مجلس الأمة يشارك بسويسرا في المؤتمر العالمي السادس لرؤساء البرلمانات    العدوان الصهيوني على غزة: ارتفاع حصيلة وفيات المجاعة إلى 147 فلسطينيا من بينهم 88 طفلا    شان-2024 (المؤجلة إلى 2025) – تحضيرات : المنتخب المحلي يواجه موريتانيا وديا    كأس العالم للكرة الطائرة 2025: انهزام المنتخب الجزائري امام نظيره الصيني 3-0    الجزائر اعتمدت عدة استراتيجيات لتحقيق الامن الغذائي ومواجهة آثار تغير المناخ    العدوان الصهيوني على غزة: واحد من كل ثلاث فلسطينيين لم يأكل منذ أيام    ضبط أزيد من قنطار من الكيف المعالج بالبليدة وبشار مصدره المغرب    كاراتي دو/بطولة إفريقيا-2025: الجزائر تنهي المنافسة برصيد 12 ميدالية، منها ذهبيتان    مكافحة التقليد والقرصنة: توقيع اتفاقية بين المديرية العامة للأمن الوطني والديوان الوطني لحقوق المؤلف    اقتصاد المعرفة: السيد واضح يبرز بشنغهاي جهود الجزائر في مجال الرقمنة وتطوير الذكاء الاصطناعي    تواصل موجة الحر عبر عدة ولايات من جنوب البلاد    الألعاب الإفريقية المدرسية-2025: تألق منتخبات مصر، تونس، السودان ومدغشقر في كرة الطاولة فردي (ذكور وإناث)    اختتام المهرجان المحلي للموسيقى والأغنية الوهرانية : تكريم الفائزين الثلاث الأوائل    جثمان الفقيد يوارى بمقبرة القطار.. بللو: سيد علي فتار ترك ارثا إبداعيا غنيا في مجال السينما والتلفزيون    تمتد إلى غاية 30 جويلية.. تظاهرة بانوراما مسرح بومرداس .. منصة للموهوبين والمبدعين    السيد حيداوي يستقبل مديرة قسم المرأة والجندر والشباب بمفوضية الاتحاد الإفريقي    الهواتف الذكية تهدّد الصحة النفسية للأطفال    غوارديولا.. من صناعة النجوم إلى المدربين    وفود إفريقية تعبر عن ارتياحها لظروف الإقامة والتنظيم الجيد    هذا موعد صبّ المنحة المدرسية الخاصّة    يوميات القهر العادي    العملية "تضع أسسا للدفع بالمناولة في مجال إنتاج قطع الغيار    تحقيق صافي أرباح بقيمة مليار دج    إقامة شراكة اقتصادية جزائرية سعودية متينة    تدابير جديدة لتسوية نهائية لملف العقار الفلاحي    إشادة بالحوار الاستراتيجي القائم بين الجزائر والولايات المتحدة    رئيس الجمهورية يعزي نظيره الروسي    ضمان اجتماعي: لقاء جزائري-صيني لتعزيز التعاون الثنائي    الاتحاد البرلماني العربي : قرار ضم الضفة والأغوار الفلسطينية انتهاك صارخ للقانون الدولي    وهران.. استقبال الفوج الثاني من أبناء الجالية الوطنية المقيمة بالخارج    خاصة بالموسم الدراسي المقبل..الشروع في صب المنحة المدرسية    رغم الاقتراح الأمريكي لوقف إطلاق النار.. استمرار القتال بين كمبوديا وتايلاند    نيجيريا : الجيش يصد هجوماً شنته «بوكو حرام» و«داعش»    إستشهاد 12 فلسطينيا في قصف على خانيونس ودير البلح    الوكالة تشرع في الرد على طلبات المكتتبين    الابتلاء.. رفعةٌ للدرجات وتبوُّؤ لمنازل الجنات    ثواب الاستغفار ومقدار مضاعفته    من أسماء الله الحسنى.. "الناصر، النصير"    عندما تجتمع السياحة بألوان الطبيعة    لا يوجد خاسر..