لا تزال عقيدة المؤسسة العسكرية في الجزائر وعلاقتها بأنساق النظام ودورها في صناعة القرار السياسي، تشكل أهم الزوايا التي تسترعي اهتمام الباحثين بصفة عامة، فما يميز الجيش الجزائري بالدرجة الأولى هو هذه العقيدة، وهو أيضا وقبل كل شيء ارتباطه الوثيق بالتاريخ الثوري للبلد ومقدساته، وسعيه المتواصل من أجل تأكيد مكانته كمؤسسة جمهورية تضطلع بمهمة أساسية وهي الدفاع عن حرمة الوطن وأمنه واستقراره. ينظر إلى علاقة العسكر بالسياسة في الجزائر من زوايا جد خاصة ومميزة، والسبب يعود من دون شك إلى تاريخ النظام السياسي الجزائري الذي ارتبط عضويا بمؤسسة الجيش، فالجانب التاريخي والثوري كان له الدور الحاسم في تشكيل هذه العقيدة التي بقيت راسخة لدى أجيال من ضباط المؤسسة العسكرية، وبدا جليا أن المحطات السياسية الكبرى كان لها أيضا دورا في صياغة العلاقة بين العسكر والسياسة، وفي أحيان كثيرة في إرغام العسكر على ركوب سفينة السياسة وقيادتها بشكل أو بآخر كما حصل بعد وقف المسار الانتخابي في جانفي .19925 النقاش اليوم في الجزائر يتجاوز في الواقع إشكالية العلاقة بين العسكر والسياسة في صيغتها القديمة، فالإرادة التي أعلنت عنها المؤسسة العسكرية في بلوغ الاحترافية والالتزام بالضوابط الدستورية وترك السياسة لأهلها، كلها معطيات جديدة لابد أن تؤخذ بعين الاعتبار لتخليص المؤسسة العسكرية نهائيا من التهمة التي تطاردها منذ عقود باعتبارها »صانعة الرؤساء« أو الممثل الحقيقي لما تسميه بعض المعارضة بالسلطة الفعلية أو سلطة الظل. سنعود بالتفصيل إلى هذه العلاقة، خاصة على ضوء التصريحات الكثيرة لنائب وزير الدفاع الوطني وقائد أركان الجيش الوطني الشعبي التي تناول فيها ابتعاد الجيش عن الممارسة السياسية في رد مباشر على المعارضة، ونتناول أيضا مسألة في غاية الأهمية تتعلق بما سمي بمشروع »الدولة المدنية« الذي يريد تكريس حقيقة تخلي العسكر عن السياسة وإبعاد هذه التهمة نهائيا عن المؤسسة العسكرية، لكي يتحمل المدنيون مسؤولياتهم في تسيير دواليب الحكم، ويتركوا للعسكر الاهتمام فقط بمواجهة التحديات الكثيرة التي تفرضها المخاطر الكبرى التي تهدد الجزائر، وقبل ذلك نتطرق إلى جانب مهم لفهم طبيعة المؤسسة العسكرية في الجزائر يتعلق بالمرجعية التاريخية والثورية للمؤسسة العسكرية في الجزائر الخلفيات التاريخية والثورية.. يرتبط تاريخ المؤسسة العسكرية في الجزائر بشكل وثيق جدا بالتاريخ الثوري ، وربما قل ما نجد جيشا في العالم يشبه الجيش الجزائري في تواصله بالمرجعيات الفكرية والعقائدية للوطن، والحديث عن أطروحة » الجيش الوطني الشعبي هو سليل جيش التحرير«، ليست مجرد عبارة جوفاء موجه للاستهلاك تندرج ضمن محاولات كسب الشرعية أو تبرير سلوكات معينة، فالمؤسسة العسكرية في الجزائر هي مؤسسة بنيت على عقيدة الارتباط الوثيق بالشعب الذي يشكل عمودها الفقري، وكل المحاولات التي رأيناها في السابق أو حتى في الآونة الأخيرة للتعرض إلى شرف الجيش الجزائر، أو محاولة تشويهه من خلال اتهامه بالتورط في مجازر ضد المدنيين خلال عشرية الإرهاب، باءت كلها بالفشل كما سنرى فيما بعد، والسبب الرئيس هو التمازج القائم بين الجيش كمؤسسة والمجتمع الجزائري الذي ظل يحافظ على نظرة قريبة من التقديس لمؤسسة ولدت من رحم جيش التحرير الوطني باعتباره رمز للتضحية والتحرر والاستقلال الوطني. لقد شكل التحليل الذي قام به الباحث وعالم السياسة وليام زرتمان منذ عقود حول طبيعة المؤسسة العسكرية في الجزائر، أساسا للعديد من المحاولات الفكرية والإعلامية والدراسات