تحل الذكرى الخمسون لعيد النصر في خضم التحضير لأبرز انتخابات تشريعية تشهدها الجزائر منذ الاستقلال بالنظر إلى الرهانات التي تميزها، والآمال المعلقة عليها في إحداث القفزة السياسية النوعية الكفيلة بنقل الجزائر إلى مرحلة الزخم الثوري الذي كرسه إعلان الاستقلال عندما اختار الجزائريون مشروع أول نوفمبر الذي تمحور حول هدف بناء دولة عصرية ديمقراطية في إطار المبادئ الإسلامية. فأين نحن بعد كل هذه العقود من ذلك المشروع؟ بالإضافة إلى الخصوصية السياسية والإصلاحية والظرفية التي تطبع الاستحقاقات المقبلة، فإن تزامنها مع الاحتفال بالذكرى الخمسين لعيد النصر سيعطيها بعدا فلسفيا وعقائديا يصالحها مع مبادئ ثورتها التي فقدت الكثير من بريقها بسبب بعض الانحرافات التي شهدتها الجزائر، بعضها لأسباب ذاتية وبعضها الآخر لأسباب خارجية أملاها ميزان القوى الدولية. لعل أهم ما يقال ونحن بصدد الحديث عن تزامن هذين الحدثين في تاريخ الجزائر هو التساؤل عما إذا كانت الطبقة السياسية بكاملها مؤمنة بجدوى هذا الاقتران الفلكي المبارك؟! إن تاريخ 19 مارس هو أكثر من مناسبة، فهو برنامج سياسي واجتماعي وفكري، لذا فمن العبث حصر الاحتفال به في بعض المهرجانات والشعارات والخطب، ثم الانصراف لتطبيق برامج لا تمت إليه بصلة. انطلاقا من هذا المفهوم، لابد وأن تكون روح الثورة وأهدافها وقيمها حاضرة في برنامج كل حزب يريد أن يجعل من تشريعيات العاشر من ماي القادم فرصة لإعادة الاعتبار لأبرز انجاز في تاريخ الجزائر، هذا الإدراك ورد بشكل واضح في تدخلات الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني عبد العزيز بلخادم الذي ذكر بمواقف الحزب إزاء الثورة التحريرية وأكد تمسك الحزب بمطلب اعتذار فرنسا كشرط لإقامة علاقات طبيعية بين البلدين. للأسف لم نسمع باقي الأحزاب تتبنى بصراحة هكذا مواقف، ما جعلنا نتساءل عن مدى إيمان الطبقة السياسية حقا بعظمة إنجاز الاستقلال. إن لجوء بعض الشخصيات الوطنية، السياسية أو الفكرية إلى انتقاد فرنسا على سلوكها إزاء الذين خدموها من حركى وأقدام سود، هو في الحقيقة أسلوب خاطئ لأن من حق فرنسا أن تتعامل مع تاريخها بالطريقة التي تريدها والتي تخدم مصالحها وذاكرتها، في المقابل لابد أن ينصب اللوم، على الطرف الجزائري الذي لا يقدم الشيء الكثير للذاكرة وللتاريخ وأيضا لوصية الشهداء وتضحيات الشعب الجزائري. لنا أن نتساءل هنا، لماذا تمت عرقلة تمرير مشروع تجريم الاستعمار داخل البرلمان الجزائري للدولة الجزائرية السيدة والمستقلة؟ ولماذا لا تتخذ أية خطوات جادة لكشف جرائم الاستعمار الفرنسي بالوثائق والأدلة وشهادة الشهود الأحياء الذين لم يبق منهم سوى القليل؟ ولماذا لا يكتب تاريخ الثورة بطريقة علمية وموضوعية لإنصاف المظلومين وكشف ذوي الأدوار الغامضة والمكشوفة الذين استفادوا من الاستقلال رغم الشكوك التي تحوم حول ماضيهم؟ ثم لماذا لا نستعمل لغة المصالح في التعامل مع فرنسا خاصة الحالية، والتي وجهت العديد من السهام للجزائر، لتقابل من قبلنا بالمزيد من التسهيلات الاقتصادية والخدمات الثقافية؟ كل هذه الأسئلة ينبغي أن تشكل لب أي برنامج سياسي لأي حزب يدّعي الإيمان حقا بعظمة انجازي الثورة والاستقلال، فلا معنى لكل هذا الهرج الذي يميز الاحتفال بكل ذكرى وطنية!