تؤكد الوقائع التاريخية أن من أكبر المصائب التي ابتلي بها المسلمون منذ انتهاء عهد الخلافة الراشدة إلى الآن، هو كثرة علماء البلاط الذين تخلوا عن رسالتهم القائمة على إظهار الحق للناس وعدم كتمانه، ومحاربة الظلم والجور دون خوف إلا من الله، وقول كلمة حق في وجه سلطان جائر، وراحوا بدل ذلك يتمسّحون على أعتاب السلاطين ويزينون لهم استبدادَهم برقاب الناس، ويبرّرون الملك العضوض، ويضلّلون المسلمين ويتفننون في تزيين الخنوع لهم. علماء البلاط كثروا في أيامنا هذه ووضعوا أنفسهم في خدمة أنظمةٍ استبدادية فاسدة حازت "الريادة العالمية" في إذلال شعوبها وحرمانها من حقوقها المشروعة في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والعيش الكريم.. ومع ذلك تجد "علماء" و"فقهاء" باعوا دينهم وضمائرهم يُصدرون لها فتاوى على المقاس وتحت الطلب، ويسوّغون ظلمها وبغيها، ويحثونها على المزيد من القمع والتنكيل. والدكتور علي جمعة، مفتي مصر السابق، واحدٌ من هذا الصّنف من العلماء؛ فقد سخّر علمه وفقهه لخدمة مبارك الذي أذل المصريين طيلة 30 سنة ووالى العدوّ الصهيوني وشارك في جريمة حصار غزة والتآمر على مقاومتها الشريفة، وقد وقف جمعة بقوة ضد ثورة 25 يناير 2011، ثم انكفأ على نفسه خائباً محسوراً بعد نجاحها، ولكن ما إن قام السيسي بانقلاب 3 جويلية 2013، حتى عاد جمعة إلى عادته القديمة، وقام بدور تحريضي خطير ضد المتظاهرين المسالمين، ودعا الجيشَ والأمن إلى إطلاق الرصاص الحي عليهم دون رحمة، وقال قولته المشهورة في أكتوبر 2013 "اضرب في المليان". بعدها سالت دماءٌ غزيرة، وقتل مئاتُ المتظاهرين الرافضين للانقلاب، وزُجّ بعشرات الآلاف منهم في السجون ظلما وعدوانا وصدرت أحكام إعدام جماعية ضد 1661 منهم إلى حدّ الساعة، آخرهم الرئيس الشرعي محمد مرسي، والقائمة لا تزال مفتوحة، وإلى الآن لا يزال النظام الانقلابي يمارس قمعا واضطهادا سافرين ضد المتظاهرين ما أثار منظماتٍ دولية عديدة.. لكن المفارقة أن كل هذا القمع الدموي لم يُثر جمعة ليراجع نفسه قبل أن يلقى ربه وهو الذي يتحمل جزءاً من المسؤولية عن الدماء التي تراق ظلماً وبغياً؛ فهاهو يظهر في إحدى الفضائيات منذ أيام ويصرّح بأن المرحوم حسن البنا هو الذي "يتحمّل المسؤولية عن كل الدماء التي سالت لأنه لم يقبل بحل جماعة الإخوان المسلمين؟" وكأن جمعة يريد إخلاء الساحة تماماً للجبابرة وكذا العلمانيين المفسدين الداعين إلى خلع الحجاب وحرق كتب التراث والقيام ب"ثورة دينية" تؤدي إلى إنشاء "فقه جديد" متأمْرك متصهْين... مثل هؤلاء "الفقهاء" رضوا بأن يركنوا إلى الذين ظلموا، ويكتموا الحق عن الناس ويضلّلوهم، ويزينوا الباطلَ للحكام المستبدين، ويبرروا جرائمهم بتحميل المسؤولية للضحايا، حتى يمكنهم قتل المزيد منهم دون إحساسٍ بالذنب. عجباً لعلماء وفقهاء أداروا ظهورهم للحق ولنهج العز بن عبد السلام وكل عالم حرّ شريف صدع بالحق دون أن يخشى في الله لومة لائم، واختاروا أن يكونوا أعواناً للجبابرة والظلمة على الباطل وهم في أرذل العمر.