التوقيع بإسطنبول على مذكرة تفاهم بين المحكمة الدستورية الجزائرية ونظيرتها التركية    رئيسة المرصد الوطني للمجتمع المدني تستقبل ممثلين عن المنظمة الوطنية للطلبة الجزائريين    بتكليف من رئيس الجمهورية, عطاف يحل بروما من أجل تمثيل الجزائر في مراسم جنازة البابا فرنسيس    انطلاق فعاليات الطبعة الخامسة لحملة التنظيف الكبرى لأحياء وبلديات الجزائر العاصمة    أبواب مفتوحة على التوجيه المدرسي    استقبال حاشد للرئيس    قانون جديد للتكوين المهني    المجلس الشعبي الوطني : تدشين معرض تكريما لصديق الجزائر اليوغسلافي زدرافكو بيكار    رئيس الجمهورية يدشن ويعاين مشاريع استراتيجية ببشار : "ممنوع علينا رهن السيادة الوطنية.. "    تنصيب اللجنة المكلفة بمراجعة قانون الإجراءات المدنية والإدارية    الخطاب الرياضي المقدم الى الجمهور : وزير الاتصال يدعو إلى الابتعاد عن "التهويل والتضخيم"    الدخول المدرسي القادم 2025/2026 : بداية التسجيلات الأولية لتلاميذ السنة أولى إبتدائي    عطاف يوقع باسم الحكومة الجزائرية على سجل التعازي إثر وفاة البابا فرنسيس    توقيع عقدين مع شركة سعودية لتصدير منتجات فلاحية وغذائية جزائرية    الأغواط : الدعوة إلى إنشاء فرق بحث متخصصة في تحقيق ونشر المخطوطات الصوفية    سيدي بلعباس : توعية مرضى السكري بأهمية إتباع نمط حياة صحي    سقوط أمطار الرعدية بعدة ولايات من البلاد يومي الجمعة و السبت    عبد الحميد بورايو, مسيرة في خدمة التراث الأمازيغي    انتفاضة ريغة: صفحة منسية من سجل المقاومة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي    الرابطة الثانية هواة: نجم بن عكنون لترسيم الصعود, اتحاد الحراش للحفاظ على الصدارة    النرويج تنتقد صمت الدول الغربية تجاه جرائم الاحتلال الصهيوني بحق الفلسطينيين في غزة    نشطاء أوروبيون يتظاهرون في بروكسل تنديدا بالإبادة الصهيونية في غزة    تصفيات كأس العالم للإناث لأقل من 17 سنة: فتيات الخضر من اجل التدارك ورد الاعتبار    جمباز (كأس العالم): الجزائر حاضرة في موعد القاهرة بخمسة رياضيين    عرض الفيلم الوثائقي "الساورة, كنز طبيعي وثقافي" بالجزائر العاصمة    معسكر : إبراز أهمية الرقمنة والتكنولوجيات الحديثة في الحفاظ على التراث الثقافي وتثمينه    250 شركة أوروبية مهتمة بالاستثمار في الجزائر    غزّة تغرق في الدماء    صندوق النقد يخفض توقعاته    وزير الثقافة يُعزّي أسرة بادي لالة    الصناعة العسكرية.. آفاق واعدة    بلمهدي يحثّ على التجنّد    معرض أوساكا 2025 : تخصيص مسار بالجناح الوطني لإبراز التراث المادي واللامادي للجزائر    أمطار رعدية ورياح على العديد من ولايات الوطن    جهود مستعجلة لإنقاذ خط "ترامواي" قسنطينة    استحضار لبطولات وتضحيات الشهداء الأبرار    جريمة التعذيب في المغرب تتغذّى على الإفلات من العقاب    شركة عالمية تعترف بنقل قطع حربية نحو الكيان الصهيوني عبر المغرب    145 مؤسسة فندقية تدخل الخدمة في 2025    مناقشة تشغيل مصنع إنتاج السيارات    تعليمات لإنجاح العملية وضمان المراقبة الصحية    3آلاف مليار لتهيئة وادي الرغاية    قمة في العاصمة وتحدي البقاء بوهران والشلف    محرز يواصل التألق مع الأهلي ويؤكد جاهزيته لودية السويد    بن زية قد يبقى مع كاراباخ الأذربيجاني لهذا السبب    حج 2025: برمجة فتح الرحلات عبر "البوابة الجزائرية للحج" وتطبيق "ركب الحجيج"    الكسكسي الجزائري.. ثراء أبهر لجان التحكيم    تجارب محترفة في خدمة المواهب الشابة    "شباب موسكو" يحتفلون بموسيقاهم في عرض مبهر بأوبرا الجزائر    البطولة السعودية : محرز يتوج بجائزة أفضل هدف في الأسبوع    هدّاف بالفطرة..أمين شياخة يخطف الأنظار ويريح بيتكوفيتش    رقمنة القطاع ستضمن وفرة الأدوية    تحدي "البراسيتامول" خطر قاتل    هذه مقاصد سورة النازعات ..    هذه وصايا النبي الكريم للمرأة المسلمة..    ما هو العذاب الهون؟    كفارة الغيبة    بالصبر يُزهر النصر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أشْلاَءُ حُلْمٍ... تَلاَشَتْ خَلْفَ التِّلاَلِ..!
