إن ذكر حقوق الإنسان في سبعة مواضع من ميثاق الأممالمتحدة الذي يعتبره البعض دستور العلاقات الدولية في العصر الحاضر, لا يجعل من هذه الهيئة و آلياتها المختلفة و المنظمات التابعة لها , الحارس الأمين على هذه الحقوق , بعد أن استحوذت القوى العظمى على هذا الملف لاستعماله ورقة ضغط لقضاء مصالحها السياسية والاقتصادية والأمنية و المالية ومساومة وابتزاز خصومها و منافسيها على نفس المصالح ,و على أصحاب الحق فيها , معظم الأحيان . وأصبحت الدواعي الإنسانية و حماية حقوق المدنيين والأقليات ومكافحة الإرهاب , نافذة تتسلل عبرها القوى العظمى من أجل التدخل في شؤون الدول الداخلية الذي يمنعه البند الثاني من ميثاق الأممالمتحدة . ومنذ أن فتح المجتمع الدولي هذه النافذة ,ازدادت انتهاكات حقوق الإنسان في مشارق الأرض و مغاربها و في مقدمتها الحق في الحياة و الأمن و في الغذاء و الإيواء و الدواء و سائر مستلزمات البقاء , و هذا رغم تزايد المنظمات الحقوقية "المستقلة" وغير المستقلة بشكل يفوق عدد الحقوق التي "تطوعت" هذه الهيئات للدفاع عنها و حمايتها , وهي أعجز حتى عن منع قنابل حماة حقوق الإنسان من قصف مقراتها في مناطق النزاعات المسلحة. ومن باب تبادل الخدمات والمنافع, لا تتردد العديد من المنظمات غير الحكومية أن تقوم ببعض المهام القذرة لصالح رعاتها, ومنها العمل تحت غطاء الدفاع عن حقوق فئة, على إشاعة الفوضى التي تهدر حقوق فئات بل وشعوب بكاملها, وليست الأمثلة التي تنقص الباحثين عنها في الجوار وأبعد من الجوار. ولم تنج حتى الدول القوية مثل تركياالصينوروسيا من التوظيف المغرض لملف حقوق الإنسان ضدها و تحريض المنظمات الحقوقية لزعزعة النظام داخلها, في هذا الشأن أعلن مجلس الأمن الروسي منذ أقل من اسبوع عن تزايد عدد جرائم التطرف نتيجة نشاط عدة منظمات غير حكومية أجنبية تسعى إلى زعزعة الوضع في روسيا. وأوضح ألكسندر غربينكين نائب أمين مجلس الأمن الروسي في حديث للصحفيين "أن السبب الثاني لزيادة عدد الجرائم المسجلة يكمن إلى حد بعيد في ترويج أفكار التعصب القومي والديني والعنصرية من خلال شبكة الإنترنت وكذلك في النشاط المضر لمنظمات غير حكومية معينة لا تزال تحاول "زعزعة" الوضع السياسي الاجتماعي في البلاد". وسبق أن أشرنا في موضوع سابق إلى أن أعضاء مجلس الشيوخ الروسي, طلبوا من سلطات بلادهم منع 12 منظمة غير حكومية أجنبية من النشاط داخل الأراضي الروسية. علما أن سبعا (7) من المنظمات المعنية هي إمريكية وتتلقى الدعم المالي من الإدارة الإمريكية , وبعضها يرفع شعار النضال من أجل الديمقراطية في العالم, وبقية المنظمات مرتبطة بأوكرانيا وببولونيا. وأوضح سيناتور روسي ,أن الإجراء يهدف إلى حماية النظام الدستوري لبلاده. علما أن الرئيس فلاديمر بوتين كان بعد عودته إلى منصب الرئاسة, قد أكد أنه سيقف ضد كل محاولات الغرب لزعزعة استقرار روسيا تحت غطاء الدفاع عن حقوق الإنسان. شخصيا اعتبر الخطوة الروسية في غلق الأبواب أمام المنظمات غير الحكومية جاءت متأخرة نسبيا, لا سيما و أن روسيا