مع نهاية 2026..توقع انتاج 800 طن من سمك البلطي الأحمر    السودان : "الدعم السريع" حرقت مئات الجثث في الفاشر    رهان على التسويق الرقمي والحماية من التقليد.. 3 محاور أساسية للنهوض بالصناعات التقليدية بالجزائر    البليدة.. تحويل ثلاث مفارغ عمومية إلى حدائق    قسنطينة..أزيد من 1300 طالب جديد مؤمن اجتماعيا    لجنة المالية والميزانية للمجلس الشعبي الوطني:إدراج عدة تعديلات على مشروع قانون المالية 2026    مشروع قانون المالية 2026:تكريس الطابع الاجتماعي للدولة ودعم النمو الاقتصادي    المجلس الشعبي الوطني يشارك في اجتماع برلماني بروما    وهران..مناقشة آخر المستجدات في مجال الطب الداخلي    تحصين الجزائر ضد خطاب الكراهية وزرع اليأس    الجزائر ستظلّ قويّة وآمنة    ستّة ملايين زائر لصالون الجزائر للكتاب    قوجيل يدعو إلى التمسك بقيم نوفمبر    من يخلف عوداش على رأس نقابة القضاة؟    غنى النفس .. تاج على رؤوس المتعففين    فتاوى : واجب من وقع في الغيبة دون انتباه وإرادة    عبد الرحمان بن عوف .. الغني الشاكر    إدوارد سعيد عمدةً لنيويورك    نحو سياسة عربية مختلفة    بسكرة : حجز 5600 مؤثر عقلي نوع بريقابالين    توقيف 6 أشخاص و حجز 176 ألف كبسولة "بريغابالين"    أمطار رعدية غزيرة اليوم على ولايات الشرق    مشاريع قيد الانجاز تعكس صورة الجزائر    الولاية ستستفيد من مشاريع منها مصنع للسيارات لعلامة مهمة    سعداوي يشارك في انتخاب مدير اليونسكو    مازا في التشكيلة المثالية    جلاوي يستقبل سيناتورين    استفتاء تقرير المصير حق قانوني للصحراويين    بوقرّة يستدعي سليماني وبودبّوز    لحيلح وبوجدرة في صورة واحدة!    استلام كلي لبرنامج 350 مخزن للحبوب نهاية 2025    لا نمانع وجود قوات دولية على حدود غزة    6 ملايين قنطار بذورا وأسمدة لإنجاح حملة الحرث والبذر    حذار من الذكاء الاصطناعي في المراجعة    شروط صارمة لاستخدام "الدرون" المستأجر بأطقم أجنبية    تشديد على احترام آجال إنجاز المشاريع التنموية    شروط جديدة لتجارب تكافؤ الأدوية    لا وصف للمضادات الحيوية إلا للضرورة القصوى    ضعت مع الشعر وأنا شاعر حتى في حياتي اليومية    منصب جديد لمازة يقدم حلولا فنية لبيتكوفيتش    مدرب مرسيليا الفرنسي يتأسف لغياب غويري    عبدلي يرفض التجديد مع أونجي والوجهة ألمانية    وفاة طفل في حادث مرور    حين تتحدث الدُّور عن فكر يتجدّد وإبداع لا يشيخ    الرسومات تخفّف من شدّة الكلمات    ضبط كيف معالج و2460 قرص مهلوس    الشرطة تستقبل 1795 مكالمة خلال شهر    وزير الفلاحة يشرف على افتتاح الطبعة العاشرة    دعاء في جوف الليل يفتح لك أبواب الرزق    غزّة بين نتنياهو وترامب    صيدال يعتزم إنجاز وحدات انتاجية    معرض فوتوغرافي في برلين يسلط الضوء على الثقافة والمقاومة الصحراوية    جلسة طارئة لمجلس حقوق الإنسان الأممي بشأن الفاشر في 14 نوفمبر    مختصون يدعون الى إعادة النظر في أساليب الكتابة الموجهة للطفل    تيطراوي بن قارة لأوّل مرّة.. وبن ناصر يعود    مؤسسة Ooredoo تبرم شراكةً رسميةً مع نادي مولودية وهران    تحذيرات نبوية من فتن اخر الزمان    استفسر عن حالته الصحية وجاهزيته للعودة إلى الملاعب.. بيتكوفيتش يطلب مشورة سويسرية حول قندوسي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رحيل خالتي الحاجة فافة الخرفي
وجه عصي عن النسيان
نشر في صوت الأحرار يوم 15 - 02 - 2017

أم أخرى من أمهاتنا الطاهرات ترحل، وتتركتنا نبتلع غُصص الهم والحزن ولا نسيغها... إنها خالتي فافة الخرفي شقيقة الأديب والشاعر صالح الخرفي، رحمهما الله.