نشر في الجلفة إنفو يوم 27 - 07 - 2014

1- وَأنَا عاَئِدٌ مِنَ الْجَلْفَةِ إِلَى الْبِيرِينِ، تَوَقَفْتُ فِي مَدِينَةِ {حَاسِي بَحْبَح} الْمِضْيَافَةِ اسْترَحْت فِيهَا اسْتِرَاحَة مُسَافِرٍ، وغَادرتُهَا عَصرًا عِندْمَا صَفَا الجوُّ واعتدَلَ، وهبَّت نَسَائِمُ الصَّيْفِ مُنْعِشَةً تُدَاعِبُ الْجُفون، وَتَحْمِلُ ألَقاً تُضَارِعُه ألْوَانُ السُّهُوبِ القزَحِيَّة، يمَّمْتُ وَجْهِي شَطرَ مَدِينَةَ {حَدِّ الصَّحارِي} عرَّجْتُ عَلى السَّبْخَة وَبُرْجَ الْحَمَّام، دَخلتُ المُنْعَرجَات وَالشَّمْسُ تَلِجُ مَخْبَئِهَا خِلْسَة تَارِكةً خَلفَهَا احْمِرَارًا، النَّهَارُ يَسْحْبُ بسَاطَ أنوَارِهِ، ليتوَارَى خَلفَ أسْوَارِ الغابَاتِ والصُّخُورِ، تَنْتفضُ الطيُورُ عَلى ذُرَى الأشْجَار وأغْصَانِهَا جَذَالَى تَنْتَشِي بهَذا السُّكُونِ، تبْدَأُ حَرَكَةُ الكَائِنَاتِ رَاكِضَة صَاخبَة تَظْهَرُ وَتَخْتَفِي، وأنَا أسِيرُ فِي هَذَا الليْل الدَامِسِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، مُتدثرًا بألوَانِ الجِبَال السَّمْرَاءَ، والمُسَافرُ صَيْفًا فِي هَذِه البرَارِي يَقرَأ في خَطوَاتِه أحْدَاثَ الأرْضِ وأَخبَارَهَا، ويَسْترْجِعُ الذِّكْريَاتِ الْعَذبَة، وَأحْيَاناً يَسْكنهُ هَاجِسُ الخَوْف؛ الطرِيقُ يَتلَوَّى فِي ارْتَفَاعٍ وانْخِفَاضٍ، الدُّرُوبُ مِن حَولِي مُوحِشَة، السَّمَاءُ مُكتَظةٌ بالنُّجُومِ المُتلألئَة، ولاَ غَيْمَة فِي الأفُقِ، وَأنَا أسْرَحُ فِي هَذا الفَضَاء وَحِيدًا.
أتوَغَّلُ فِي تِلك الشِّعَابِ والْمُنْخفَضَاتِ بِبُطْءٍ.. يَالَهُ مِنْ مَشْهَدٍ جَمِيلٍ سَاحِرٍ..! لَكِن مَاذَا يندَسُّ في الْعَتَمَةِ؟ أنَا لاَ أُصَدِّقُ..! إنِّي ألْمَحُ امْرَأةً..أجَلْ.. امْرَأةٌ غَريبَة، تَكُونُ قَدْ فقَدتْ عِيَّالهَا أو هُم فقدُوهَا، تَجْلسُ القرْفُصَاء عَلى قارِعَةِ الطرِيق، تَمدُّ يَدَهَا مُتودِّدَة مُتلطفَةً، أسْألُ نفْسِي مِنْ أينَ جَاءَت؟ وأينَ هِيَّ مُتوجِّهَةً ؟ ليْسَ هُناك مَنازِلَ وَلاَ سُكَان فِي هَذَا الْعَرَاءِ، آلَمَنِي المَنْظرُ واسْتدْعَى كُلَّ نَوَازِعِي.
