لا يختلف اثنان في قتامة المشهد الفلسطيني الراهن في ظل تغوّل الاحتلال وشراسته ودمويته، والانحياز الأمريكي والغربي الصارخ إلى جانبه، واستمرار الانقسام بين الفلسطينيين، وكذا انقسام الدول العربية بين عاجزٍ عن نصرة "قضية العرب الأولى" ومتآمرٍ عليها. ومع ذلك، تأملوا هذه الصور الناصعة: شبانٌ فلسطينيون يهاجمون ليلا موقعا للقناصة الصهاينة على شريط غزة، ويحرقون خيما لهم وينسحبون سالمين، لكن أحدهم أصيب برصاصة متفجّرة في طريق عودته وفقدَ قدمه بعدها، إلا أنه قال إن جرحه لن يمنعه من العودة إلى الحدود واختراق مواقع العدو مجددا. عشرات المصابين بالرصاص المتفجّر يتلقون إسعافات أوّلية بسيطة ثم يعودون للمشاركة في مسيرات العودة ويتجمّعون أمام جنود العدو في تحدّ سافر لهم. الصورة تذكّرنا بالشهيدين فادي وإبراهيم اللذين فقدا أرجلهما في مواجهات سابقة، لكن ذلك لم يمنعهما من المشاركة في المسيرات وهما على كرسيين متحركين ونيل الشهادة. أكثر من 600 هكتار من الأراضي الزراعية تحترق بفعل الطائرات الورقية الحارقة التي يرسلها الفلسطينيون من القطاع منذ أسابيع على مستوطنات غلاف غزة، وهو السلاح الجديد الذي ابتكره الفلسطينيون وأرّق جيش الاحتلال الذي وقف أمامه عاجزا، وأرّق المستوطنين الذين تضررت مزارعُهم وباتوا يخشون أن تسقط عليهم هذه الطائرات ليلا وتحرق بيوتهم. هناك مسيرات عودة تُنظَّم سنويا منذ عام 1998 داخل أراضي 1948؛ إذ يتجمّع آلاف الفلسطينيين سنويا ويختارون قرية أو بلدة هُجّروا منها في سنة 1948 لينظموا "مسيرة عودة" إليها، وفي هذا العام اختاروا قرية عتليت بحيفا، وتؤكد هذه المسيرات أن مقولة العدو بشأن المهجّرين من بيوتهم سنة 1948 واللاجئين، وهي: "الكبار يموتون والصغار ينسون" ليست صحيحة؛ فالأحفاد لن ينسوا أرض أجدادهم المهجّرين واللاجئين في شتى أنحاء العالم مهما طال الزمن. في غزة، أخلطت مسيرات العودة، برغم كثرة عدد شهدائها وجرحاها، أوراق الاحتلال وأربكته، وجعلته يفكّر في فك الحصار عن غزة مقابل التخلي عن المسيرات التي أعادت القضية الفلسطينية إلى الواجهة وألّبت العالم عليه ودفعت بعض عواصم الغرب إلى استدعاء سفرائه والاحتجاج على جرائمه. ردا على غارات العدو، أطلقت المقاومة منذ أيام 107 صاروخ وقذيفة هاون على مواقعه العسكرية ومستوطنات غلاف غزة وجُرح 6 مستوطنين وجنود، وبعدها توقفت غارات جيش الاحتلال على غزة وأصبح نتنياهو عرضة لسخرية الإعلام الصهيوني الذي قال إنه يتحدّث عن ضرب إيران على بُعد 1600 كلم ووقف عاجزا أمام عدو لا يبعد عنه سوى ب1600 متر. هذه بعض النماذج المشرّفة التي تؤكد أن القضية الفلسطينية ستبقى حية ولن تموت، ولن تتعرّض للتصفية مهما كثُرت حولها المؤامرات والصفقات في الغرف المغلقة بواشنطن وتل أبيب، ومهما خذلها أعرابُ الهرولة والتطبيع؛ فالأطفال والشبان الفلسطينيون هم من يقرر مصير بلدهم المحتلّ بأنفسهم، وهم من يُفشِل "صفقة القرن" ويرمي بها إلى مزبلة التاريخ. الفلسطينيون الآن قرروا أن يعتمدوا كليا على أنفسهم وليس على العرب الذين لا يريدون التحرُّر من التآمر والذل والهوان.. الفلسطينيون وحدهم هم من سيكتب تاريخا جديدا لفلسطين.