الجميع فائزون ولنصنع معا تاريخا جديدا    بداري يهنئ الطالبة البطلة دحلب نريمان    المخزن يستخدم الهجرة للضّغط السياسي    تزويد 247 مدرسة ابتدائية بالألواح الرقمية    عنابة تفتتح العرس بروح الوحدة والانتماء    حملة لمكافحة الاستغلال غير القانوني لمواقف السيارات    هدفنا تكوين فريق تنافسي ومشروعنا واحد    إنجاز مشاريع تنموية هامة ببلديات بومرداس    "المادة" في إقامة لوكارنو السينمائية    تحذيرات تُهمَل ومآس تتكرّر    جثمان المخرج سيد علي فطار يوارى الثرى بالجزائر العاصمة    دعوة مفتوحة للمساهمة في مؤلّف جماعي حول يوسف مراحي    شبكة ولائية متخصصة في معالجة القدم السكري    منظمة الصحة العالمية تحذر من انتشار فيروس شيكونغونيا عالميا    وهران: افتتاح معرض الحرمين الدولي للحج والعمرة والسياحة    النمّام الصادق خائن والنمّام الكاذب أشد شرًا    إجراءات إلكترونية جديدة لمتابعة ملفات الاستيراد    استكمال الإطار التنظيمي لتطبيق جهاز الدولة    رموز الاستجابة السريعة ب58 ولاية لجمع الزكاة عبر "بريدي موب"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رئيس الجمهورية: الأمير عبد القادر أدرك جيدا القيم الانسانية في المقاومة
نشر في البلاد أون لاين يوم 17 - 05 - 2016


ترجمة: د. صبري محمد حسن
نشر: مركز الأهرام للنشر

أبرز رئيس الجمهورية, السيد عبد العزيز بوتفليقة, قيم التسامح والانسانية التي ميزت فكر وسيرة الأمير عبد القادر الجزائري, الذي "أدرك جيدا أن لا قيمة للمقاومة حين تخلو من قيم ومبادئ الانسانية".
وأوضح الرئيس بوتفليقة في تقديمه للترجمة العربية لكتاب "صقر الصحراء..عبد القادر والغزو الفرنسي للجزائر" للمؤلف الانجليزي سكاون والفريد بلنت (أنظر النص الكامل للتقديم بموقع واج www.aps.dz), أن الأمير عبد القادر الجزائري "أدرك جيدا أن لا قيمة للمقاومة حين تخلو من قيم ومبادئ إنسانية".
وأضاف رئيس الجمهورية في تقديمه لهذه الترجمة --التي قام بها صبري محمد حسين من مركز الأهرام للنشر-- أنه من خلال استقراء فكر هذه الشخصية "ندرك أن المحبة والإنسانية وقيم التسامح كانت تسبق دائما صليل السيوف ودوي المدافع ولعلعة الرصاص..فاحترمه العدو قبل الصديق, وأحبه البعيد قبل القريب".
وتابع رئيس الدولة بأن "رجلا عظيما مثل الأمير عبد القادر استطاع أن يوجه مشاعر الإنسانية كلها من حالات مختلفة إلى حالة مشتركة تحملنا على حبه والبحث في سيرته ومساراته, عن الإكسير الذي جعل منه قائدا للثورة وقائدا للمحبة ,مشرعا للدولة ومشرعا للإنسانية".
و لدى تطرقه الى الجوانب الانسانية من سيرة هذه الشخصية, لاسيما إطلاقه لسراح عشرات الأسرى, أكد رئيس الدولة أن الأمير عبد القدر"لم يكن رجل حرب بقدر ما كان رجل سلم, ولم يكل حامل سيف بقدر ما كان حامل ورد". وفي هذا المجال ذكر الرئيس بوتفليقة بمواقف هذه الشخصية في دمشق "عندما آوى, وحمى , هو وأهله وذووه, آلاف المسيحيين الفارين من فتنة عام 1860 ",مشددا على أن الأمير "كان يعمل وفق عقيدته السمحة, مخالفا حينها التوجه الديني الضيق, الذي نراه اليوم, ليؤسس لسلوك إنساني أوسع".
وأكد في هذا الجانب على "الحاجة الماسة " إلى هذه المواقف لاسيما في هذه "الظروف التي تعيشها البشرية عموما والعالم العربي". واستطرد رئيس الجمهورية بأنه "بات لزاما على الشعوب التي ترغب في أن تتسم بالنبل وتتصف بالفضل, أن تجعل من الأمير عبد القادر مشتركا إنسانيا بينها وهو القائد العسكري والشاعر الأديب والعالم الفقيه والفيلسوف الصوفي والثائر النبيه الألمعي الذي ما وطئت قدماه أرضا إلا وترك شيئا من روحه فيها".