توَقفتُ بَعدَ تردُّدٍ، والْفَضَاءُ يَتلفَّعُ خَوَاءً أكْبرَ، سَألتُها: من تَكُونِين يَا امْرَأَة؟ كيْف وصَلتِ إلَى هُنَا؟ مَاذا تُرِيدِينَ؟ كُنتُ حَذرًا مِنهَا ومِمَّا يُخفِيه الظلاَم، رَفَعَتْ صَوْتَهَا جَاهِشَةً بالبُكَاء، مُتَذَلِلَّةً تَسْتَعْطِفُنِي، رَحَل العيَّال وترَكُوهَا هُنا وحِيدَة، إنَّهَا جَائعَة وخَائِفَة، اعْمْل مَعْرُوفًا يَاهَذَا..رجَاءً خُذْنِي مَعَك..أشْفَقتُ عَليْها ولِنْتُ لطلبِهَا، فتحْتُ لَهَا البَابَ فَرَكِبَت، ولمَّا اسْتَوَتْ جَالِسَة أفرَجَتْ عَنِ أَنْيَابٍ مُلَوْلَبَةٍ وابْتسَامَةٍ شَاحِبَةٍ.
2- ومَا إنْ تَحرَّكَت السيَّارَةُ حَتَّى فَاضَ جَسَدُها عَلى المَقعَدِ كُلهِ وغَطاه، تدَلَّت أطرَافُهَا كَسَتَائِرَ خَيْمَةٍ؛ امْتَدَّ صَدْرُهَا ليَصِلَ الزُّجَاجَ، مَالَ ثَدْيُهَا نَحْوي ليُغَطِّي لوحَة القيَّادة، نهْدَاهَا تُلاَمِسَان الْمِقْوَدَ، تَنَاثَرَ شَعْرُهَا الطوِيل وَقَذَفَتْ بِهِ إلَى الْخَلْف؛
تَتلاَحَقُ أنفاسُهَا شَخيرًا وزَفِيرًا وَغَمْغَمَة كَالأَنِين، وفِي ثَغْرهَا بَريقُ ابْتسَامَةٍ، أحسَسْتُ بِارْتجَافٍ فِي قَلْبِي وازْدَادَ نبْضُه، كَانَتْ تَقتَرِبُ مِنِّي أكْثرَ وَأنَا ابْتَعِدُ.. أشُمُّ فِي نَحْرِهَا رَائحَةَ الأعْشَابِ الجَبَليَّةِ، جَسَدُهَا كُضُرَام نَّار يَلتَهِبُ، أشْعُر بالرُّعْبِ يَكتسِحُنِي، أتظاهَرُ بالصَّبرِ وَعَدَمِ اللاَّمبَالاَة؛ أقَاوِمُ زَحْفَهَا بِكلِّ مَا أتِيتُ مِنْ قُوَّة، لمْ يَكُنِ الأمْرُ سَهْلاً، وليْسَ فِي إمْكَانِي فِعْل شَيْءٍ، كَانَ الْمَشهَدُ مُقزِّزًا يُثِيرُ فِي النَّفْسِ قَرَفًا.