تملك من الإمكانيات و من الأجهزة الأمنية والاستخباراتية , ما يمكنها من جمع كم هائل من الأدلة القاطعة, على الاسغلال المغرض لهذه المنظمات لإضعاف أنظمة الحكم التي لا ترضخ لإرادة الدول العظمى, وتبدي نوعا من الاستقلالية في تحديد توجهاتها السياسية و خياراتها الاقتصادية التي تخدم مصالحها وتلبي احتياجات شعوبها. وانعكاسات هذا الدور السلبي للمنظمات غير الحكومية لا يحتاج أصلا إلى برهان, ما دامت المآسي التي يعيشها العالم العربي والعديد من الدول الإفريقية, ظاهرة للعيان. تحصين الجبهة الداخلية ضد العابثين الغريب أنه خلافا للعادة , فإن كل التعاليق التي وردت حول الإجراء الذي اتخذته روسيا ضد المنظمات غير الحكومية, كانت مؤيدة للخطوة الروسية, وهو مؤشر على أن جزءا من الرأي العام العالمي بدأ يدرك أن العديد من المنظمات غير الحكومية المرتبطة في معظمها "نشاة وتمويلا , وغطاءا سياسيا وإعلاميا " بالدول الغربية و بإمريكا على وجه الخصوص , قد أصبحت أدوات لاختراق أنظمة الحكم التي تعترض مصالح الدول الراعية لهذه المنظمات, ومن ثم استغلال كل المشاكل والنقائص التي تشكو منها الأنظمة المستهدفة, لتقويضها من الداخل, وبأيدي أبنائها إن واتت الظروف , وإلا فإن خيارات التدخل المباشر تكون دوما جاهزة للتنفيذ وبكافة المبررات المدعومة عند الحاجة بالقرارات الدولية و بالتقارير الجاهزة للمنظمات غير الحكومية بطبيعة الحال . هذا و كانت الجزائر من خلال وزارة الخارجية قد احتجت مرارا على مضمون تقرير وزارة الخارجية الإمريكية حول وضعية حقوق الإنسان في الجزائر, إلا أن مثل هذا الاحتجاج قد لا يغير من الأمر الواقع الذي فرضه التقرير, والذي سيستمر مستقبلا , ما دامت كتابة الدولة للشؤون الخارجية التي أعدته, تستمد معطياتها حول وضع حقوق الإنسان في الجزائر, من نفس المصادر , ومنها المنظمات غير الحكومية ... كما أن أحداث غرداية الدامية لا تخلو من "تخلاط " هذا النوع من المنظمات, التي يضع للأسف بعض أبناء جلدتنا, أنفسهم في خدمتها, وإمكانياتهم تحت تصرفها, بغية الظهور وطلبا لشهرة زائفة ولقب "ناشط حقوقي", وهي التسمية المهذبة لعملاء هذا العصر. ولعل استقالة الدكتورة الأردنية ريما خلف ؛ في مارس الماضي من منصبها كأمينة تنفيذية للجنة الأممالمتحدة الاقتصادية و الاجتماعية لغرب آسيا"الإسكوا" لرفضها الضغوط التي مورست عليها لسحب التقرير الذي أصدرته لجنتها و الذي يؤكد علميا و حسب معايير القانون الدولي , أن الكيان الصهيوني قد أقام نظام فصل عنصري (أبارتايد) يهدف إلى تسلط جماعة عرقية على أخرى ؛ لعل في هذه الاستقالة ؛ لدليل إضافي لمن يحتاج إليه. إذ مرة أخرى كانت الضغوط و التهديدات المسلطة على المنظمة الأممية وأمينها العام من منتهكي حقوق الإنسان والشعوب, لغض الطرف عن ممارساتهم, أقوى من أن تحتمل. وتم سحب التقرير الذي يدين الكيان العنصري, دون أن تحرك بقية المنظمات الحقوقية ساكنا. لتبقى استقالة الدكتورة الأردنية "صفعة للعدالة الدولية و خسارة للعمل الحقوقي " كما وصفها المرصد الأورومتوسطي .