و أكد في هذا الصدد أنه "لا غرابة, في أن يسبق فكر الأمير عبد القادر البشرية جمعاء في وضع أول قانون إنساني, سبق ظهور الصليب الأحمر بسنوات عدة". وأضاف أن عظمة الأمير "تظهر جلية في المبادئ العامة التي حملها مشروع الدولة الجزائرية" مبرزا أنه "رغم الظروف السياسية التي أحاطت بالأمير والتي لم تكن لتسمح بظهور فكر سياسي استثنائي خارق, إلا أننا نلمح في مشروعه ملامح ومعالم دولة مدنية حديثة ليضعها في منعطف تاريخي غير مسبوق, برؤية حكيمة رزينة متزنة".
وأكد في هذا الشأن بأن "مبادئ الدولة الجزائرية التي تصورها نبعت من رجل سياسي مقاوم ,فيلسوف أديب, مثقف (...) ينبذ الفرقة بين الديانات ويقدم نفسه كرجل حوار". وخلص الرئيس بوتفليقة إلى القول بأن المتمعن في "مسيرة هذا الرجل العظيم, يدرك جيدا قيمة التسامح كحاجة إنسانية ملحة تستحضرها البشرية اليوم وهي تغوص في وحل الكراهية وبؤر التطرف" مبرزا ان التسامح "هو القانون الذي أهمله المشرعون وأعمله الأمير عبد القادر الجزائري وجعل منه دستورا في معاملاته حتى مع المستعمر الفرنسي".
النص الكامل لكلمة الرئيس بوتفليقة
حين طُلبَ مني تصدير الترجمة العربية لهذا المؤلف الموسوم بعنوان "صقر الصحراء.. عبد القادر والغزو الفرنسي للجزائر" لصاحبه الكاتب السياسي والشاعر والمؤرخ والرحالة المغامر سكاون ولفريد بلنت، لم أتردد لحظة في تلبية الطلب، إذ وجتني وأنا أقرأ هذا الكتاب المتميز، أمام عمل يتسق فيه التاريخ والإبداع، وتتناسق فيه الثورة والإيثار.
إن رجلا عظيما مثل الأمير عبد القادر استطاع أن يوجه مشاعر الإنسانية كلها من حالات مختلفة إلى حالة مشتركة تحملنا على حبه والبحث في سيرته ومساراته، عن الإكسير الذي جعل منه قائدا للثورة وقائدا للمحبة.. مشرعا للدولة ومشرعا للإنساني..
حاملا السيف والورد معا ليمنح الأمل للمظلومين المستضعفين، أو كما خاطب الفرنسيين في كبرياء "لاتنسوا أن الإنسان فيه رقة الحرير وصلابة الحديد". فإن التاريخ، قديمه وحديثه، لم تخل فيه حرب واحدة من الحب. وكم كان العالم سينعم بالأمن والاستقرار والازدهار لو لم يتسلل إلى الحب حرف الراء البغيض.
إنه لحري بنا، في هذا المقام، أن نقف متسائلين عن ثورة لعلع فيها الرصاص وصمت فيها الحب، وعن آخر علا فيها صوتهما معا، فالأمير عبد القادر الجزائري أدرك جيدا أن لا قيمة للمقاومة حين تخلو من قيم ومبادئ إنسانية، بل. ونحن نستقرئ فكره، ندرك أن المحبة والإنسانية وقيم التسامح كانت تسبق دائما صليل السيوف ودوي المدافع ولعلعة الرصاص.. فاحترمه العدو قبل الصديق، وأحبه البعيد قبل القريب، وهذه رسالة أحدهم يوصي فيها صديقه بزيارة للأمير في سجنه قائلا: "إنك ستجده معتدلا بسيطا جذابا متواضعا ثابتا لا يشكو أبدا، معتذرا لأعدائه حتى أولئك الذين ما زال يمكن أن يعاني علي أيديهم كثيرا، ولا يسمح أن يُذكروا بسوء في حضوره، ورغم أنه قد يشكو، عن حق، من المسلمين أو المسيحيين فإنهم جميعا يجدون عنده الصفح إذ يلقي تبعة هؤلاء على الظروف، وتبعة أولئك على أمن وشرف الراية التي حاربوا تحتها. إنك في ذهابك لزيارة هذه الشخصية النبيلة السامية ستضيف عملا آخر صالحا إلى أعمالك الأخرى التي أصبحت حياتك متميزة بها".