تتَوقَّفُ السَيَّارَة، يَعْلُو أَزِيزُهَا، يرْتَفَعُ صَوْتِي بالدُّعَاءِ وَقِرَاءَة الْقُرْآن، وَبَيْنمَا أنَا عَلى هَذِه الحَال، أشْتُمُهَا فَلاَ تَنْشَتمُ، ألُومُهَا فتضَحَكُ مُقهْقِهَة، تَتمَادَى في إزْعَاجِي، وَجَاءَ شَيخٌ عَجُوزٌ يَتَجَرْجَرُ فِي اسْمَالِهِ كَشَبحٍ قادِمٍ مِن عَالَم الأَمْوَاتِ، يَحْمِلُ قِرْبَةَ مَاءٍ تَنْبَعِثُ مِنْهَا رَائِحَةُ الْقَطَرَانِ؛ يَجُرُّ عَصَاه، يَسْتوْضِحُ الأَمْرَ بْسُؤَالٍ عَجِيبٍ:أتَعْرفُ مَن تَكونُ هَذِه الْمَرَأَة؟! كَيْفَ تَتَجَرَأُ أنْ تَأخُذَ زَوْجَة غَيْرِكَ؟ أَجَبْتُهُ بِغَضبٍ وانفِعَالٍ: لوْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ مَا تَرَكَهَا هُنَا، تَبًا لَكَ ولامْرَأةٍ لا تَخْجَلُ من تصَرُّفاتِهَا العَابِثَة، ولنُكْرَانِهَا الْجَمِيل، ابْتلعَ رِيقَهُ وضَحِكَ مِلْءَ حُنْجَرَتهِ، وَقَالَ: قَدْ تَكُونُ كَلِمَاتِي قَاحِلَةً لاَ تُعْجِبُكَ، وَلَكِنْ سُتُعْجِبُك إنْ تدبَّرْتَ الأَمْرَ، لَيْسَتِ الْبَرَاكِينُ وَحْدَهَا تَثُورُ..هَهَهْ..مِنَ النَّاسِ مَنْ يَبِيعُ شَرَفهُ، لاَبدَّ أَنْ أُخْبِرَكَ وَأَنَا لَكَ نَاصِحٌ أَمِينٌ، الإنْسَانُ ضَعِيفٌ لا يُمْكِنُهُ أنْ يَكُونَ وَحِيدًا فِي مَكَانٍ مَهْجُورٍ وَقَدْ قِيلَ { الرَّفِيقُ قَبْلَ الطَّرِيقِ} إنِّي أَخْشَى عَلَيْكَ مِنْ أُولَئِكَ الصَّعَالِيك الَّذِينَ يَفْتَرِشُونَ الْعَاصِفَةِ، اللَّيْلُ مُخِيفٌ يَا وَلَدِي وَلاَ بُدَّ مِنَ الْحَذَرِ، إليْكَ قَدَحًا مِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ الزُلاَل لترْوِي ظَمَأَكَ، اسْتَأنَسْتُ بِهِ وَقد انْدَلَقَ إلَى سَمْعِي اعْتِذَارٌ كَالرَّجَاءِ، ألتَفتُ مُنْتَبِهًا وإذَا بِالسيِّدَةِ يَلوحُ عَلى شَفَتيْهَا شَبَحُ ابْتسَامَةٍ بَاهِتَةٍ وهِيَّ تقُولُ: بَعْضُ النَّاسِ يَحْمِلُونَ قلوبًا ليسَتْ لَهُم فِي الأَصْل، وَأوْرَاقُ أسْئِلتِهم تَحْتَرِقُ فِي غَيْرِ طَائِلٍ، هَذَا الشَّيْخُ مِنْهُم، أخَذَتْ تَنْزَلْقُ فِي بُطْءٍ مِنْ مَكَانِهَا وَتَعْتَذِر، فَجْأةً تَخْتَفِي وكأنَّ الأرْضَ ابْتلَعْتهَا.