.ما عساني أقول في يوم رحيلك، أيتها الخالة الفاضلة، وأنّى لي أن أتشجع على حمل القلم لخط كلمات توديعك. فمنذ قابلتك قبل أزيد من عقد ونصف عقد من الزمن، لم تفارقني صورتك، ولم تنس شفتاي الترنم باسمك في تطريب لا يخف وفي تحنان لا يخفت. وكنت كلما قرأت اسم مدينتك "القرارة" في كتاب أو في نص، أو رأيتها في لوحة مزينة، إلا وأبصرت وجهك متواريا بين السطور أو مختبئا خلف الألوان، وسمعت صوتك يتسلل خفيا وخفيضا كمن يهمس في أذني. فأنت عندي واحدة من أكبر عناوين الحاضرة "القرارة" عاصمة الوثبة الإصلاحية السباقة في جنوب الجزائر.
خالتي فافة العزيزة ...
مازلت أذكر، وكأن الموقف داني العهد وقريب المثول، يوم زرتك لأول مرة. فقد دخلت غرفتك على استحياء مستحضرا احترام الأعراف والالتزام بالأصول. ووجدتك ملفوفة في لباسك التقليدي من أعلى رأسك حتى أسفل قدميك، وجالسة كالملكة المتوجة على سريرك. وبعد أن استاذنت مرافقي، وأظنه ابنك المربي الأخ الهاشمي لمصافحتك، لم تنتظري رده بالإذن أو الاعتذار، ومددت إليّ يدك من تحت طرف ملحفتك الصوفية الناصعة مرحبة بقدومي بكلمات رقيقة مزجت فيها بين اللهجة الميزابية ذات الترصيع الأنيق والعربية الدارجة. ولم يكن احتشامك في الهندام يمنع انفتاح قلبك أمامي تعظيما لرابطة العلاقة الأدبية التي جمعتني بأخيك وقرة عينك الدكتور صالح الخرفي، رحمه الله.
عندما طلبت منك أن تحدثيني عن صالح في صغره، شعرت وكأنني غصت في أعماق عواطفك التي لم يلتئم جرحها من بعد فراقه رغم مرور زمن زاد عن حولين من رحيله. ولما انطلقت في الحديث عنه، شددت على شفتاي كمن يحاول أن يقبض على موجات أنفاسه في شهيقها وزفيرها، ويخلي الجو من أرق صخب وأرهف حركة حتى لا يفوته ولو نزرا من حديثك. وأخذت جوارحي أُهبتها كاملة لالتقاط كل كلمة من كلماتك الحبلى بمؤونة الذكريات التي لم تتلفها السنوات الطويلة في مراقدها المحفوظة بين طيات ذاكرتك. ولما كنت تتحدثين تعمدت ألا أقاطعك ولو بالإشارة حتى تمضين في استرسالك غير متهادية أو متلكئة، واندهشت لقوة ذاكرتك التي طاوعتك في مصافاة ومعاونة. وفي تلك الدقائق التي مرت عجلى كضياء البرق، أحسست أن تذكرك لشقيقك صالح يثير في نفسك ما تثيره البلاسم المصفوفة على جانب سريرك في جسمك من تسكين للأوجاع وخنق للآلام، وتنسيك أتعاب الأمراض.
كان حديثك عن فترة صبا شقيقك صالح حديثا مشوقا؛ لأنه عاش بقية مراحل عمره الأخرى بعيدا عنك وعن العائلة والأهل والأصدقاء في مدينة "القرارة". واكتشفت أنك تمثلين سجلا نادرا حافظ على محاولاته الشعرية الأولى التي كان يجتهد في نظمها في صغره بلسان مزابي فاتن، والتغني بها في فناء المنزل كلما عاد من المدرسة. وكيف كنت تصغين إليه في انتباه ويقظة لحفظها وترديدها من بعده في طرب وشجو. وقد اسعفتك ذاكرتك الحافظة على إسماعي رواسب مما بقي مدونا فيها. وكانت تلك البدايات المبتسرة إرهاصات تقدمت شاعريته الخلابة التي منحت له مكانة مرموقة بين صفوف شعراء اللغة العربية في المغرب والمشرق. ولما توقفت عن البوح والتغريد، ألهب استرجاع ذكرياتك بأخيك الوحيد صالح مكامن دموعك، فتنبع الدمع في عينيك غزيرا. وتعمدت السكوت هنيهة بين انتباه صامت وشرود مذهل.
كانت لكوب الشاي الذي ارتشفته على انقطاع في حضرك، يا خالتي فافة العزيزة، كان له مذاق سائغ. وكانت لصنوف الحلوى المنزلية المزينة للصينية التي بسطت أمامي طعم لذيذ. وتحت إلحاحاتك وترجياتك التي لم أجد حيلة لردها، التهمت منها بقدر حبك لشقيقك صالح الذي ما يزال يسكن تجاويف قلبك. وزدت على حبات الحلوى الشهية قطعة أو قطعتين من الجبن البلدي المصنوع من اللبن الصافي بعد أن يتخثر ويتخمر ويتصلب، والمسمى باللهجة المزابية: "تكماريت"، وهو إكرامية لا توضع سوى على خوانات الضيوف الأثيرين والمفضلين.