وحدث مرة أن أبدى أسيران فرنسيان رغتبهما في اعتناق الإسلام ظنا منهما أنه السبيل الوحيد لنيل حريتهما وخوفا على حياتهما، ولما خبر الأمير الغاية من طلبهما طمأنهما على سلامتهما إن بقيا على دينهما، فقد كان يعمل بقوله عز وجل "لا إكراه في الدين". وفي وضع مشابه، أطلق الأمير سراح عشرات الأسرى بعد أن تأكد له عدم قدرته، ومن معه، على ضمان سلامتهم. أضرب هذين المثالين لأؤكد أن هذا الرجل لم يكن رجل حرب بقدر ما كان رجل سلم، ولم يكل حامل سيف بقدر ما كان حامل ورد.
ولم تكن "الزمالة" وحدها عاصمة الأمير المتنقلة. لقد كان قلبه وطنا كبيرا يحمله بين جنبيه أينما حل وارتحل، لذلك لا غرابة في أن يرفض إغراءات نابليون الثالث ويعتذر له عن تيجان الشرف وأوسمة المجد ليطلب الاستقرار بسوريا لأنها، في اعتقادي، البلد الأقرب إلى قلبه الوطن.. ولأن فرنسا لا تشبه أبدا جنة قلبه الخضراء، ولا نضارة وردته الحمراء، ولا صفاء ياسمينته البيضاء.
وعندما آوى، وحمى هناك في دمشق، هو وأهله وذووه، آلاف المسيحيين الفارين من فتنة عام 1860 بالشام، كان يعمل وفق عقيدته السمحة مخالفا حينها التوجه الديني الضيق، الذي نراه اليوم، ليؤسس لسلوك إنساني أوسع، نحن في أمس الحاجة إليه في هذه الظروف التي تعيشها البشرية عموما والعالم العربي خصوصا، فلم يمنعه المشترك الديني بينه وبين المسلمين والدروز من إيواء المسيحيين الذي استجاروا وطلبوا حمايته بحكم ما كان له من مقام ومهابة، ولم يكن يرى المختلف الديني بينه وبين المسحيين سببا لكي يوصد أبوابه في وجوههم، وهو ما دعا الشيخ شامل الدغستاني إلى أن يراسله شاكرا له صنيعه هذا قائلا: "إلى من اشتهر بين الخواص والعوام وامتاز بالمحاسن الكثيرة عن جملة من الأنام، الذي أطفأ نار الفتنة.. واستأصل شجرة العدوان.. المحب المخلص السيد عبد القادر المنصف.. فقد قارع سمعي ما تمجه الأسماع.. سمعت أنك خفضت جناح الرحمة والشفقة لهم وضربت على يد من تعدى حدود الله تعالى.. لذلك رضيت عنك والله تعالى يرضيك.. لأنك أحييت ما قال الرسول العظيم الذي أرسله الله رحمة للعالمين..".ولعل الأمير سبق إعلان حقوق الإنسان بعقود حين رد على أسقف الجزائر وقتذاك السيد بافي وهو يحييه على صنيعه هذا في حق المسيحيين، حين راسله الأمير قائلا:"إن هذا السلوك فرضه الإسلام على أتباعه ويستجيب أيضا إلى حقوق الإنسانية".
وحين اختلفت الآراء وتضاربت المصالح عشية افتتاح قناة السويس 1869 صدح بفتوى جواز افتتاحها وكان من الشخصيات البارزة إلى جنب عظماء العالم في ذلك الحدث العظيم في تاريخ الشقيقة مصر..