3- وإذَا بِفتَاةٍ شَقرَاءَ فَاتِنة الجَمَالِ، سَامِقَةً الطُّولِ عَذبَة الصَوْتِ، تَجْلسُ مَكَانَهَا وتُحيِّينِي بِلُطفٍ، وَأخْرَى فِي المَقعَد الخَلفِي تَتَحَرَّكُ بجسَدِهَا الرَّشِيق وَصَوْتهِا الشَجِيِّ الآسِر، إنَّهَا فَتاةٌ سَمْراءَ رَهيفَة القلْبِ، مَليحَة الْعَيْنَيْنِ، فَفَزعْتُ أسْألُ: مَاذَا يَحْدُثُ؟ ارْتجَفَتْ نَشْوَةُ البوْحِ فِي دَاخِلي، كَلمَات مُلتحِفَة بالصَّبر واللِّينِ، ويَندَلِقُ الْبَوْحُ شَلاَلاً، لم يَكنْ يَخْطُرُ ببَال أنْ ألتقِي بِفتَاتيْن كًنْتُ تَخَيَّلتهُمَا ذَاتَ مُنَاسَبة سَرْديَّة، ورَافَقتهُمَا في رِحْلة البَحْثِ عن وَطنٍ، كَانتْ مَطَارِقُ الحَيَاة تَنْهَلُ عَلىَ رأسَيْهِمَا {ومَن رَأَى السَمَّ لا يَشْقَى كَمَنْ شَرِبَا} قالتْ الأُولَى أنَا فَاطمَة الشَّاميَّة، التِي كَانَتْ ولا تَزَالُ تبْحَثُ عَن وَطنٍ ضَائِعٍ، ألا تَذْكُرُ ذَلِكَ ؟ بَلَى.. قَالَتِ الثَّانيَّة إنَّهَا مَرْيَمُ الْمَاليَّة الَّتِي خَطفُوهَا ذَاتَ تَارِيخٍ، وَعَادَتْ إلى بَيْتِهَا لتَسْتأنِفَ رِحْلة البَحْثِ عَنْ مَأوَى، ابْتسَمَ الشَّيْخ وَقَالَ مَازِحًا: أزوُّجِّكَ بهَاتيْن الْفَتَاتيْن، قُلتُ: أنَا مُتزوَّجٌ، وأشحَتُ عنه بِوجْهي مُسْتَنْكِفًا، اسْتَرِقُ النَّظرَ إلَى الْفتاَتَيْنِ، وأنَا مُعَجَبٌ بِذَلاَقَةِ لسَانَيْهِمَا، هَمَسْتُ إليَهِمَا كأنِّي أعْرفُهُمَا: مِنْ أيْنَ جِئْتُمَا؟ والَى أيْنَ تنْوِيَّان الذَّهَابَ؟ جَالَ الشَيْخُ بِعَيْنَيْه الْمُرْهَقَتَيْن وَقَالَ: الانْسَانُ فُضُولِي بِطَبْعِهِ؛ دَعُونِي ارْحَلْ..انْجَلَتْ الصُّورَة.. وَللتَوِّ اخْتفَى..!
قَالَتْ الفتاةُ الشَّامِيَّة: خَرَجْنَا لتوِّنا من مَقَابِر تُشبِهُ هَذِه، وأشَارَتْ إلَى مَقبَرَة {المَقسَم} المَهْجُورَة، والتِي لاَ تَبْعُدُ إلاَّ بِضْعَة اذْرُعٍ مِنْ مكَان تواجُدِنَا، ثُمَّ نَكَّسَتْ رَأسَهَا مُتَشَبِثَة بالصَّمْت هُنيْهَة، وكأنَّهَا تعْزِفُ ترَانِيم الوَجَع، وَتَنْفُخُ في جَبَرُوتِ الْغَضَبِ، وَهِيَّ تذْرِفُ سَيْلاً من الدُّمُوع وَتَصْرُخُ: كُنَّا نَحْلمُ بالعَوْدَة إلى أوْطانِنَا بعْدَ أنْ هَجَرْنَاهَا مُكْرَهِينَ، ولِلأسَفِ تنَاثرَت أحْلاَمُنَا المَقتُولة بَيْن الشُتَاتِ والمَلاَجِئ، ومَا بَقِيَّ لنَا مِن أمَلٍ طوَاهُ النِّسْيَانُ، سَكنَّا الْمَقَابِرَ هَربًا من جَحِيم الحُرُوب الظالمَة، ومِن عِصَابَاتِ المَوْتِ الجَائعَةِ المأجُورَةِ، تِلْكَ الَّتِي تُحَارِبُ بِالوَكَالَة،وَتَبِيعُ الأَوْطَانَ.. إيه..أبْنَاءُ الشَّام مُشرَّدُون مُعذَّبُونَ ضَائعُونَ هَائمُونَ فْي تِطوَ افِهِم بَيْنَ المَلاجِئ والمُخَيَّمَات؛ مِثلَ أغْصَانٍ تتقاذَفُهَا أمْواجُ البَحْرِ، مَجْدُ الآبَاءِ مُغتصَبٌ مُعَفَّرٌ بالتُرَابِ، وَنحْنُ نَشْكُو وَجَعًا لمَنْ لا نَرْجُو عِنْدَهُ الْبُرْءَ.