الأكاديمية، في المجالين السياسي والسوسيولوجي، والسبب أن زرتمان يعتبر من الباحثين القلائل الذين تطرقوا إلى الجوانب العقائدية للمؤسسة العسكرية في الجزائر، مع أن دراسته انطلقت أساسا من محاولة فهم تدخل الجيش الجزائري في السياسة والعودة إلى العوامل التاريخية وحتى الاجتماعية للجيش الوطني الشعبي لتفسير تدخل العسكر في السياسة، وقد أغفلت هذه الدراسة، حينها محاولات فهم الجوانب العقائدية الإيديولوجية والفلسفية التي جعلت الجيش الوطني الشعبي يحافظ على الحبل السري الذي يربطه بسلفه أي جيش التحرير الوطني. لقد سبق لوزير الدفاع السابق في عهد الرئيس زروال، اللواء خالد نزار، في إطار محاولاته للرد على الذين يتهمون المؤسسة العسكرية بالتدخل المفرط في السياسة، ويحملونها العديد من الأخطاء التي نتجت عن هذا التدخل، خاصة بعد وقف المسار الانتخابي في جانفي ،92 وما رافق ذلك وما ترتب عنه من استشراء العنف ودخول البلاد في دوامة الإرهاب، أن أوضح في إحدى حواراته الصحفية إلى إشكالية السياسة والجيش، بان الجيش أرغم على ممارسة السياسة في إشارة واضحة إلى الظروف التي أحيطت بوقف المسار الانتخابي، لكن مع هذا يبقى الشيء الكثير الذي يمكن قوله حول علاقة الجيش الجزائري بالسياسة سواء في عهد الأحادية التي كان فيها الجيش يمارس السياسة بشكل واضح وعلني، أو في عهد التعددية وما قيل عن أدوار الجيش الظاهرة أو المستترة في صنع السياسات وفي اتخاذ القرارات المصيرية. نزار لا ينكر تدخل المؤسسة العسكرية في الشأن السياسي وإنما يحاول تبرير هذا التدخل، وعليه نكتفي هنا بالإشارة إلى نقاط نعتبرها مهمة لفهم عقيدة الجيش الجزائري، وطبيعة العلاقة التي تربطه بباقي أنساق النظام وبالفضاء السياسي، ومنطلق هذا الفهم يتطلب أولا أن ندرك بان الجيش الجزائري، قد ورث عن جيش التحرير الوطني، الكثير من الأشياء، ففضلا عن المرجعية الإيديولوجية والفكرية، ورث عنه حب التضحية وارتباطه الشديد بالوطن، وعلاقته الوثيقة بالشعب الذي يشكل ركيزته الأساسية، وورث عنه الرجال أيضا، فاللبنة الأولى التي تشكل منها الجيش الوطني الشعبي بعد 62 كانت من المجاهدين الذين واصلوا النضال رسالة جيش التحرير من خلال المساهمة في تأطير الدفعات الأولى من هذه المؤسسة التي أنجبت فيما بعد إطارات عسكرية عالية لا تزالي في الخدمة إلى حد الساعة. إذن الجيش الوطني الشعبي يشكل في الواقع أحد أهم أعمدة حماية الاستقلال الوطني، ومن هذا المنطلق فإن المؤسسة العسكرية في الجزائر كانت ولا تزال ترمز إلى تلك الغيرة على السيادة الوطنية وعلى الوحدة الوطنية خاصة خلال الأزمات، وما قام به الجيش الوطني الشعبي منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، والتحديات الكبيرة التي واجهها هو اكبر دليل على أن هذه المؤسسة بقيت وفية لأصولها ومنبعها الشعبي والثوري. لقد شكلت مرحلة التسعينيات من القرن الماضي امتحانا صعبا وخطيرا بالنسبة للجيش الجزائري، فمن جهة وجد نفسه مجبرا، على حد تعبير اللواء خالد نزار، للعودة إلى ممارسة السياسة بعد انسحاب ظرفي أملته عليه طبيعة التحول من النظام الأحادي الذي كانت تتداخل فيه مؤسسات الدولة ويعتبر فيه الجيش ركيزة من ركائز النظام وصناعة القرار السياسي، ومن جهة أخرى وجد نفسه في مواجهة تحدي أمني غير مسبوق اندلع مباشرة بعد وقف المسار الانتخابي الذي تم بإشراف قيادات في الجيش وفي المؤسسات السياسية كما هو معروف. مواجهة الإرهاب وحماية الحدود. لم تكن مواجهة الجيش خطر الإرهاب منذ اندلاع مسلسل العنف المسلح في بداية التسعينيات بالأمر