قريبا ستحتفل الجزائر بخمسينية الاستقلال، الكل يحضر نفسه ليكون جاهزا يوم الخامس جويلية، ولن تكون المؤسسات الرسمية المعني الوحيد بهذا الاحتفال لأن المجتمع بكل فئاته سيقول كلمته كذلك. اقتربنا من المواطن العادي الذي تصنع أيامه مستقبل الجزائر وتاريخه، سألناه عن الوطن وكيف يحدد معناه في عقله، فكل واحد منا يبلور داخله مفهوم خاص للوطن والوطنية.
¯ رشيد 30 سنة عامل في مؤسسة عمومية يقول عن الوطن: ''أعرف منذ صغري أن الجزائر وطني الوحيد أن قسما هو النشيد الوطني الذي كتبه مفدي زكريا في السجن، وأعلم أن مليون ونصف من الشهداء هم ثمن الحرية التي ننعم بها اليوم. الجزائر كنت في صغري أحب الاستماع إلى جدي وهو يروي لنا بطولاته الثورية في الجبال وسط القنابل والطائرات الحربية، وأتذكر أنه كان يبكي عندما يتذكر صديقه الذي استشهد في 1957، ولكن كان دائما يقول إن الجزائر تحررت بفضل الرجال الذين بذلوا الغالي والرخيص من أجلها. الوطنية بالنسبة لي هو شعور الحب الذي أكنّه لوطني ولكن في المقابل يجب أن يعطيني وطني كما أعطيه، فالمشاكل تحيط بنا من كل جانب حتى أصبح البعض لا يفكر إلا في لقمة العيش التي يوفرها لعائلته، ولولا جدي لكنت مثل هؤلاء لا أعرف عن الجزائر إلا ''الخبزة ''. ¯ منير 40 سنة يتحدث عن الوطن ومفهومه بالنسبة له كمواطن عادي يعمل طبيب في عيادة خاصة: ''عندما طرحت سؤلك عن الوطن تبادر إلى ذهني ذكريات رفع العلم في المدرسة الابتدائية وإنشاد كل التلاميذ النشيد الوطني كل يوم سبت وخميس. تبادر إلى ذهني العلم الذي طالما رأيته مرفوعا في غرفة والدي الذي رباني على حب الجزائر لأنها الأرض الوحيدة التي تحوينا بحب، قال لي مرة إنها الأم التي لم تلد أبناءها في مخاض. لذلك فبعد وفاة والدي أصبحت الجزائر بالنسبة لي الذكرى الباقية من والدي رحمه اللّه تعالى، أما إن سألتني عن الوطنية فهي الشعور بالانتماء إلى هذا الوطن فأينما حللت وأينما ذهبت سأبقى جزائري، حتى إن غيرت الجنسية سيقال دائما فلان ذو أصول جزائرية لذلك فأنا جزائري وأفتخر ''. ¯ فتيحة 39 سنة، سألنا عن الوطن والوطنية فقالت'' أتذكر عندما كنت أقف عندما سماع النشيد الوطني في التلفاز وأتذكر كيف طرزت لي والدتي عبارة جزائري الغالية في مئزري حتى ترضيني. كنت أظن أنني سأحارب من أجل هذا الوطن ولكن بقي الحلم راسخا في ذهني خاصة في العشرية السوداء لم استطع استيعاب فكرة أن الجزائر تعاني بسبب أبنائها''. أدخلني ذلك في دوامة كبيرة خرجت منها بفكرة أن الجزائر الوطن والأرض التي منحتني الفرصة لأعيش إنسانا له انتماء وتاريخ تضرب جذوره في أعماق التاريخ. ولن أصدق أبدا أن الجزائر تقتل أبناءها أوانها تدفعهم إلى الحر''ة أو إلى الانتحار أو التحول عن طريق الجادة والصواب، فكل ذلك مرتبط بالشخصية التي يحمله الفرد في داخله. العامل النفسي والاجتماعي هو فقط من يحمل الإنسان على أفعال غير سوية، فلو رضخ المجاهدين للوضع الذي عاشوا فيه لما كنا ننعم اليوم بالاستقلال، فالظروف الاجتماعية حجة واهية للضعفاء وقليلو الحيلة ''.
