«إنها لفظيعة تلك الأسماء التي أطلقناها على جرائمنا، وقحة ووحشية. أريد أن أفضح هؤلاء الدنيئين الذين ابتكروا هذا: اليربوع، العقيق، غبار الطلع، الإعصار الحلزوني، الولد الصغير». هذا مقطع من رواية «رڤان حبيبتي» لفيكتور مالو سيلفا، منشورات عدن، ترجمة السعيد بوطاجين. العمل الفني إياه يعكس جرأة نادرة في تاريخ الأدب الذي عنى بموضوع التجارب النووية في الجزائر إلى غاية 1966. ورغم أنّ الرواية تؤسس على مسائل فنية بالدرجة الأولى، إلاّ أنها تقدم معلومات مهمة عن التجارب اللعينة التي أجريت تحت الأرض و فوقها وفي الجوّ. ركز الكاتب في نصه، الذي يتراوح ما بين التحقيق والشهادة والسرد الروائي والسيرة الذاتية، على الجريمة التي اقترفتها فرنسا وباركها العالم الحرّ بصمته. تماما كما فعل المستعمر عندما سوّق للتجارب النووية على أنها لا تؤثر على البيئة والإنسان، أو أنها لا تتعدى فكرة ارتقاء فرنسا إلى مصاف الدول الكبرى، دون الإشارة إلى الآثار المدمرة والتشوهات التي ستدوم قرونا، سواء تعلق الأمر بالسكان أو بالسلسلة الغذائية برمتها، أو بالعدوى النووية المخيفة التي ستتجاوز حموديا ورقان والجنوب إلى مناطق بعيدة تكتّمت عنها الحكومات الفرنسية المتعاقبة. النص عبارة عن حالة من الارتباك التي استبدت بالسارد وقد بلغ مرحلة من الضياع والتوتر، حالة من فقدان العلامات للتدليل على أحاسيسه بعد مشاهدة التجارب ومعرفة تأثيراتها المخيفة. إضافة إلى ندمه على الصمت الذي لازمه أعواما، دون أن يجرؤ على تدوين ما عاشه عندما كان في الصحراء محاربا في صفوف الجيش الفرنسي، وشاهدا على الجريمة التي خلّفت أوبئة كثيرة، ومنها تلويث البلد بالإشعاعات، الإعاقات والتشوّهات وارتفاع نسبة السرطان إلى سبعمائة بالمائة، إضافة إلى مشكلة إخفاء العتاد المشع على عمق ينمّ عن استخفاف بحياة السكان. كانت الكتابة، بالنسبة إليه، ضربا من العبث، أمرا غير ذي معنى وقد مرّ وقت طويل على تاريخ الوقائع المؤلمة التي ظلت عالقة بذهنه. ثم... لماذا يكتب؟و لمن؟ وما الفائدة من العودة إلى الأحداث المأساوية بعد سنين؟ ولماذا ينقل ما عاشه في الصحراء عندما كان ضابطا في جيش مكلف بنشر التقدم و المبادئ الإنسانية؟ وبأيّ لغة سينقل الألم؟ هل كان ذلك نوعا من اللاجدوى؟ لكنه، مع ذلك، يغامر من أجل الكشف عن طريقة تفكير المستعمر واستهتاره: «يقول الوزير أو الوزير السابق: إننا نمثل التاريخ، أو شيئا كهذا، ولولانا لما استطاع الآخرون، أولئك الذين لا يجب أن نعتذر لهم مرة ثانية، لأننا فعلنا ذلك مرارا، أن يخرجوا من جهلهم، من خيامهم البدوية، من بيدائهم ومن بؤسهم.كنا حظهم في التاريخ، ليس لنا أن نعتذر، بل عليهم أن يقولوا لنا شكرا». ما بين الحاضر والذاكرة يقف السارد حائرا.كان الحاضر معتما ومزيفا لأنه يجسد الآخر ومفهومه للجريمة التي ارتكب في أدرار وتمنراست، في حين ظلت الذاكرة مليئة بالأسرار التي تخبئ حقائق مخيفة، ومصدرا لإدانة الدعاية التي قدمت التجارب النووية كخطوة حضارية وجب التهليل لها، في حين أنها ليست سوى خراب كبير. الحكاية في رواية رڤان حبيبتي عبارة عن عالم من البؤس والحزن والمحمولات المثيرة التي تستحق قراءات متأنية. كما تعكس، بكثير من الهيبة والوقار، صداما بين العسكري الفرنسي وضميره، وخلافا لما ورد في بعض الكتابات التي فهمت بشكل مغاير، فإنّ هذا الضابط، في واقع الأمر، هو الكاتب نفسه الذي تقمص دور عسكري، وهو أستاذ جامعي، شاعر ومترجم وروائي وعضو في عدة منظمات إنسانية ودولية، ولم يزر الجزائر سوى مرة واحدة، إذ مكث يومين بولاية باتنة، أمّا ما نقله عن التجارب النووية وحياته في الجنوب فلم يكن سوى نتاج متخيل وتوثيق وقراءات. لقد كان الراوي متأزما،كان عليه أن يسكت خدمة لوطنه، للزيف والجريمة، أو أن يكتب لإرضاء ضميره، لأنّ الكتابة ستكون بالضرورة كتابة معادية للنظام وللتاريخ الكاذب، وستكون الحقائق مقلوبة، مقارنة بالحقائق التي تداولها الخطاب الرسمي بخصوص الحرب والتعذيب والكارثة النووية في الجنوب الجزائري المريض. تمثل الكتابة إذن، نوعا من البوح والاعتراف بالذنب لتحقيق التوازن الداخلي. إنها تطهير، ما يشبه الخلاص، منقذ من الإحساس بالعمالة للشر، للتاريخ الكاذب، لحضارة قامت على الابتزاز والإهانات،كما أنها إدانة للذات المتواطئة مع القتلة، للجهل، للتكوين الزائف، للشوفينية الغبيية. لماذا لم نهتم بهذه القضية التي هي قضيتنا جميعا؟..عندما شكرت فيكتور مالو سيلفا على هذا العمل النبيل، وعلى هذه الخدمة الجليلة التي قدمها للإنسان والبلد، قال لي أنا الذي أشكرك لأنك ترجمتها إلى العربية وفتحت لي آفاقا جديدة. أيّ تواضع هذا! هل يجب الاحتفاء بهذه الرواية في زمن الإبداعات التي تخدم الأشخاص وشركات البؤس؟ وفي زمن الأدب المستلب الذي أصبح ذيلا للأنظمة وجماعات الضغط التي توزع الجوائز لخدمة مصالحها؟ أجل. هذا الكاتب يستحق احتفاء خاصا لأنه كان واقعيا وإنسانيا، ولم يتخندق في صف الشرّ. هناك في هذا الكون كتّاب يستحقون هذا التشريف لأنهم أحرار، لأنهم إنسانيون وكبار حقّا. لذلك يجب أن نقيم لهم تماثيل في ضمائرنا. هؤلاء هم إخوتنا الحقيقيون في هذا الكوكب الذي يحتاج إلى أخلاق، وليس إلى جيوش من الكتبة وجوائز مشبوهة تزكي الفساد والوهم.