عندما كنت أتأهب للخروج، أهديت لي علبة صغيرة صفراء تحمل عيدان بخور وسبحة ذات حبات برّاقة وباهتة الاخضرار. وعظمت سعادتي بهديتك رغم بساطتها. ومازلت احتفظ بين أشيائي، إلى اليوم، بعلبة البخور العطرة. وأما السبحة، فعلقتها على يميني في مكتبي المنزلي حتى تظل تذكرني بك. ولما اقتربت من عتبة غرفتك، انطلق لسانك الرطب لاهجا بالدعاء لي بالصحة والعافية وطول العمر والسعادة في الدارين.
لم استطع نسيان هذا اللقاء الأول؛ لأنه كان لقاءً متميزا. ولم يكن في مقدور كل الأيام التي جاءت من بعده أن تدفعني لإخلاء بالي منه. وسيظل محطة بارزة من محطات عمري.
لما جئت مدينتك "القرارة" التي حطت على هضبة منحدرة من كل جوانبها لتسمو فوق "وادي زقرير"، طالبة لنفسها ولقاطنيها النجاة من غضباته المفاجئة كلما سالت مياهه هائجة وزحفت في مجراه عنيفة، لما جئت للمشاركة في ملتقى شقيقك الدكتور صالح الخرفي في شهر جويلية من سنة 2004م، عاودت زيارتك ثانية بعد أن عقدت موعدا مع ابنك إبراهيم وحفيديك محمد ويسين. لم أكن في هذه المرة متحرجا أو مترددا كما في المرة الأولى. وبعد السلام، بادرت إلى تقبيل رأسك. ولست أدري كيف جرنا الحديث للخوض في سيرة زوجك صاحب الذكر الحسن أبي إبراهيم الشيخ بالحاج قاسم بن إبراهيم "1889 مارس1976 م" زميل الشيخ إبراهيم بيوض في مرحلة الجلوس في حلقات التحصيل العلمي في "دار العلم"، أو "هدّارث أنوعزام" كما تسمى باللهجة الميزابية. وقد علمت فيما بعد أنه كان رجلا محافظا وشديد الورع، ومنغمسا في الزهد، ولم يجر خلف بريق مسليات الحياة، ولم ينجذب إليه. وأنه أفنى ما يقارب من أربعين سنة من عمره مدرسا يعلم الناشئة ويربيها. وعرفت، أيضا، اهتمامه بالفتاوى التي تخص النساء إلى درجة أن الشيخ بيوض، ومن أدراك من هو الشيخ بيوض في علمه، كان يحيل إليه المسائل الشائكة التي تطرح عليه للنظر فيها، والرد عن سائليها لكبر ثقته فيه. وكان هو بدوره يحمل المستعصي منها إلى الشيخ الفقيه نور الدين السالمي العُماني كلما حل موسم الحج لسعة تضلعه وتعمقه في دقائق فقه المذهب الإباضي. كما أنه أوتي خبرة متبصرة في مزاولة الطب التقليدي. ولم يكن يجحد تجربته أو يمسك يده عن كل من يقصده للتطبيب والعلاج.
خالتي فافة العزيزة...
كم تمنيت لو ظللت أتردد عليك في نهاية كل أسبوع، أو في كل مناسبة سعيدة لأشبع النظر في وجهك البشوش وفي لباسك الصوفي الأنيق، واستمتع بأحاديثك الشيقة والمسلية التي تدخل البهجة على النفس، ولكن بعد المسافة بين مدينتينا "باتنة" حيث أقيم و"القرارة" وتتابع ضواغط العمل التي تتلاحق تترى لم تسمح لي بتحقيق هذه الأمنية. ومع إحضاري لهذه المبررات، إلا أنني اعترف أنني كنت مقصرا حيالك وفي حقك. ولكن، اطمئني أن صورتك البهية ستبقى عالقة في ذهني ما عشت خلفك؛ لأن وجهك الجميل هو واحد من الوجوه العصية عن النسيان، وعهدك الساحر والآسر لا يمكن أن يقابل بالنكران.
اللهم، يا إلهي، أرحم شيبات المرأة الطيبة والحنون، الحاجة خالتي فافة الخرفي، وأجعل قبرها روضة غناء من رياض الجنة، وأعف عنها وأكرم نزلها، وأغدق على أبنائها وبناتها وأحفادها وحفيداتها صبرا لا ينقص ولا ينفد، وأشملهم بسلوان لا يفتر ولا ينقرض. إنك سميع قريب مجيب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.