قبل فترة، كنت برفقة زميل لي في الجامعة المركزية، نتحدث عن مشكلة المجلات وغيابها في الجزائر. ضحك وهو يستعيد شيئا قديما أصبح اليوم جزءا من الذاكرة: - هل تتذكر مجلة آمال؟ - طبعا. من لا يتذكرها على الأقل ممن ينتسبون إلى جيلنا؟ كان المناخ الثقافي في أواسط الستينيات والسبعينيات محكوما بضوابط ثقافية دنيا. لم يكن كاتبا من يشاء في الشعر والقصة والرواية. كان من يصل إلى أن ينشر في الشعب اليومية أو ملحقها أو ملحق المجاهد أو مجلة الثقافة أو مجلة آمال يعتبر نفسه أنه تخطى عتبة التغاضي عن اسمه. الصرامة كان لها معنى على الأقل بالنسبة لشاب لم يكن يعرفه أحد وكان عليه أن يخط طريقه بجهده. مجلة كان سيدها شاعر كبير وروائي حساس لا يمكنها إلا أن تكون مهمة وجيدة. لم يكن مالك حداد الذي توقف عن كتابة الرواية باللغة الفرنسية شخصية عادية. ظله وحده كان ينبئ بعظمته. وكأني حررت زميلي من ثقل كان يرهقه من الداخل كلما رآني. أو على الأقل هذا ما شعرت به. مرة أخرى لم يستطع كتم ابتسامته ومحاولاته لتوصيل شيء كان يخاف أن يزعجني به. - يبدو أنك لم تفهمني جيدا. - لا فهمتك جيدا. - كنت أريد أن أقول لك أني كنت قارئا ومعلقا في مجلة آمال في نهاية الستينيات والسبعينيات. - هذا يشرفك طبعا. - ليس دائما. هل تدري أني رفضت نشر قصتين قصيرتين لك؟ ، لاحظت وقتها أن الشاب الذي نشرنا له في عدد سابق قصة جميلة مازلت إلى اليوم أتذكر موضوعها الوطني، لم يحافظ على نفس الوتيرة. أتمنى أن لا تكون غاضبا مني. أنا فعلت ذلك بسبب وازع فني لا أكثر. ضحكت هذه المرة بمحبة أكثر لهذا الرجل على الأقل فيما يتعلق بما قاله. كنت سعيدا أن أجد نفسي لأول مرة أمام رجل هو اليوم زميلي، وبمعنى ما من المعاني أستاذي أيضا. أكبرت شجاعته لأننا لا نصادف يوميا من يقول لنا ما يأكل قلبه خفية. نحن نعيش في عش النفاق الذي قليلا ما يخترق أثقاله ليترك المسالك أمام الحقيقة أو جزء منها على الأقل. قلت لزميلي الذي كان في زمن ما قاصا وناقدا أيضا. - ليس مشكلا يا عزيزي. فهو في النهاية رأيك، من حقك أن تتحمس أو لا تتحمس لنص من النصوص. الكتابة الأدبية محكومة في الكثير من طبيعتها بالذوق والنزعة الفردية. كنت أديبا ولم تكن في النهاية رقيبا على النص. - أحيانا أضحك من منطق الدنيا. كنا نظن أنفسنا أننا سادة القصة ولكن اليوم أينك أنت وأيننا منك؟ شعرت بنوع من الخجل. لم أحب تعليقه لأنه أحرجني. لم يستطع أن يخبئ حزنا ارتسم في ملامحه. لم أجد كلماتي لأني في النهاية لم أكن منزعجا من كلامه، بل سعيدا لشيء غامض لا أدري مصدره. ربما للأقدار التي انتقمت لي من أصدقائي وزملائي وبعض أساتذتي، أو ربما من شيء آخر كان من الصعب علي تحديده. قلت لزميلي وأنا أشعر بحرية أكثر في كلامي لأني أحب الناس الذين لا يمرون عبر الطرق الأكثر تعقيدا: - هل تدري ماذا فعل بي تقويمك؟ - لا. لم أفهم. أنا أشكوك مما فعلته فيك وأنت تحدثني عن شيء آخر. - أنا جاد. - ما فهمت والو. المفروض أن تنتفض ضدي. - بعد قرابة نصف قرن؟ صمت طويلا. اشتهيت أن أقول له لست منزعجا منك مطلقا. أنت تتحدث عن أربعين سنة خلت. يا صديقي الأعز. أنا سعيد برأيك. وأنت تعلق على قصصي وقتها، كنتَ تواجه شابا لم ينه سنه الثامن عشر. شاب كان مولعا بالقراءة. قرأ في وقت مبكر الكثير من كلاسيكيات الأدب الفرنسي، والروسي المترجم. قرأ كاتب ياسين بفضل الثانوية في درس اللغة الفرنسية. قرأ كل أعمال جبران والمنفلوطي ويوسف إدريس، وإحسان عبد القدوس، ثم أعمال نجيب محفوظ، التي لم تسعده كثيرا. كان الطفل الذي أمامك، يا صديقي، معاندا لدرجة الجنون، لأنّ ما كان بداخله كان قويا وجارفا مثل موجة عاتية. ربما كان لا اسم يحويه إلا نعت الجنون. عاد زميلي نحوي من جديد ليسألني: - أنت صامت. – لا أبدا. هل تتذكر من قال هذه الجملة في مجلة آمال بعد أن علق نشر القصة بضرورة إعادة قراءتها واختصارها: قصتك جميلة ولكن أسلوبها روائي. تحتاج إلى اختزالها أكثر. قال بدهشة: - كيف لي أن أتذكر. - الذي يقولها قد ينساها، لكن الذي يتلقاها تحفر خندقا في ذاكرته. أنتَ قائلها يا صديقي. هذه الجملة هي التي قادتني نحو الرواية. لأني أدركت في لحظة من اللحظات، وبسحر هذه الجملة، بأن ما كان في داخلي يتجاوز القصة القصيرة. - غريب... لم أكن أعرف ذلك. - هو نفس النقص القصصي، الذي بدل أن أخففه وانزع منه، كما نصحتني، رحت أمدده أكثر لتصبح القصة رواية: جغرافية الأجساد المحروقة. كيف تريديني أن انزعج من رجل وجَّهني نحو حقيقتي الإبداعية: الرواية. - لهذا صمتَّ؟ - ربما لم تسمعني يا صديقي ولكني كنت أتكلم. كنت فقط أتأمل منطق الدنيا التي لا مستحيل فيها ولا شيء سهل يحكمها. الغريب أني بعد سنوات قليلة من ذلك، فزت بجائزة القصة التي كانت تنظمها وزارة التعليم العالي في عهد المرحوم مصطفى كاتب، في قاعة الكابري والنفق الجامعي. وكنت سعيدا لرحلتي إلى العاصمة مرفقا بصديقي الروائي الحبيب السايح الذي كان هو أيضا قد فاز بجائزة القصة، وزينب الأعوج التي تحصلت وقتها على جائزة الشعر. كنت أتساءل كيف خبأتْ لنا الأقدار مفاجآتها الغريبة؟ الأجمل أن الروائي الكبير الطاهر وطار كان هو من قرأ تقرير اللجنة والفائزين. فجأة شعرت بأن الجزائر العاصمة بدأت ترضى عن كتاب الأطراف. عندما نشرت في مجلة آمال عدد 48، روايتي الأولى: جغرافية الأجساد المحروقة أدركت كم كنت محقا عندما دخلت في عناد الكتابة الروائية ضد كل نصائحك. لأني ببساطة كنت أريد أن أكون.