السهل، فالتكيف مع حرب العصابات كان بمثابة رهان حقيقي كسبته قوات الجيش بسرعة فائقة وبعد تضحيات جسام، واستطاع هذا الجيش باعتراف الجميع حتى الخارج أن يكسب المعركة ضد فلول التطرف ويستعيد زمام المبادرة ويضمن الأمن والسلم للجزائريين ويحمي الدولة الجزائر من المخاطر التي كانت تواجهها، وحتى وإن لا يزال الإرهاب ينفذ من حين لأخر عمليات دامية ضد قوات الأمن والجيش والمواطنين، فهذا لا يعني بأن الإرهاب لا زال يهدد الدولة في الجزائر بل بالعكس تحول هم المؤسسة العسكرية بشكل خاص إلى الحدود وإلى تحصين الجزائر من خط النار الذي يحيط بها من كل جانب. لقد قام الجيش الجزائري ولا يزال يقوم بمهام كثيرة وخطيرة ويحقق انجازات كبيرة في مواجهة فولف المسلحين والمهربين في الجنوب خاصة بفعل الأوضاع المتردية في شمال مالي، ونفس الشيء يقال تقريبا فيما يخص الحدود الشرقية مع ليبيا، وحتى تونس التي تواجه التحدي الأمني في منطقة القصرين بجبل الشعانبي المحاذي للحدود مع الجزائر. لقد رفض الجيش الجزائر التخلي عن عقيدته الدفاعية والتدخل خارج حدود الجزائر، لكن ذلك لا يمنع هذا الجيش من تقديم المساعدات لمواجهة مشتركة ضد الإرهاب والتهريب في الجنوب والمناطق الشرقية المضطربة، وأما من الناحية الغربية فإن تصرفات النظام المغربي الذي يطلق العنان لمهربيه جعلت المؤسسة العسكرية تتدخل بقوة في مواجهة التهريب وهناك نتائج كبيرة حول العمليات التي قام بها عناصر الجيش الجزائري ضد مهربي الوقود أو مافيا المخدرات بالمناطق الغريبة . جيش جمهوري بعيد عن السياسة.. العودة إلى الجدل الذي سبق إعادة انتخاب الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لعهدة رئاسية رابعة، وحتى بعد ظهور نتائج الاقتراع، يجعلنا نقف عند حيثيات مشروع كبير لتخليص الجزائر من صورة ألصقت بها منذ عقود في علاقة العسكر بصناعة القرار السياسي، فالرئيس بوتفليقة قاد مشروع جديد يهدف إلى تكريس ما يسمى بالدولة المدنية، بمعنى تفكيك كل الروابط التي كانت قائمة بين العسكر وبعض الدوائر الحكومية التي هي من مهام المدنيين وفق القانون والدستور ولم تكن التغييرات التي قام بها على مستوى بعض مصالح مديرية الاستعلامات والأمن »الدي أر أس« اعتباطية أو تنطلق من منطلق صراعات بين الزمر كما يعتقد البعض، فحصر مهام العسكر ضمن الإطار الطبيعي الذي حدده الدستور هو مشروع يهم الجميع ويخدم الدولة الجزائرية بالدرجة الأولى ويصب في مصلحة المؤسسة العسكرية التي ألحت منذ سنوات على ضرورة الكف عن محاولة توريطها في الجدل السياسي الذي تثيره المعارضة، خاصة بعدما تمادت هذه المعارضة في طلب الجيش للتدخل تحت عنوان الإصلاح والتغيير والمرحلة الانتقالية، وحاولت بعض الشخصيات وبعض التشكيلات السياسية إرغام الجيش على أن يتحول إلى مؤسسة انقلابية تمنح الحكم على طبق من ذهب لسياسيين فشلوا في إقناع الجزائريين ببرامجهم وخطابهم السياسي. لقد صرح نائب وزير الدفاع الوطني رئيس أركان الجيش اللواء أحمد قايد صالح، في حفل تخرج دفعات عسكرية قائلا: »إن الجيش حريص كل الحرص على النأي بنفسه عن كافة الحسابات والحساسيات السياسية، وسيظل حامي الجمهورية طبقا لمهامه الدستورية ولتوجيهات الرئيس بوتفليقة«وأضاف: »أن المسؤوليات الجسيمة الملقاة على عاتق الجيش، تستوجب بالضرورة وعي الجميع بأن الابتعاد عن إقحام الجيش الوطني الشعبي في المسائل التي لا تعنيه هو واجب وطني تستلزمه المصلحة العليا للجزائر وتستوجبه دواعي ضمان مستقبل البلاد وحماية حدودها والحفاظ على سيادتها الوطنية«، وواصل: »لقد أكدنا أكثر من مرة على أن الجيش سيظل محافظا على الطابع الجمهوري ومتمسكا بالمهام التي خولها له الدستور، كما أن قيادة الجيش تؤمن أشد الإيمان بأن القوات المسلحة بلغت مستوى من النضج والتمرس المهني يجعل منها مرتكزا متينا يسمح باستكمال مرحلة الاحترافية وبناء جيش عصري وقوي«، ونفس الشيء تضمنه بيان لوزارة الدفاع أكد أن »الجيش الوطني الشعبي مؤسسة وطنية جمهورية حدد مهامها الدستور«، وأوضح أيضا أن »الجيش الوطني مؤسسة وطنية...