4- تَتنَهدُ مَريَم وهي تبْكِي بِحُرْقَة، وَمِنْ هَوْلِ بُكَاءِ الْبُكَاءِ بَكَيْنَا؛ وبِصَوْتٍ خَافِتٍ: تَقَولُ نَحْن نمُوتُ في اليَوم أكْثرَ مِن مَرَّة، قلوبُنَا تَتَمزَّقُ بَيْنَ الحِرْمَانِ ونَارِ الغُربَة، وتحَرَّكَت في مُقْلتَيْهَا دُموعٌ تَلمَعُ كَاللُّجَيْنِ يَسْتوطنُهَا التَوَتُّر، تَصْرُخُ فَاطِمَة وَالْفُؤَادُ وَلُوعٌ: هَذَا ابْتِلاَءٌ وَظُلمٌ مُبِينٌ! ألمْ يَأن لحِكَايَة الرَّبِيعِ الْعَرَبِي أنْ تنَامَ كمَا نَامَتْ حِكَايَاتٌ مُلفَقَةٌ مِن قبْل.؟
فجْأة أقبَلَ أَطْفَالُ غَزَّةَ أفوَاجًا مُتلاحِقَةً، وَهُم يحْمِلُونَ الْحِجَارَةِ فِي يَدٍ وَفِي الْيَدِ الأُخْرَى الرَّايَاتِ الْخَضْرَاء وَيَنْشُدُونَ، وصَدَى صوْتُ إنشَادِهِم يترَدَّدُ بَيْنَ ثنَايا الجِبَال والرَّوَابِي، والنِسَاءُ خَلْفَهُم مُتلفِعَاتٌ بلبَاسٍ أبْيَضَ، تُهدْهِد مَشَاعِرهُنَّ أقدَامٌ غَضَّة، يَمْشِينَ علَى اسْتِحْيَاء، والحُزنُ لا يَعْرفُ إلاَّ لُغَة الأحْزَان، فسَألتُ مُتعَجِبًا: وأيْنَ الرِّجَالُ؟ رَفعَت فَاطمَة عَقِيرَتَهَا وَقَالَت: هُمْ السَّبَبُ ..! هَلْ القَذَائِفَ وَالبَرَامِيلَ الْمُتَفَجِّرَةِ أبْقَتْ شَيْئًا؟ لقدْ خَسفَتْ بهِم وبالدِيَّار وَلَمْ تَتْرُكْ إلاَّ النِّسَاءَ وبَعْضَ الأَطفَال فِي الْمَلاَجِئ هِيَّام.
أفْجَعَنِي الْمَشْهَدُ فارْتَشَفْتُ الرُّعْبَ مَفْزُوعًا،أُفْرِكُ عَيْنَيَّ وَأَحُثُّ جَسَدِي عَلَى التَحَرُّكِ، وَالْكَلِمَاتُ تَتَنَاثَرُ يَكْسُوهَا الانْكْسَارُ.
حَمِدْتُ الله أنَّ مَاحَدَثَ لِي مُجرَّد حُلم، وَجَدْتُ سَيَّارتِي قد انْحَرفتْ كَثَوَرَاتِ الْعَرَبِ، ولحُسْنِ حَظي نَجوَتُ؛ أصْلحَتُ العَطبَ، وَتسمَّرتُ في مَكَاني مَشدُوهًا، أبَلِّل عَيْنَيَّ بمَاء الْغَبَشِ، وصَمْتَ الْمَكَانِ لا يَخْدَشُه سِوَى عَوَاءُ الذِّئَاب، فَيَا لِلْهَوْل مَا ذَا أسْمَعُ وأرَى..؟!
إنَّهَا تَقِفُ مِنْ حَوْلِي مُتَرَبِّصَةً..أجَل.. مُتوَثبَة، إنَّهَا ذِّئَابٌ مُكَشِّرةً عَنْ أنْيَابٍ كَالمَنَاشِير، وَذِي أفَاعِي تجُوبُ المَكانَ وتَتَهَيَّأ لفِعْل شَيْءٍ، لا رَيْب أنَّهَا ترِيدُني.. أجَلْ.. فَلاَ وَقْتَ للانْتظَار والترَدُّدِ، ارْتمَيتُ بسُرْعَة البَرْقِ مُتَخَنْدِقًا فِي مَقصُورَةِ السَيَّارَة وأوْصَالِي ترْتَعِدُ، اسْتأنفُ السَّيرَ وأنَا أحْتَلِبُ البَوْحَ، و أشْلاَءَ حُلْمِي تَتَلاَشَى خَلْفَ التِّلاَلِ.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.