإحلاله من خلال التعاطي مع أسباب الحرب والتوتر سوف يظل السلام الحقيقي سرابا يدغدغ بعض العواطف ولكنه لا يوفر لأهل غزّة العيش الهانئ المحفوف بالسلام الحقيقي. فالقائد الذي تعتمل في نفسه مشاعر الكره قد يُجبر على توقيع صك السلام ولكنه لا يستطيع أن يعيش السلام شخصيا وسرعان ما يتخلّى عنه. إن غزّة وأهلها في حاجة إلى سلام حقيقي لا يستطيع الاحتلال توفيره ولكنه ممكن بشرط دعمه عمليا من أطراف خارجية قادرة على كسر جماح قادة الاحتلال الذين روّضوا أنفسهم على التعايش مع مشاهد الدمار الشامل في غزّة والنزوح الجماعي عنها. هؤلاء القادة لم يجدوا غضاضة في معاينة طوابير الفلسطينيين الذين أجبروا على النزوح عن مركز غزّة لكي يدمره المحتل الصهيوني ليس في السرّ بل أمام عدسات الكاميرات ومرأى العالم ومسمعه. فماذا يعني السلام في هذه الحالة؟ نتنياهو الذي يسعى لإخلاء فلسطين كلها بما فيها قطاع غزة والضفة الغربية من سكانها الأصليين لا يُستبعد أن يُرشّح يوما لاستلام جائزة نوبل للسلام. هذا برغم التوجه لوصف المجازر التي ارتكبت بحق سكّان غزة ب الإبادة . *حقيقة ما يجري في فلسطين هذه الحقائق التي تطرح لتوصيف حقيقة ما يجري في فلسطين لا يمكن النظر إليها بانفصال عن أبعادها السياسية والحضارية. فالسلام مرتبط بشكل متين بالحوار بين الحضارات. فإذا غاب الحوار كما يسعى المحتلّون لفرضه على المنطقة تلاشت آفاق السلام. يقول صمويل هاننتغتون: في الحقبة التاريخية الحالية يعتبر صراع الحضارات أكبر تهديد لأمن العالم بينما قيام نظام عالمي على أسس حضارية هو الضمان الأقوى ضد نشوب حرب عالمية . فليس هناك اختلاف حول دور السلام لضمان الأمن العالمي وأن حوار الحضارات هو الذي يضمن استمرار ذلك. لذلك يمكن القول إن من يهدف لحماية أمن العالم فإن عليه أن يضع السلام عنوانا لمشروعه فمن خلال ذلك يتحقق الأمن العالمي. وفي الحالة الفلسطينية أصبح واضحا بعد أكثر من ثلاثة أرباع القرن أن هناك علاقة وثيقة بين أمن العالم وحماية فلسطين واستنقاذها من أيدي الاحتلال الغاشم. هذا يؤكد أن الاحتلال الإسرائيلي لم يخدم أمن العالم قط بل أصبح على قائمة الأسباب التي تهدد ذلك الأمن وأن السياسات الأمريكية الداعمة للاحتلال بدون مناقشة لا تخدم هدف السلام العالمي. فإذا أصبح ذلك السلام مهدّدا فإن أمن أمريكا لن تؤمّنه ترسانة السلاح العملاقة التي تمتلكها الولاياتالمتحدةالأمريكية.