لذلك بات لزاما على الشعوب التي ترغب في أن تتسم بالنبل وتتصف بالفضل، أن تجعل من الأمير عبد القادر الجزائري مشتركا إنسانيا بينها وهو القائد العسكري والشاعر الأديب والعالم الفقيه والفيلسوف الصوفي والثائر النبيه الألمعي الذي ما وطئت قدماه أرضا إلا وترك شيئا من روحه فيها. فلا غرابة، إذن، في أن يسبق فكر الأمير عبد القادر البشرية جمعاء في وضع أول قانون إنساني، سبق ظهور الصليب الأحمر بسنوات عدة، ولا أدل على ذلك من شهادة أحد دعاة الاستعمار الفرنسي للجزائر، الذي ذكر في كتابه "نابليون الثالث والأمير عبد القادر" حيث أبان كيف أن أعدادا من الأسرى الفرنسيين القدامى الذين تلقوا علاجا من قبل الأمير، كانوا يأتون من مناطق نائية في اتجاه قصر (بو) وقصر (أمبواز) حيث كان الأمير معتقلا، لتحية من كان المنتصر بالأمس، وكان يقصد الأمير عبد القادر. ولا غرابة أيضا في أن تحمل مدينة بمقاطعة كلايتون الأمريكية اسم "القادر" اعترافا من الأمريكيين بعظمة الأمير عبد القادر.
لقد تأثر مؤسسو هذه المدينة حينها بهذا البطل الشاب الثائر ضد المستعمر الفرنسي، ورأوا فيه صورة من صور جورج واشنطن، أول رئيس للولايات المتحدة الأمريكية، ولم يتوقف انبهارهم بشخصية الأمير عند حدود تسمية المدينة باسمه فحسب، بل وأسسوا متحفا يضم كتبه وسيرته وإجازاته وصوره وبعض التذكارات والمقتنيات الصغيرة التي حصل عليها مسؤولو "بلدة القادر" في إطار توأمة مع بلدية معسكر مسقط رأس الأمير.
وخلافا لما اتفقت أو اختلفت فيه دساتير العالم وقوانين الدول آنذاك، فإن عظمة الأمير عبد القادر تظهر جلية في المبادئ العامة التي حملها مشروع الدولة الجزائرية، ذلك أنه، ورغم الظروف السياسية التي أحاطت بالأمير والتي لم تكن لتسمح بظهور فكر سياسي استثنائي خارق، إلا أننا نلمح في مشروعه ملامح ومعالم دولة مدنية حديثة ليضعها في منعطف تاريخي غير مسبوق، برؤية حكيمة رزينة متزنة، وإن مبادئ الدولة الجزائرية التي تصورها عبد القادر الجزائري، نبعت من رجل سياسي مقاوم فيلسوف أديب مثقف وفقيه يقول وهو ينبذ الفرقة بين الديانات ويقدم نفسه كرجل حوار: "لو كان العالم يسمعني لجعلت من المسلمين والمسيحيين إخوة ولعملنا معا من أجل إرساء السلام في العالم، فالدين واحد باتفاق الأنبياء، إنما اختلفوا في بعض القوانين الجزئية"، وإن الدولة المدنية الحديثة التي قادها كانت تشتغل بحكومة مركزية لها وزارات وبرنامج عمل ومجلس شورى أميري أعضاؤه من العلماء والحكماء يستشيره ويتداول معه شؤون الحرب والسلم.
وهو القائد الحربي الاستراتيجي المقاوم الذي أسس لفلسفة جديدة في المقاومة الشعبية حين نراه يجابه آليات العدو وجحافله الجرارة بحرب العصابات فيقول مخاطبا "جيشه المحمدي" موضحا طريقته في مواجهة العدو: "لا تحاربوا الفرنسيين في جمع كبير، بل اقتصروا على مضايقتهم ومطاردة أجنحتهم، وقطع اتصالاتهم، والوقوع على معداتهم ووسائل نقلهم، والتراجع الخادع، ونصب الكمائن والهجوم المفاجئ، لزرع الارتباك والحيرة والدهشة فيهم".
ولم تكن السماحة والحب والإنسانية لتغفل الأمير عن مواقفه العنيدة الشرسة، وهو يجمع طرف برنوسه ويرفض مساومات المستعمرين في سجنه قائلا: "لو وضعتم كل ثروات فرنسا وملايينها في برنسي هذا لرميتها في أمواج المحيط".
إن شخوص التاريخ ورجالاته في الغالب يبتعدون مع الزمن، يتحولون إلى اسم تؤثث به المعاجم وكتب التاريخ، لكن هذا الحال لا ينطبق على الأمير عبد القادر، لأنه ببساطة مجموعة أفكار وقيم تنمو وتتطور مع مرور الزمن، ولعل حاجة البشرية اليوم إلى حالة "الأمير" صارت ملحة أكثر من أي و قت مضى، ذلك أن أفكاره تحمل قدرة عجيبة على التجدد والتواؤم عبر مختلف العصور والأزمان، وأن الفكرة الأصيلة العميقة المتجددة لا تحدها الجغرافيا ولا التاريخ، إنها تتعدى الحدود المكانية والزمانية.