• الملاحظ من خلال تحليل ما رشح من أفكار وبرامج ووعود من قبل الأحزاب العديدة التي تنوي دخول المعترك الانتخابي، هو وجود سباق براغماتي أكثر منه فكري أو إيديولوجي. كل الأحزاب تكاد تتطابق في كيفية اختيار المترشحين، ولم يعد هناك الإسلامي الذي يرفض مسائل الولاء والبراء، ولا الديموقراطي المتبني للقيم الغربية بحذافيرها.. الكل تنازل عن الكثير من خصوصياته مقابل الفوز بالتشريعيات. هذا الوضع جعل أصحاب »الشكارة«، يتصدرون رؤوس قوائم الكثير من الأحزاب، وظهر الخطاب السياسي، كما نلاحظ من خلال تدخلات رؤساء العديد من الأحزاب، ضحلا ضعيفا لا يرقى إلى العصر الذي يعيشه العالم الحديث، مما جعل المواطن يتساءل عن مقاييس السماح لهكذا أشخاص بالبروز وتصدر الواجهة السياسية والإعلامية. هذا ما يبرز من خلال المتابعة اليومية للحراك الحزبي، لكن قد تفرز القوائم الترشيحية التي لم يعلن عنها بعد، جيلا من الشباب المتكون والمثقف والنظيف والقادر على إقناع رجل الشارع بالتوجه إلى صناديق القتراع، واختيار برلمان ذي طابع تأسيسي للإعداد للمرحلة المقبلة. في الواقع، من الصعب التطرق لتفاصيل العملية الانتخابية بسبب عدم نشر قوائم المترشحين وأيضا البرامج، لأن هذين المحورين هما من يصنع شكل وجوهر الأحزاب، وبالتالي تسهل عملية التحليل الإعلامي. لهذا فإننا نأخذ بحذر شديد كل معلومة تأتي بها الصحف الوطنية، كتلك المتعلقة بقرار يكون قد اتخذه الأمين العام للحزب بإسقاط وزراء وأعضاء في المكتب السياسي من قائمة الترشيحات، نفس المصادر الإعلامية التي ذكرت هذا الخبر، أكدت بأنها تحصلت عليه من مصادر عليمة داخل »الأفلان«، موضحة بأن ذلك القرار جاء بسبب الضغط الذي مارسه الشباب في المحافظات ومطالبتهم بعدم تجديد الثقة في الوجوه القديمة التي سبق وأن شاركت في البرلمان لأكثر من عهدة، وأيضا أعضاء المكتب السياسي، وأصحاب السوابق العدلية والشكارة. لذا فإن مصير الحزب سيكون مرهونا بمدى استجابة القيادة لكل تلك المطالب المشروعة التي تشكل أساس التغيير الإيجابي وتطوير العمل السياسي للحزب، ودون ذلك، فإن الخطاب لا يعكس حقيقة النوايا، وأي كلام عن تسليم المشعل وإدماج الشباب والمرأة هو مجرد شعار مرحلي وليس اختيارا استراتيجيا• هذه الافتراضات مشروعة لما ستكون عليه طبيعة المترشحين، أما البرنامج الحزبي فهو معروف جدا ولطالما جاء في شكل متكامل واستشرافي، خاصة عندما يتعلق الأمر بالاقتصاد والمجتمع والتنمية البشرية. إن ما تشهده جل الأحزاب حاليا من معارك من أجل المناصب وتجوال من هذا الحزب إلى ذاك، حتى وإن كان الحزبان متناقضين في العقيدة ومساومات من أجل المراتب في القوائم، ينذر بموسم حزبي وسياسي قبيح لا وجود فيه للتنافس حول البرامج وتناطح الأفكار. كما تبرز هذه الحوادث التي مست أحزابا كبرى، مثل الأرسيدي وحمس وغيرها، غياب الانضباط الحزبي الذي كان معروفا في السابق، والذي يشكل أهم سبب في نجاح واستمرار الأحزاب• إن أخبار المناضلين المنسحبين من أحزابهم بمجرد عدم رضاهم عن المراتب التي وضعوا فيها من طرف القيادة، هي دليل على زوال فكر النضال في الممارسة الحزبية الجزائرية، وهذا ما لا نجده في أحزاب الدول الأخرى، خاصة الديمقراطية التي تفرض على مناضليها انضباطا كاملا، ونادرا ما نسمع مثل هذه الممارسات فيها• إن المسؤول الأول عن هذا التدني في العمل الحزبي، هو سيادة عقلية الانتفاع التي تكرست بشكل مخزي في الأعوام الأخيرة عندما اختصرت مقاييس الترقية والاستفادة بالمناصب والمكاسب في الولاء والجهوية وقبول منطق الفساد، وهو ما أدى إلى بروز طبقة سياسية خالية من الروح النضالية وسلوك التطوع والتضحية من أجل المبدأ.