في الغربة عرفت معنى الوطن محمد 46 سنة اغترب في إحدى الدول الأوروبية لمدة تزيد عن العشرين سنة، عاد إلى أرض الوطن منذ ما يقارب السنة يقول عن الوطن والوطنية: ''بسبب البطالة والفقر قررت وأنا في العشرين من عمري الرحيل إلى أوروبا لأحقق حلم المال والثروة وبالفعل عملت على الخروج بطريقة غير شرعية، ولكن بمجرد وصولي وجدت نفسي وحيدا في بلد غريبة في تلك اللحظة خالجني شعور بالخوف والوحدة، ولكن الشباب يجعل صاحبه يصدق كل شيء حتى الأحلام المستحيلة. وبقيت أعيش في الظلام لمدة عشرين سنة ولعلّ أسوا ما حدث هي النظرة العنصرية التي سيطرت الغرب في الفترة الأخيرة، فأينما حللت أو اتجهت وجدت نفسك متهما بالإرهاب لمجرد أنك مسلم. ضاقت بي السبل ولم أستطع البقاء لذلك سلمت نفسي للسلطات التي أعادتني إلى الجزائر لأنني مقيم بطرقة غير شرعية، ورغم أنني بقيت هناك عشرين سنة ضاع فيها شبابي وحياتي حتى والداي عندما توفيا لم أستطع المجيء لأنني كنت بلا ''كوارط''، عندما دخلت البيت شعرت بوحشة كبيرة جعلتني أبكي ليوم كامل، الجميع ظنّ أنها دموع العودة ولكنها كانت دموع الألم والحسرة والندم. فربما كان من الأفضل البقاء في وطني وسط العائلة والأهل، فإخوتي الذين تركتهم صغارا كبروا وعملوا وحسنوا الوضع المادي للعائلة وأصبح لكل واحد منهم حلم يعمل على تحقيقه، أما أنا فأشعر أنني عدت كما ذهبت بلا حلم ولا عمل ولا مستقبل. لذلك أنصح كل من يحلم ب''الحر''ة'' أن يفكر مليا، فلا وطن يقبلنا إلا الجزائر وبدل العمل هناك نادلا أو في غسل الصحون عليه أن يعمل هنا فعلى الأقل يجد من يواسيه ويحن عليه ''. الجزائر أمانة ¯ عمي عمار 76 سنة اسكافي في إحدى الأسواق الشعبية بالعاصمة، يقول عن الوطن وهو من عاصر عهد الاستعماري: ''لو علم شباب اليوم ما عاناه الأجداد في الحقبة الاستعمارية لما فعل ما فعل بالجزائر، لو علم ما معنى الجوع والفقر والذل من أجنبي يسرق حقك في الحياة في كل يوم أنت تعيشه لما سب الوطن ولم ''يحرڤ'' في بحر المجهول. أبنائي يتذمرون من كل شيء حتى الطقس هو غير مناسب وكأني بهم يظنون أنفسهم سلاطين والجزائر خادمهم المطيع الجزائر بالأيادي التي تحمل على عاتقها مهمة البناء والتشييد. الأمير عبد القادر والمقراني ولا نسومر و زابانا ومحمد بلوزداد والمجاهدين بصفة عامة لو كانت رؤيتهم للأمور مثل شبابنا اليوم لما عرفنا معنى الحرية، ولما رفع العلم الوطني على كل شبر من هذا الوطن المفدى. كنا نعيش الفقر المدقع ولكن لم يقل احد منا أن الوطن تخلى عنا بل زادنا الألم إصرارا وقوة على تغيير الوضع، تسلحنا بالصبر والإيمان وانطلقنا نحو تحقيق حلم الحرية رغم أننا لم نكن نملك شيئا. أنا اسكافي منذ أيام الاستعمار، ولكن لم احمّل الجزائر أبدا ذنب أني أصلح الأحذية لأنني اعلم أن اللّه تعالى جعل لكل واحد منا رزقه الذي يقتات منه، ويكفيني شرفا أنني لا أتسول أو أسرق أو استعطف الناس لكسب قوتي. هذا بالضبط ما ينقص أبناءنا الإيمان والشخصية القوية للمضي إلى الأمام من اجل تحقيق الحلم، فالمستقبل تصنعه أيدينا وليس الجلوس والنوم وتصديق كلمة ''ما كان والوا '' والجزائر وطن لكل أبناءه فقراء وأغنياء أما التفاوت بين الناس فتلك قسمة اللّه تعالى على عباده، ولن يصلح حالنا حتى يقنع كل بما في يده وأن يعرف الشباب أن الأسلاف ماتوا ليحافظوا هم على الجزائر حرة ومستقلة ''. ''جزائري.. وأفتخر'' ''جزائري وافتخر''، هذا ما أتمنى سماعه في كل مكان يوم الخامس جويلية، أتمنى أن يدرك الشباب أن الجزائر أرض تحيى بالحب الذي نعطيها إياه بالخوف الذي يحرك كل واحد منا للحفاظ عليها، الجزائر وطن الجميع وإن وحدت السلبيات والثغرات، لأن المحب لا يهرب ويترك من يحب يموت في صمت بل يحارب بأقصى قوته من أجله. هذا هو الحب الذي سكن قلوب الجزائريين عندما انتفضوا ضد الاستعمار القرون الماضية ولولاه لما عرفنا معنى الأرض والوطنية بل كنا سنبقى مجرد أنديجان خلقوا لخدمة ''الكولون''. وإن كان السلاح في الثورة رصاصا ومدافع فاليوم مستقبل الجزائر مرهون بحرب القلم، بحرب السواعد الوفية، الصادقة في حبها لهذه الأرض الطيبة. وكفانا من تحميل الوطن نتائج فشلنا لأننا الوحيدون المسئولون عنه وحتى إن كان سببه الظروف المحيطة فلن يكون مبررا للوقوف جانبا أو الهجرة إلى الضفة الأخرى، لأنك بذلك تتحمل مسؤولية التقدم والتطور الذي بقي على مستوى الأحلام والآفاق البعيدة. الجزائر أمانة على أكتافنا وليس العكس وحبها يجب أن يسكن قلوب الكل لأنها الانتماء الوحيد الذي يعطي أبعادا واضحة لوجودنا وسط العالم بأسره.