وضح الدستور صراحة دورها في تدعيم وتطوير الطاقة الدفاعية للأمة التي تنتظم حول الجيش الوطني الشعبي الذي تتمثل مهمته الدائمة في المحافظة على الاستقلال والدفاع عن السيادة الوطنية«. لكن إلى جانب هذا الالتزام لابد من الإشارة إلى مسألة في غاية الأهمية تتعلق بالمفاهيم الجديدة للدفاع الوطني التي استوعبها الجيش الجزائري جيدا وسعى إلى تكريسها عبر الندوات الكثيرة التي تم تنظيمها على مستوى المؤسسة أو بالشراكة مع المؤسسات المدنية الدستورية الأخرى. فمقتضيات الدفاع في أبعادها الجديدة والتي تولدت عن نضج مفهوم الدفاع، وتعقد إشكاليات الدفاع وتوسع مهام الدفاع وتداخله مع هيئات وأجهزة أخرى، فرض منظورا جديدا قائما على إشراك المواطن في منظومة الدفاع الوطني بأشكال وصيغ مختلفة، والمعروف أن الجيوش الحديثة لم تعد تنظر إلى الدفاع الوطني من زاوية عسكرية وقتالية بحتة، ولكن من زوايا عديدة، تتداخل فيها العوامل الاجتماعية والسياسية والدبلوماسية مع المهام الدفاعية الصرفة. وبين هذا المفهوم الجديد للدفاع الوطني ومشروع الاحترافية صلة قوية، وتحقيق مشروع الاحترافية شكل صلب اهتمامات السلطات والمؤسسة العسكرية، وهناك عوامل كثيرة ومتشابكة فرضت ضرورة الذهاب إلى خيار الاحترافية وأول هذه الضرورات هو التقدم العلمي والتكنولوجي الهائل الذي شهده العالم في العشرية الأخيرة، ولم يقتصر هذا التطور على مجال الأسلحة الفتاكة أو تكنولوجية الاتصالات الضخمة والمعقدة، وإنما أيضا على الاستراتيجيات العسكرية التي لم تعد بشكلها التقليدي الذي يعتمد على قوالب قديمة كانت في السابق هي من يحسم المعركة ضد العدو في الميدان، وهو ما ظهر جليا خلال حرب الخليج الأولى التي برزت فيه التكنولوجيا ودورها في حسم المعارك، كما برز الطيران باعتباره خيار الجيوش الحديثة والقادر على إلحاق الهزيمة بالعدو عن بعد وقبل دخول باقي قطاعات الجيش إلى ميدان المعركة، وهو ما يوفر الكثير في الأفراد والعتاد وفي الخسائر البشرية. لقد شمل مشروع احترافية الجيش مختلف الجوانب التنظيمية والبشرية والعلمية ومجال الحصول على التكنولوجيا وتكييف مع النظريات التي تسير الجيوش الحديثة، وشمل أيضا مسألة في غاية الأهمية تتعلق بتحديث الترسانة التي بحوزة الجيش الجزائري من الأسلحة، وتنويع مصادرها والتركيز بشكل اكبر على تطوير سلاح الجو. ولم يأت بلوغ الجيش الجزائري أعلى المراتب في تصنيف جيوش العالم وفق معايير الاحترافية والتحكم في التكنولوجيا من فراغ، بل نتيجة لمسار طويل وثري امتزاج في العمل على مختلفة الأصعدة في مجال التكوين والتدريب والرفع من المستوى العلمي والتكنولوجي للأطر والأفراد، أو على مستوى التسليح حيث أصبح الجيش الجزائري المصنف الثاني إفريقيا بعد الجيش المصري، يمتلك ترسانة أسلحة جد متطورة تؤهله لأن يقوم بمهامه المحددة دستورا في حماية الوطن والدفاع عن وحدته وأمنه واستقراره والرد على مختلف التهديدات التي قد تأتي من الجيران أو غيرهم، خاصة في ظل تزايد التهديد الإرهابي على الحدود وتعدد أطروحات الفتن تحت مسميات مختلفة.