".. مدينة الجزائر، سنة 1964 كانت مدينة عالمية. مدينة الفرح والأمل. كنا على يقين أن تصبح بلدا رائدا، متطورا وحديثا. كان العيش يحلو بعد فيها، وقتها، وكان الناس يأتون من كل حدب وصوب، الرسل الجدد الذين كانوا يؤكدون لنا هذا المصير كانوا يأتون من الشرق والغرب، من الجنوب والشمال. وكان أساتذة ثانويتنا متطابقين مع ما ينعكس في هذا المشكال. كانت "الإدريسي" ثانوية شعبية، ورائدة في نفس الوقت. أساتذتها ممتازون. وحتى إن لم تكن بعض المواد تدرس وقتها، فإن المواد الأخرى كانت ذات مستوى عال".. لا أعرف بما كان وزير التربية الوطنية يفكر وهو يحزم أمتعته متجها نحو مدينة ورڤلة، ليفتتح امتحان البكالوريا من هناك، لكنني أتخيله واقفا أمام المرآة يصفف شعره ويتأمل محياه ويقول في نفسه: "سيطمئن الجزائريون اليوم ويشعر سكان الجنوب بالقيمة الكبيرة التي توليها لهم الحكومة، وسيمر امتحاني الأول للبكالوريا كما أحب، وبذلك أسيطر على الوضع"، وإذا تبعت خيالي إلى أقصى حدوده فإنني أتخيل الوزير عندما سمع ما أحدثه امتحان الفلسفة أمس من جلبة - خاصة بالجزائر العاصمة - ينتفض خائب الرجاء من كرسيه الوزاري الوثير ويقول غاضبا "والحل؟ طفيناها في ورڤلة شعلت فالدزاير". ما حدث أمس أمر لا يستوعبه عقل، كيف لتلميذ في أهم امتحان رسمي أن يغادر قسم إجراء الامتحان مدعيا أن موضوع الامتحان صعب؟ هل تستوعبون حجم الكارثة والمصيبة التي نحن واقعون فيها، لم يعد هناك أمر يحمل قيمته الحقيقية أو حتى الرمزية في هذا المجتمع، استحال كل شيء إلى اللامعنى بفقده لسياقه المنفرد وسقوطه في سياق عام أعمى لا يعرف طريقه نحو المستقبل، هل تضحك هذه الحكومة على نفسها أم علينا بشراء "السلم الاجتماعي"، ما الذي غيره الإنزال المكثف للوزراء والإغداق في توزيع القروض المالية على بطالي الجنوب، الذي كان كنتيجة حتمية للانصياع غير المحسوب للمسؤولين الذين يهرولون عند كل احتجاج اجتماعي للبحث عن مخارج استعجالية لترقيع مشكل ما في لحظة هشة يزول حلها بزوالها؟ هل حلت كل مشاكل الجزائريين ومنعهم من الاحتجاج مجددا؟ إلى متى سنبقى نتخبط في هذا الوضع الأعمى الذي لا مستقبل للبلد معه، هذا الوضع الذي جعل طالب البكالوريا يغادر قاعة الامتحان ويقوم باحتجاج لأن "الأسئلة كانت مخالفة لتوقعاته شبه المؤكدة"؟ ما هذا الجنون الذي يقتلع كل قيمنا ويحرف مساراتنا؟ أين هو القانون؟ دعونا نحترم دولة المؤسسات مرة واحدة، ويتعرض من أساء مسؤولا كان أم مواطنا للعقاب. إننا نمر بلحظة حرجة، لا يجب أن نطرح أثناءها سؤال: من المسؤول عن ما يحدث؟ لأن ما حدث ويحدث مسؤليتنا جميعا، ما نعيشه اليوم هو النتيجة الحتمية لإغفال المصلحة العامة وتجاهل مسؤولياتنا تجاه المجتمع، فعلى مدار سنوات ونحن نتجاهل الغش في الامتحان، ثم العتبة، والانهيار الخطير للمنظومة التربوية والجامعة، التنامي الملفت للدروس الخصوصية حتى بين تلاميذ الابتدائي.. لذلك حتى وإن لم يكن لنا يد في التأسيس لما يحدث نحن متواطئون بصمتنا والتمسك بفكرة "خاطيا راسي". فهل جاءت اللحظة التي علينا أن نواجه فيها مفهوم "الجهل المؤسس" على رأي أركون؟!