هذا، وأجدني متفقا مع الكاتب سكاون بلنت، بل متقاطعا معه وهو يستحضر صورة الأمير عبد القادر في عيون أبناء هذا الشعب، وفي أغاني من أرهقهن الظلم والقهر، تلك الأمهات الثكالى والنساء الأرامل وهن يلهجن باسمه لكي يلبي النداء ويخلصهن من الظلم، لقد كانت جداتنا تلجأن إليه صباح مساء وهن يرين بزة الاستعماري الفرنسي تجوب المداشر والقرى والمدن والأرياف، فكان رجاؤهن المباشر بعد الله عز وجل ونبيه الكريم "سيدي عبد القادر" المتماهي روحيا مع القطب الرباني سيدي عبد القادر الجيلاني..
ولم يكن الأمير ليصل إلى هذا المقام المقدس في وجدان الشعب ما لم يكن هذا الشعب على القدر نفسه من الحضور في وجدان الأمير.
إن الذي يتمعن في مسيرة هذا الرجل العظيم، يدرك جيدا قيمة التسامح كحاجة إنسانية ملحة تستحضرها البشرية اليوم وهي تغوص في وحل الكراهية وبؤر التطرف، فالتسامح هو الدواء الذي طالما رغبت عنه البشرية ولا دواء لها غيره، وهو القانون الذي أهمله المشرعون وأعمله الأمير عبد القادر الجزائري وجعل منه دستورا في معاملاته حتى مع المستعمر الفرنسي.. معلما البشرية أن هذه القيمة العظيمة لا تكون بين أفراد الدين الواحد والوطن الواحد فحسب، بل حتى بين الديانات والأوطان لأن الإنسان واحد في نظر الأمير عبد القادر، وإن اختلفت ديانات البشرية ولغات شعوبها وأشكالهم، فإن مشاعرهم واحدة.
واليوم يستعيد العالم بكل أطيافه مسألة الحوار بين الحضارات والثقافات والأديان إدراكا منه أن لا خلاص له إلا في العودة إلى المنبع الذي ارتوى منه الأمير ومن كانوا من طينته، وما أقلهم.
فيا سيدي عبد القادر الجزائري، إن كلاما كثيرا يتزاحم اللحظة على طرف لساني يرغب في أن أخرجه، على هذه الصفحات، من القلب إلى محبيك، لكن ما قرأته في الترجمة العربية الأولى لهذا الكتاب على يد الدكتور صبري حسن، جعلني أرتدي الفخر برنوسا، والعز عمامة، فإن من أعظم مشاعر الاعتزاز بمآثر ورجال تاريخنا الجزائري أن نقرأهم في كتب الآخرين، ونكتشفهم بعيون الأجانب ما يولد حسا جديدا وإحساسا مختلفا بذاتنا الجزائرية والعربية والانسانية.
ولعل ما يحفر في وجداني عميقا هو ما قرأته عن المؤلف بلنت، وهو الكاتب المثير للدهشة، فقد استحكمت فيه "العوربة" بعد زيارته الجزائر، وتخلى عن "الأوربة"التي نشأ على قيمها وثقافتها.. وذلك هو الإنسان الذي لا يمكن له أن يكون إلا منصفا عندما يرى الظلم والقهر.
فشكرا للمترجم الدكتور صبري محمد حسن، وشكرا لمؤسسة "الأهرام" العريقة التي تحتل مكانة محترمة في عالم الصحافة والعلم والمعرفة، على هذا الجهد النافع المثمر، وإن طلبها منا تصدير هذا الكتاب لثقة غالية أعتز بها، وإنني لأتشرف بأن أصدر للقارئ العربي هذا العمل الفريد المتميز عله يجد فيه ما يساعده على فهم شخصية الأمير. وأؤكد لكم مرة أخرى أن حاجتنا إلى البحث في فكر الأمير أكبر من حاجة فكر الأمير إلينا، كونه من طينة الذين يصنعون التاريخ ولا تصنعهم الأحداث.

- عبد العزيز بوتفليقة-
رئيس الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.